الحروفية.. حاولوا استمالة السلطان محمد الفاتح وكشفهم الشيخ العجمي

محمد شعبان

قُبيل انهيار الخلافة العباسية على يد التتار، كانت إيران تحوي أهم قلاع الشيعة الإسماعيلية في الألموت وغيرها، التي بُدئ بتأسيسها قبل ذلك بقرنين على يد الحسن الصبّاح، ذلك الداعي الإسماعيلي الذي آمن بحق نزار ابن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في الإمامة. ومن ثم عمل النزارية الذين اشتهروا فيما بعد باسم الحشاشين والباطنية على جعل الإمامة في نزار وذريته، لا سيَّما في بلاد فارس وإيران، ثم امتدت دعوتهم إلى الهند فيما بعد. ولقد افترقوا إلى العديد من الفرق مثل القرامطة والبُهرة وغيرهم، كما حاولوا أن ينشروا دعوتهم عبر التحالف مع دولة فتية تنصر مذهبهم، وخصوصا بعد قضاء المغول على وجودهم في قلاع فارس.

لهذا السبب حاول الإسماعيلية اختراق العديد من الدول مثل التيمورية في فارس وأذربيجان، وبعض الإمارات التركمانية في الأناضول، وأخيرا الدولة العثمانية بعدما احتضن السلطان محمد الفاتح جماعة منهم في قصره بمدينة أدرنة قبل فتح القسطنطينية بعشرة أعوام، بل وكاد يؤمن بعقيدتهم وأفكارهم لولا أن القدر لعب دوره في الحيلولة دون ذلك كما سنرى بعد قليل.

نشأة الحروفية
يختلف الإسماعيليون عن الشيعة الجعفرية الإثناعشرية في العديد من الأمور، على رأسها أن الجعفرية يؤمنون بانتقال الإمامة بعد وفاة الإمام “جعفر الصادق” إلى ولده “موسى الكاظم” بالنصّ ثم إلى بقية الأئمة من بعده حتى الإمام الثاني عشر المهدي الغائب بحسب اعتقادهم، ولهذا يقفون عنده، ويتسمُّون باسم أئمتهم. أما الإسماعيلية فيرون أن الإمامة انتقلت بعد وفاة جعفر الصادق إلى ولده الأكبر إسماعيل ثم إلى ابنه “محمد المكتوم”، ومن بعده “جعفر المصدق” ثم “محمد الحبيب” ثم “عبد الله المهدي” مؤسس الدولة الفاطمية، وقد انقسم هؤلاء إلى نزارية ومستعلية.

وتسمى هذه الفرقة بالباطنية لأنها ترى أن للقرآن تفسيرا ظاهرا يعلمه العامة، وآخر باطنا لا يعلمه إلا خواص الإسماعيلية، ويرى الشيخ محمد أبو زهرة أن الإسماعيلية “انشعبت منها فرق مختلفة وبعضها خرج بآرائه عن الإسلام كالحاكمية الذين يعتقدون في حلول الإله في الإمام، ولا تزال تطلع على بقايا من هذه النِّحَل الخارجة عن الإسلام في أفريقيا وبعض بلاد باكستان والهند”[1].

لقد قضى هولاكو والمغول على وجود الإسماعيلية النزارية وأبادوهم في قلاع الألموت وبلاد فارس، وقام السلطان الظاهر بيبرس بالأمر نفسه في بلاد الشام في أثناء النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. ثم خرجت مِن رحمهم العديد من الحركات التي عملت على إعادة بعث مذهبهم في فارس وجنوب القوقاز والأناضول قبل ظهور الدولة الصفوية التي فرضت المذهب الشيعي الجعفري بحد السيف في إيران وأذربيجان، وكانت الفرقة الحروفية من جملة هذه الفرق التي ظهرت في إبان النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي.

اشتقّت هذه الفرقة عقائدها من مذاهب الإسماعيلية الفارسية مع مسحة صوفية، وتأسست على يد شخص اسمه “فضل الله الأسترابادي”، الذي بدأ حياته صوفيا إسماعيليا متجولا في فارس ثم قرر الحج، وبعد ذلك زعم أنه رأى عدة رؤى وإشارات على معرفته بالتعبير والغيب وأدرك في نفسه أنه “مختار لأداء مهمة كبرى”، ومن ثم شهد -على ما يزعم- ظهور الكبرياء أو التجسيد الإلهي فيه كما يُسميه. ولذا فإن عقيدته تمُت لعقيدة الحلول والاتحاد بصلة كبيرة، حيث ترى تجسُّد الإله في البشر، وفوق ذلك آمن أن للحروف معاني وأسرارا باطنية لا يعلمها إلا مَن أوتي تأويلها مثله. ويرى الأسترابادي وأتباعه من بعده أن الحروف الفارسية وعددها 32 تستوعب الكون وأسراره.

استغل فضل الله الأسترابادي معرفته بتأويل الرؤى كما رأينا، وشخصيته الجاذبة، وشُهرته بين الناس في نشر مذهبه الفكري الجديد في بلاد فارس وأذربيجان التي كان يحكمها تيمورلنك وأبناؤه. (مواقع التواصل الاجتماعي)
بمعنى آخر تدَّعي الفرقة الحروفية أن الحقائق مخفية في الحروف، وتحاول فك جميع الظواهر في الكون بناء على الحروف وربطها بقيمتها العددية وأسرارها، فكل حرف من الحروف الأبجدية له قيمة عددية، وأسرار لا تتأتى لأي أحد، والأمر يشبه فكرة حساب الجُمّل عند العرب، لكنه يرتبط بمعانٍ باطنية تستهدف ما وراء الحروف. وعلى هذا شرعوا في تفسير القرآن الكريم بناء على القيم العددية لكل حرف وانعكاساتها على أرض الواقع، بل راح فضل الله الأسترابادي يقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وعليا أول الأولياء وآخرهم الحسن العسكري، وإنه هو نفسه تجسيد للإله، وإنه المهدي الذي تجسدت فيه النبوة والولاية والألوهية.

وسبب ذلك -في زعمه- أن كلمة “فضل الله” تساوي بحروف الجُمّل العربية الرقم 800، فاستنبط من ذلك إشارة دالة على كونه مُجدِّد القرن التاسع الهجري، وأن الحروف الفارسية (32 حرفا) تُكمِل الحروف العربية التي يبلغ عددها 28 فقط، بمعنى أنها تتمها وتفصلها وتفسرها. [2].

استغل فضل الله معرفته بتأويل الرؤى كما رأينا، وشخصيته الجاذبة، وشُهرته بين الناس في نشر مذهبه الفكري الجديد في بلاد فارس وأذربيجان التي كان يحكمها تيمورلنك وأبناؤه. وكانت دعوته تقوم على أنه خليفة الله مثل آدم وعيسى ومحمد، اجتمعت فيه الصوفية والتشيع لإنقاذ العالم بالسيف “فكان مهديا وختما للأولياء ونبيا وإلها في وقت واحد” على حدِّ زعمه. ولما انتشرت دعوته بين الناس وسمع بها أهل السُّنة الذين ساءهم هذا التعدِّي والانحراف الفكري والعقدي ثاروا ضده، وطالبوا بعقد محاكمة له، فهرب من تيمورلنك إلى ابنه ميران حاكم أذربيجان وكان يظن أنه ينصره ويؤيده، لكن “ميران بن تيمور” عقد محاكمة له أسفرت عن إنزال عقوبة الإعدام فيه عام 796هـ، وقيل عام 804هـ/1401م[3].

انتشار رغم الملاحقة
غير أن الحروفية لم تمت بموت الأسترابادي، وإنما حملها من بعده ثمانية رجال واحد من بعد آخر، أولهم ابنه نور الله ثم تلميذه “علي الأعلى”، ثم الشاعر المعروف “عماد الدين نسيمي” وآخرون. ونظرا للملاحقة الكبيرة التي جرت لأتباع هذه الفرقة في فارس والعراق وأذربيجان، هرب “علي الأعلى” إلى الأناضول في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وكانت تنقسمُ إلى دويلات متنافسة والدولة العثمانية في مرحلة توسُّعها فضلا عن دولة المماليك في الجنوب.

