كيف تحولت غزة إلى وطن كبير؟!

عبد الرحمن السيد

لو سمحت هل لديك حلم؟
الآن! أود أن تتوقف إسرائيل عن قصف غزة!
هكذا يجيب عامل نظافة في بريطانيا على مؤثر يسأل الناس عن أحلامهم ويحاول أن يحققها لهم، وأول شيء يأتي على رأس هذا الرجل هو وقف الحرب على غزة، وحينما تعجب المؤثر وحاول أن يفهم سبب تلك الأمنية قال الرجل “هذا الأمر يدور في ذهني كثيرا بسبب كمية الظلم التي تحدث” وأضاف مصمما “هذا رأيي”.

هل يمكن أن نعتبر هذا الرجل -عامل النظافة الإنجليزي- الذي يسير مهموما بما يحدث في غزة وحلمه الوحيد أن تتوقف الحرب، من وجهة نظر سوسيولوجية مواطنا فلسطينيًا؟!

المجتمعات الحديثة سواء كانت عربية أو غربية تخفت فيها المواطنة شيئا فشيئا، تموت بشكل بطيء وتحتضر، وتختلف أسباب اختفاء المواطنة في المجتمعات العربية عن الغربية

الفرق ما بين الفرد والمواطن
يقول السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل(1805-1859): “الفرد ألد أعداء المواطن”

فالمواطن هو شخص مهموم بقضايا عامة تتخطى ذاته، فهو يبحث عن رفاهيته في رفاهية الوطن، ويفتقد أمانه الشخصي حينما يتعرض وطنه للخطر حتى وإن لم يكن يسكنه، أما الفرد هو كائن يتمحور حول ذاته، يميل إلى اللامبالاة والشك والريبة في أي قضية مشتركة، ولا تعنيه المصلحة العامة، ويبدو مجرد الحديث عنها مثيرا لغثيانه، وفي عالمنا الحديث يتكون المجتمع من أفراد لا مواطنين، فعالم ما بعد الحداثة ينتج إنسان مهموم بذاته فقط، يسعى بجنون لتحقيق تلك الذات، أو يسعى خلف وهم تحقيق الذات، فلا يعنيه وطن أو قضية، ولا يلتفت لينظر أبعد من ذاته الضيقة التي تضيق الخناق عليه، فذلك التمحور حول الذات يضخم المآسي الشخصية ويصبح من الصعب تخطيها، فيعيش الإنسان حياة يومية مضنية مركزها نفسه وفقط.

والمجتمعات الحديثة سواء كانت عربية أو غربية تخفت فيها المواطنة شيئا فشيئا، تموت بشكل بطيء وتحتضر، وتختلف أسباب اختفاء المواطنة في المجتمعات العربية عن الغربية، ربما لهذا حديث آخر.

ولكن السبب الرئيس في تلاشي المواطنة في صالح الفردية، هو حصار الإنسان بهمومه الشخصية، فلا يتاح له الوقت ليفكر أبعد من ذاته، فيترك القرار الوطني لأحد آخر غيره، يختار له، وعلى الأغلب هذا الآخر يختار ما فيه مكسب وثراء شخصي ولا يهمه أفراد الوطن.

تلك البقعة الصغيرة للغاية، استطاعت أن تحدث ثورة سوسيولجية، لم يتنبأ بها أكثر علماء الاجتماع تفاؤلا، فهذا الالتفاف الجماهيري، والوعي الجمعي بالقضية الفلسطينية، عربيا وغربيا، إنما ينتزع الأفراد من الالتفاف حول ذاتهم

الوعي صانعا الانتماء
جاء طوفان الأقصى وبداية الحرب على غزة، تلك الحرب الظالمة التي هزت العالم اجتماعيا، كما هزته على كافة الأصعدة، ليُغير الفكر الجمعي لدى الناس، وتخطى هذا الطوفان المنطقة العربية، فلأول مرة يلتفت عامة الناس في مختلف الشعوب حول القضية الفلسطينية بهذا الشكل، وإذا ما ذكرنا سابقا أن من شروط المواطنة أن يهتم الإنسان بقضية عامة تتخطى ذاته، وإذا ما كانت تلك القضية هي القضية الفلسطينية، وما يحدث في غزة من ظلم وبهتان، إذن يمكننا مجازا ومن وجهة نظر سوسيولوجية، التأكيد أن غزة تحولت لوطن للجميع.

