بيرل هاربر الأوكراني هل يؤذن بحرب عالمية ثالثة؟

ياسر عبدالعزيز

صور أقمار صناعية ترصد آثار الدمار الذي لحق بجسر كيرتش في شبه جزيرة القرم روسيا – وكالة سند: نشرت شركة “مكسار” نشرت شركة “مكسار” صور أقمار صناعية التقطت أمس السبت توثق حجم الدمار جراء قصف الجسر الرابط بين شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من أوكرانيا والبر الروسي. وتظهر الصور انهيار قاع الطريق على خط واحد للمركبات واشتعال النيران في خزانات الوقود للقطار على خط السكة الحديد الموازية للجسر. المصدر: MAXAR
صور أقمار صناعية ترصد آثار الدمار الذي لحق بجسر كيرتش في شبه جزيرة القرم (مكسار)
صباح الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت سلطات القرم الموالية لروسيا توقف الحركة على جسر القرم بسبب احتراق صهريج للوقود، قبل أن يتبين لاحقا أن الحادث ناتج عن تفجير شاحنة مفخخة على واحد من أهم الشرايين الإستراتيجية التي تربط شبه الجزيرة بمحيطها الخارجي باتجاه روسيا.

جسر كيرتش الذي ولد من رحم التحدي
جسر القرم -أو جسر كيرتش، نسبة إلى المضيق الذي يمر فوقه- يربط بين جزيرة القرم ومقاطعة كراسنودار كراي الروسية. الجسر بني بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2018، وأطلق عليه الروس اسم مشروع القرن بعد أن قطعت أوكرانيا كل الطرق البرية مع القرم، وهو عبارة عن زوج من الطرق، أحدهما للسيارات والآخر للقطارات، وتبلغ مسافته 19 كلم. وبعد بنائه، قاد بوتين أول شاحنة على الجسر إعلانا للتحدي وتأكيدا على روسية شبه الجزيرة، وهو ما جعله الجسر الأطول في أوروبا الرابط بين روسيا والإقليم المنضم في 2018.

أما بالنسبة لأوكرانيا، فعُد الجسر رمزا لتوغل روسيا ضمن مساعيها لفصل الأراضي الأوكرانية عن بعضها، لذلك وضعته كييف باعتباره أحد الأهداف الإستراتيجية للجيش الأوكراني في حربها مع موسكو، ليس فقط لأهميته الجغرافية، بل أيضا لأهميته في نقل الأفراد والبضائع والنفط إلى شبه الجزيرة وكذلك إلى القوات المنتشرة في أوكرانيا، حيث يربط الجسر منطقة كراسنودار الجنوبية بمدينة كيرتش في القرم، فوق المضيق بين البحر الأسود وبحر أزوف.

وإمعانا في عرض أهميته، يمثل الجسر تعزيزا لسيطرة روسيا إستراتيجيا على شبه جزيرة القرم من حيث ممارستها لضغط اقتصادي وسياسي مستمر على أوكرانيا، هذا من الناحية الأولى، أما من ناحية ثانية فيمثل الجسر تحديا روسيا جليًّا للقانون الدولي والإرادة الدولية، التي لم تعترف بضم القرم حتى اللحظة. وأخيرا، يمثل هذا الهيكل الخرساني والفولاذي المهيب نصبا تذكاريا للرجل الذي جعل ذلك ممكنا، وهو بوتين في هذه الحالة، فالفكرة مطروحة منذ مدّةٍ بعيدة، لذا فقد بني الجسر بدعامات خرسانية وفولاذية ضخمة، ونظرا لأهميته الكبيرة، أحيط بدرع أمني يصعب اختراقه، كما نُشرت فوقه منظومة دفاع جوي قوية لحمايته، وهو ما يجعل عملية تفجيره تحديا آخر، ليس فقط بالنسبة لمنفذي العملية الذين تبين -بحسب التحقيقات الأولية- أنهم من مناطق تابعة للسيطرة الروسية، بل لذلك الدرع الأمني المحيط بالجسر، مما جعل الرئيس الروسي يطالب بتحقيق فوري وعاجل من أعلى الجهات الرقابية في روسيا، وهو ما يعني أن الرجل يشعر بمزيد من الخزي في ظل الهزائم المتتالية التي لحقت بجنوده.

كاميكازي يسكب الزيت الأميركي على نار أوكرانيا
رغم الدرع الأمني المحيط بالجسر والذي من شأنه ألا يفوّت أصغر التهديدات، فقد استطاع “كاميكازي” أوكراني -نسبة إلى الطيارين اليابانيين الانتحاريين في الحرب العالمية الثانية الذين نفذوا أهم العمليات العسكرية عند استحكام الأمر على القوات البحرية أو البرية- استطاع أن يخترق كل الحواجز والخطوط الأمنية والمنظومة الدفاعية والرقابة الجوية والكاميرات الحرارية وأجهزة كشف الألغام، ليمر في توقيت محدد ومدروس في وقت يمر فيه قطار نقل النفط، لإحداث أكبر ضرر ممكن في الجسر ويوجه رسالة قوية لموسكو التي بدأت إرسال المزيد من جنودها إلى جبهات المواجهة.

فالضربة التي أتت من الداخل كانت أكثر إيلاما من تلك التي عادةً ما تأتي في جبهات القتال، مما يعني أن الجبهات الداخلية تحتاج مزيدا من التأمين، وهو ما يعني في المحصلة مزيدا من إهدار الطاقة والجهد والتركيز والمال والرجال والعتاد، وكل ذلك كان من الممكن أن يذهب إلى جبهات القتال التي تشهد خسائر متتالية، ولا سيما أن احتمالية تكرار هذه الضربات تعدّ ممكنة في ظل الغضب المتنامي أوكرانيا وغربيا، وحتى في الداخل الروسي نفسه.

وفي مقابلة صحفية مع الخبير العسكري الروسي آندريه بيلوف بشأن تأمين الجسر وإمكانية تنفيذ كييف لتهديدها بضربه، قال الخبير الروسي: “القوات الأوكرانية لا تملك القدرات والإمكانات العسكرية لاستهداف الجسر، ليس بسبب القوة البنيوية التي أنشئ الجسر بها، بل أيضا للمنظومة الأمنية في البر والبحر والجو التي يصعب على أوكرانيا اختراقها”.

حديث الخبير العسكري ينطوي على شبهة تعاون بين أميركا أو الغرب مع القوات الأوكرانية لتنفيذ تلك العملية، فمع استحالة اختراق المنظومة الأمنية الروسية للجسر نظريًّا، فإن عملا استخباراتيا مشتركا واختراقا أمنيا في صفوف القوات الروسية، وتحديدا تلك المسؤولة عن تأمين الجسر، ربما تضافرت لإنجاح المهمة، مع الوضع في الاعتبار توقيت التنفيذ المعروف في الأوساط العسكرية بأنه توقيت رخو بعد نوبة حراسة طويلة ليلا وقبل استلام النوبة الصباحية لمهامها، لكن مع منظومة حماية كتلك التي تحمي الجسر فإن هناك من يريد أن يسكب الزيت على نار أوكرانيا لتستمر الحرب وتخبو أصوات دعاة السلام.

فتصريح الرئيس الأميركي جو بايدن بأن هناك تهديدا مباشرا من روسيا لاستخدام أسلحة نووية، في وقت لم تظهر فيه إشارات على ذلك سوى تلميحات بوتين، واسترساله في أن بوتين لا يمزح في تهديده باستخدام الأسلحة النووية، وأنه يسعى لإيجاد مخرج لبوتين من أزمته التي وقع فيها، فإن هناك من “يستفز الأسد ليخرج أنيابه”، وعندما يكون ذلك الأسد جريحا، خاصة بعد الهزائم الأخيرة، فإن استفزازه له آثار وخيمة.

أسعار النفط وتوقيت ضرب جسر كيرتش
من التحليلات الأخرى ما يذهب باتجاه أن عملية جسر القرم جاءت ردّا على قرار منظمة “أوبك بلس” خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، وهو القرار الذي أثار غضبا واضحا لدى ساكني البيت الأبيض ومعاونيه، فظهرت حالة الهلع والغضب في واشنطن على تصريحات المسؤولين والصحافة المقربة من الإدارة الأميركية، لما يمثله القرار من تداعيات سياسية واقتصادية سلبية على الولايات المتحدة وحلفائها والدول المستهلكة للنفط على حد سواء، ومن ثم على الخطة التي تطبخ على مهل في مطبخ السياسة الأميركية، وتهدف إلى إخراج النفط الروسي من السوق الأوروبي واستبداله بالنفط الأميركي، وسيتأخر تنفيذها بسبب قرار أوبك بلس، وهو ما يمثل ضغطا على أوروبا التي تسابق واشنطن الزمن لتوفير النفط لها لتصمد أكبر مدة ممكنة.

وقد يكون تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن النفط الأميركي سببا إضافيا لإثارة حفيظة واشنطن وجعلها تسعى لتعجيل الانتقام من موسكو، وربما أدت هذه الرسالة الاستفزازية لتعجيل رد الفعل الأميركي الذي يمكن أن ينهي عملية الاستبدال بشكل أسرع. فقد عاتب ماكرون من أسماهم أصدقاءه الأميركيين على بيعهم الغاز بأربعة أضعاف ثمنه، مؤكدا أن ذلك لن يستمر طويلا، واصفا ذلك بأنه ليس المعنى الحقيقي للصداقة.

بيرل هاربر الأوكراني هل يؤذن بحرب عالمية ثالثة؟
ربما ثمة أوجه تشابه بين عملية تفجير جسر القرم وتفجير بيرل هاربر، وذلك من حيث الشكل واحتمالية تشابه النتائج، حيث إن التفجير الأول أدخل الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية بشكل مباشر، وما أسفر عن ذلك من تفجيرين نوويين كارثيين تعاني منهما اليابان حتى الآن، إلا أن تفجير جسر القرم لن تكون نتائجه على نفس الشكل، وذلك رغم محاولات الدفع بقوة إلى هذه النهاية. فالحديث عن الحرب العالمية الثالثة حديث لم ينقطع في الإعلام الأميركي منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فقد استطاعت أميركا وبريطانيا صناعة فزاعة أخافت منها أوروبا، وبالتالي أصبح هناك إجماع أوروبي على فرض عقوبات على روسيا، وذلك على الرغم من أن المتضرر الحقيقي منها هم الغرب والفقراء في آسيا وأوروبا. وعلى جانب آخر أيضا، قد تكون فرصة بيع النفط الأميركي من الأهداف الموضوعة على قائمة الفوائد لدى صناع القرار الأميركيين، بالإضافة إلى أن ترويض أوروبا المتمردة -من وجهة نظر صانع القرار الأميركي- عسكريا واقتصاديا ومن ثم سياسيا، هدف آخر.

وعلى صعيد مرتبط بتداعيات الأزمة، فإن هذه الحرب ستضرب الاقتصادات الناشئة، وهو بند موضوع أيضا في بنك أهداف واشنطن، ولا سيما أن العالم لا يزال يعاني أزمة الإغلاق جراء وباء كورونا، لذلك فلا عجب أن يحذر رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس من أن العالم يواجه موجة خامسة من أزمة الديون. فبحسب مالباس، أصبحت مدفوعات خدمة الدين الثنائية والخاصة المستحقة عام 2022 وحده حوالي 44 مليار دولار في بعض الدول الفقيرة، وهو ما يعد أعلى من تدفق المساعدات الأجنبية التي يمكن أن تأمل بها تلك الدول، مما يعني مزيدا من الفقر وتباطؤا في النمو للدول الناشئة، والمستفيد بالطبع هي الولايات المتحدة الأميركية ثم الصين.

لذا فإن احتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة ليست مستحيلة لكنها بعيدة، وسيبقى الصراع في إطار الضربات الموجعة، من دون الوصول للنووي أو توسيع دائرة الحرب، وسينحصر الأمر في تبادل التصعيد بين ضرب روسيا لكييف وتوعد أوكرانيا بالرد. فالحرب العالمية الثانية اندلعت على إثر الأزمة الاقتصادية عام 1929، وانهماك الكثير من الدول في معالجة أزماتها الاقتصادية، وما رشح عنه من وصول أنظمة دكتاتورية إلى السلطة في بعض البلدان، مما جعلها تقلل من أهمية ما يجري على الصعيد الدولي، وهو ما أدى إلى حدوث المواجهة بين الأنظمة الديمقراطية والفاشية من أجل السيطرة على الأسواق الخارجية وامتلاك المستعمرات، وهي مجموعة أحداث تشبه إلى حد بعيد ما يحدث الآن، لكن مع فارق أن المستعمرات الآن تملك هامشا من الحرية يُمكِّنها من أن تتدخل في تحديد إنتاجها وبالتالي قدرتها في التأثير على المشهد الدولي. لكن المأساة الكبرى تبقى في وجود ذلك الزر الملعون -النووي- الذي يهدد العالم، في وقت يخفت فيه صوت العقل، وتزداد معه نبرة التهديد والوعيد.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.