ورغم هذا التشرذم التركي-التركي، كانت الحركة الصوفية البكتاشية ذات جذور في الأرض منذ عقود، وقد مكث علي الأعلى بين دراويشها وصوفيتها واختلط بهم، وأخذ يُدرِّس تعاليم أستاذه الأسترابادي سِرًّا بين الفرق الصوفية البكتاشية والملامية البيرامية والقزل باش وغيرهم، بل وثبت أن نور الله، ابن فضل الله، جاء إلى الأناضول فترة من الزمان وأخذ هو الآخر يدعو سِرًّا إلى مذهب الحروفيين، لكن حين اكتُشف أمره في مدينة بتليس جنوب الأناضول سُجن لفترة من الزمن[4].

في تلك الأثناء كان السلطان العثماني بايزيد الأول، الذي بزغ نجمه آنذاك بسبب انتصاراته المتوالية على البيزنطيين، قد تفاجأ بهجوم تيمورلنك على الأناضول، ووقعت بين الفريقين معركة أنقرة الشهيرة عام 804هـ حين انهزم السلطان العثماني ودخل العثمانيون من بعده في مرحلة الحرب الأهلية للظفر بالعرش بين أبنائه، وهي مرحلة عُرفت في التاريخ العثماني بـ”عهد الفترة”. وفي أثناء هذا الاختلال الأمني استغلت الحركات المنحرفة مثل المهدوية والمسيحانية والحروفية الأحداث وبدأت بالدعوة إلى عقائدها بصورة واسعة، لكنَّ الحروفيين كانوا قد تعلَّموا من أخطائهم التي ارتكبوها في إيران وأذربيجان وحلب حين أعلنوا عن عقائدهم جهرا، ثم تسبَّب ذلك في مقتل أهم زعمائهم الأسترابادي ونسيمي، ولهذا السبب شرعوا يذوبون في الفرق التي كانت تدعو إلى وحدة الوجود والقائلين إن للحروف أسرارا، وهي فرق وإن تشابهت مع الحروفية في بعض الأمور لكنها اختلفت عنهم في تصورهم الكامل حول العقائد والإسلام وادعاء الألوهية لزعيمهم الأسترابادي.

الشيخ فخر الدين العجمي ينقذ السلطان الفاتح
لم يمر نصف قرن على إعدام الأسترابادي حتى انتشرت الحركة الحروفية بين قطاعات كبيرة من أهل الأناضول، بل وانتقلت إلى الرومللي والبلقان. ولم يكن هذا الانتشار بفضل خلفاء فضل الله و”علي الأعلى” من الناطقين بالفارسية فحسب، بل كان لـ”عماد الدين نسيمي” الشاعر الشهير الفضل الأكبر في كتابة الشعر الذي لخَّص أفكار الحروفية باللغة التركية، وأثَّر شعره تأثيرا ضخما في قطاعات واسعة من عامة الأتراك وخاصتهم ممن أحبوا الشعر الصوفي منذ جلال الدين الرومي. ومن بعده جاء تلميذه ومريده “رفيعي” الذي سار على درب أستاذه، ثم أكد “فرشته أوغلي” جهود سابقيه من الحروفية بترجمة مؤلفات الأسترابادي من الفارسية إلى التركية، كل ذلك أدى إلى توسع لافت لأفكار الحروفية بين قطاعات كبيرة من الأتراك[5].