فتلك البقعة الصغيرة للغاية، استطاعت أن تحدث ثورة سوسيولجية، لم يتنبأ بها أكثر علماء الاجتماع تفاؤلا، فهذا الالتفاف الجماهيري، والوعي الجمعي بالقضية الفلسطينية، عربيا وغربيا، إنما ينتزع الأفراد من الالتفاف حول ذاتهم، ويغمرهم بالاهتمام بأعدل قضايا العصر، وهي القضية الفلسطينية، وهذا الوعي يصنع الانتماء، فيزداد انتماء الناس لفلسطين كلما زاد وعيهم بما يقع من ظلم على هذه الأرض، فحينما نرى مواطن ألماني في مظاهرة ضد الاحتلال يمزق جواز سفره الألماني اعتراضا على سياسة بلده الداعمة لإسرائيل، ويطالب بانهاء الاحتلال، إنما نرى أمامنا صحوة اجتماعية، تقلص من مساحة الفرد وتزيد من مساحة الاهتمام بالقضايا المشتركة، فما يحدث من التفاف جماهيري حول القضية الفلسطينية إنما يقلل من سطوة التفريد الذي تعاني منه كل المجتمعات الحديثة.

أليس هذا الرجل الألماني يتحول بفعله واهتمامه من كونه مجرد فرد في مجتمع ألمانيا الحداثي، إلى مواطن فلسطيني تهمه القضية الفلسطينية ويؤرقه الظلم الذي تتعرض له؟!

الصمود الأسطوري لأهل غزة، إنما يثبت للعالم أن الإنسان يجب أن تكون له مرجعية ثابتة، هوية حقيقية لا تتغير بتغير الزمن، وهذه الهوية الحقيقية تكون له النماذج الذي يعود إليها ليقتدي بها في الشدائد.

صمود غزة إثبات للزيف المجتمعات الحديثة
تقوم المجتمعات ما بعد الحداثية على أساس الامتلاك والحصد، فالإنسان الحديث ليحقق ذاته ويحصد احترام الآخرين يجب أن يمتلك عملا مرموقا ومكانة اجتماعية ومنزل فخم، وسيارة فارهة غير عادية، هنا تتحول هوية الإنسان من كونها هوية ترتبط بأشياء ثابتة لا تتغير بمرور الزمن مثل الدين والأرض واللغة والتراث التاريخي، إلى أشياء متغيرة، يمكن أن تشتريها فتمتلكها لبرهة مؤقتة وتخسرها مع مرور الزمن، فتخسر بخسرانها هويتك ومعنى حياتك كلها، وهو ما يسبب البؤس في الحياة الحديثة.

يخرج المواطن الغزاوي معفرا من تحت الركام ليعطي للعالم أجمع درسا، فهو يخرج شامخ الرأس يحمد الله، رغم أنه خسر كل مسببات الحياة الحديثة، من مال وبيت وبعض من أهله أو كلهم، إلا أنه يرتبط بشيء ثابت قوي، يتخطى ذاته، فيكبر بهذا الإيمان على كل الآلام الدنيوية.

هذا الصمود الأسطوري لأهل غزة، إنما يثبت للعالم أن الإنسان يجب أن تكون له مرجعية ثابتة، هوية حقيقية لا تتغير بتغير الزمن، وهذه الهوية الحقيقية تكون له النماذج الذي يعود إليها ليقتدي بها في الشدائد.

فالمجتمعات الحديثة المبنية على حب الذات، وامتلاك المادة، والاستعراض، وتعريف الإنسان بما يمتلك من مادة، إنما هو مجتمع زائف وزائل، ترجفه أصغر المشكلات وتؤثر على يقينه وجدوى حياته، فيصبح هذا المجتمع متعثر، لا يسكن لأفراده روع ولا يقر لهم قرار.

ولهذا ذهل العالم من هذا الصمود الأسطوري، وتحول ذهولهم إلى السؤال: كيف يصمد هؤلاء أمام كل هذا الدمار والبؤس الهائلين ونحن ننهار إذا تعثرنا في الطريق بورقة شجر؟ وانطلاقا من هذا السؤال تبدء رحلة اكتشاف زيف المجتمعات الحديثة وهشاشتها وتأثيرها على الإنسان نفسيا وجسديا.

لذلك لا عجب في أن تصبح غزة وطنا للجميع؛ لكل أولائك الذين انتموا لقضيتها رغم أنهم كانوا قبل ذلك أفرادا لا تشغلهم قضايا أوطانهم العامة أو المشتركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاهد أيضاً

الشباب.. صوت التغيير في عالم الظلام

لماذا يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية أميركا وأوروبا، بينما يخيم سكون مدهش بين شعوبنا وشباب منطقتنا الأقرب رحما ودينا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *