خيانات من التاريخ الإسلامي

الـقــدس

وقع في سنة 1229م حدثٌ غريب تمثل بتسليم جزء كبير من مملكة بيت المقدس، التي حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187م إلى الصليبيين، وفق معاهدة يافا التي عُقدت ما بين الملك الكامل والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني الذي قاد الحملة الصليبية السادسة. والتي تميزت بضئالة الأعداد المشاركة، وعدم تأييد البابوية كما ذكر أ.د محمد سهيل.
استلم الملك الكامل حكم مصر بعد وفاة والده الملك العادل بن أيوب، وهو أخو صلاح الدين، والذي شاركه تحرير بيت المقدس. وقام الكامل بقيادة حملة الدفاع ضد الصليبيين في الحملة الصليبية الخامسة 1217-1221م في مصر، وانتهت بجلاء الصليبيين. استمرت الخلافات بين الأمراء الأيوبيين،
فقام الصالح إسماعيل بالتحالف مع الصليبيين ووعدهم بإعطائهم بيت المقدس وفي هذا الوقت قد بدأ جنكيز خان بحملاته ضد الشرق، مما جعل الكامل يفكر بالتهديد المغولي القادم، وكذلك خلافه مع أخيه المعظم عيسى حاكم دمشق والأشرف موسى حاكم إقليم الجزيرة الفراتية.
تزامن هذه الأوضاع جعلت الكامل يطلب من فريديك الثاني، الإمبراطور الألماني، القدوم وتسلميه ما حرره صلاح الدين شرط أن يسانده ضد المعظم عيسى. ويمكن القول إن هذه الصراعات الداخلية التي تلافاها أصحابها في الحرب الصليبية الخامسة عادت بعد انتهائها.
جاء فريديك الثاني ونزل في عكا،
وطلب من الكامل إيفاءه العهد بتسليم بيت المقدس، لكن الكامل رفض، نظرا لوفاة أخيه المعظم عيسى، وطلب من سفيره فخر الدين يوسف بن الشيخ بإطالة أمد المفاوضات والمساومات، وقد أدى استلام الناصر داوود بن المعظم عيسى الحكم في دمشق، ونيات جلال الدين الخوارزمي التوسع في الغرب (بلاد الشام ومصر) ووجود الصليبيين بعد أن أتمَّ فريديك الثاني تحصيناته في يافا، إلى زيادة مخاوف الملك الكامل مما دفعه إلى توقيع اتفاقية يافا تضمن تسليم الإمبراطور الألماني: مدينة القدس وبيت لحم وشريط ضيق من الأرض ينتهي إلى يافا، إضافة إلى مدينة الناصرة ومدن أخرى! مع مزايا إضافية، هذه الشروط رفضها المسلمون والصليبيون على السواء، رفضها المسلمون إذ هي عار أن تسلم مدينة سفكت الدماء لأجلها ببساطة، ورفضها الصليبيون كون فريديك الثاني لم تؤيده البابوية ولأن المسلمون سيحتفظون بالمسجد الأقصى،
إذ كانت المعاهدة تنص على اقتسام مملكة بيت المقدس بين الاثنين.
دخل فريديك الثاني مدينة القدس في سنة 1229م ولم يكن في مدينة القدس سوى عساكر من الألمان والإيطاليين وبعض الأساقفة، وتسلم مفاتيح المدينة من قبل القاضي شمس الدين، قاضي نابلس، نيابة عن الملك الكامل، وكانت المدينة خالية من المسيحيين والمسلمين الذين هجروها، وتوج نفسه في موكب صغير في اليوم التالي ملكا بعد أن رفض القساوسة تتويج ملك محروم،
نظرا لموقف البابا والكنيسة الرومانية منه. وقد زاد الكامل الطين بلة حين طلب عدم رفع الأذان في المدينة أثناء وجود الإمبراطور احتراما له!
الأمر الذي أثار استياء المسلمين وحتى فريديك الثاني نفسه لسخرية القدر، إذ يروي المقريزي أن فريديك الثاني قال لشمس الدين: “أخطأ فيما فعل، والله إنه كان أكبر غرضي المبيت في القدس وأن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل”.
غادر بعدها فريديك الثاني نحو قبرص نظرا النزاعات التي حدثت في أوروبا وقتها. بقيت مملكة بيت المقدس قانونيا في الأقل تابعة للإمبراطورية الرومانية ، لكنها لم تلقَ اهتمام الملوك ولم يمكث فيها أحدهم.
وقد تحدث إبن الأثير عن تلك الصفقة وأثرها في نفوس المسلمين فقال:”وتسلّم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه، يسّر الله فتحه وعودته إلى بلاد المسلمين” وتبعه سبط بن الجوزي في تصوير الحدث في “مرآة الزمان” فقال:”ووصتلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث أنه أقيمت المآتم، فيا خجلة ملوك المسلمين”.
إسترد السلطان داود إبن المعظم القدس من الصليبيين سنة 1239م لكنه كنايةً في إبن عمه الصالح أيوب عاد فسلّمها للصليبيين مرةً أخرى في نفس العام!
كان الخوارزميون في الشرق قوة يمكن الاستعانة بها، ونتيجة لتحالف الصليبيين مع الصالح إسماعيل دعا الصالح أيوب الخوارزميين وتحالف معهم وعبر عشرة آلاف مقاتل إلى بلاد الشام وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه عام 1244م وبهذا ضم الصالح أيوب بيت المقدس لملكه ولملك المسلمين من جديد، وبقي بيت المقدس تحت سيطرة المسلمين .
ولم يدخله جيش صليبي حتى عام 1914م..

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.