ولئن تمكن الحروفية من نشر مذهبهم بين كثير من عامة الأتراك في الأناضول وبلغوا حتى الروملي والبلقان، فإنهم منذ زمن الأسترابادي كانوا يعلمون أن أي مذهب فكري يحتاج إلى الدعم السياسي ليتمكن في الأرض وينتقل من الخفاء إلى العلن. ولذا عملوا على التقارب مع كثير من الدول الحاكمة آنذاك لعلهم يتمكنوا من اختراقها وتسخيرها لأهدافهم، مثل محاولة فضل الله التقرب من الحكومة الجلائرية التي كانت تحكم العراق وإيران، ونجاحهم في جعل أمير تركماني في وسط الأناضول هو الأمير نصر الدين يتبنى مذهبهم، ثم تطلَّعوا لاستمالة الشاب الذي فتح القسطنطينية فيما بعد، السلطان محمد الفاتح، لمذهبهم لما شعروا بميله إلى أفكارهم؛ استغلالا لصغر سنه الذي كان في حدود الثانية عشرة حينذاك إبان سلطنته الأولى في حياة والده.

يذكر “طاشْكُبري زاده” في كتابه “الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية” تفاصيل هذه الواقعة، فيقول إن السلطان الفاتح وهو لما يزل في حياة والده السلطان مراد في العاصمة أدرنة قبل أن تُفتح القسطنطينية قد مال إلى هؤلاء الحروفية، بل وخصص لهم مكانا في قصره “دار السعادة” ليزيد من اجتماعه بهم، وقد لاحظ الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) محمود باشا اقتراب السلطان الشاب من هذه الجماعة الخطرة، وعلم أنه إن نصح السلطان بصورة مباشرة ربما انقلبت نصيحته ضده، وكان ضررها أكبر من نفعها، فاهتدى إلى فكرة أخرى، وهي طلب المساعدة من أحد كبار علماء أدرنة، ومدرس جامع الشُّرفات الثلاث الشيخ “فخر الدين العجمي”. وقد رتَّب الصدر الأعظم لقاءً مع أحد كبار رجالات الحروفية في بيته يوهمه أنه يريدُ معرفة أفكار هذه الفرقة ومعتقداتها وأهدافها.

وبينما استمع الصدر الأعظم من ذلك الرجل الذي تزعَّم الحروفية في الدولة العثمانية وقتذاك، وقد آواه السلطان محمد الفاتح في قصره “دار السعادة”، كان الشيخ “فخر الدين العجمي” يسمعه هو الآخر من وراء حجاب، وهنا نترك طاشكبري زاده يتكلم قائلا: “دعا محمود باشا ذلك الملحد إلى بيته وأظهر أنه مال إلى مذهبهم، فتكلَّم الملحد جميع قواعدهم الباطلة، والمولى المذكور الشيخ فخر الدين العجمي يسمع كلامه حتى أدَّت مقالته إلى القول بالحلول (تجسُّد الله وحلوله في المخلوقات والبشر)، وعند ذلك لم يصبر المولى المذكور حتى ظهر من مكانه وسبَّ الملحد بالغضب والشِّدَّة، فهرب الملحد إلى دار السعادة، والمولى المذكور خلفه.. ثم أتى (المولى) الجامع الجديد بأدرنة فأذَّن المؤذنون، واجتمع الناسُ في الجامع، وصعد المولى المنبر، وبيَّنَ مذاهبهم الباطلة، وحكم بكفرهم وزندقتهم”[6].

كان ما قام به الشيخ “فخر الدين العجمي” نقطة فاصلة في تاريخ الدولة العثمانية، فحين كشف العجمي عن عقائد وأهداف الفرقة الحروفية للسلطان ولعامة الناس، وجهر بخطورتها على الشريعة الإسلامية، ما انفك العثمانيون طوال القرن السادس عشر وعلى رأسهم السلطان محمد الفاتح يستأصلون وجودهم من الدولة العثمانية بالكلية.

___________________________________________

المصادر

[1] محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، ص 266.
[2] كامل الشيبي: الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر، ص 211- 215.
[3] الشيبي: السابق ص 182.
[4] Ömer tecimer, Hurufilik s.129.
[5] Ömer tecimer, a.g.e, s130-139.
[6] طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، ص 38، 39.
المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.