“ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ”

بقلم : لينا أمين القوزي

هذا المثل المتداول بين الناس هو حديث عن النبي ﷺ
ونحن إن كنا نعرف قصصًا كثيرة عن رحمته ﷺ، إلا أنني أود أن أخبركم قصة يرويها أحمد بن مسكين، وهو أحد علماء القرن الثالث الهجري الذي يقول : امتُحنت بالفقر في أحد الأعوام، ولم يكن في بيتي شيء، ولي امرأة وطفل، كنا سنموت جوعًا، فعزمت على بيع بيتي وخرجت أبحث عمن يشتريه، فلقيني صديقي (أبونصر)، فأخبرته بحالي ونيتي في بيع البيت، فأعطاني قطعتين من الخبز والحلوى، قائلًا: أطعمها أهلك.
في الطريق لقيتني امرأة ومعها طفل، فنظرت إلي متوسلة: سيدي هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها ما حييت، فأعطيت ما معي للمرأة قائلًا: خذي وأطعمي طفلك، والله لا أملك سواهما، وإن في داري لمَن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها وأشرق وجه الصبي!

ثم سِرت أجر قدمي وأنا مهموم، فجلست في الطريق وأنا أفكر في بيع داري، وبينما أنا كذلك، إذ مر بي (أبونصر) وكأنه يطير فرحًا، فقال: ما يُجلسك هنا وفي دارك الخير والغنى؟!، أجبته: سبحان الله.. من أين؟، قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله ومعه أموال كثيرة، ويقول أن أباك أودعه مالًا يتاجر فيه منذ ثلاثين عامًا، فربح كثيرًا، وأراد أن يتحلل، فجاء بالمال ورِبحه».
يقول أحمد بن مسكين: «فحمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة وطفلها فكفيتها وأجريت عليها رزقًا، ثم تاجرت في المال، وازددت في الصدقة والمعروف والإحسان، والمال يزداد ولا ينقص، وكأنما أعجبتني نفسي وسَرّني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كُتبت عند الله من الصالحين، فنمت ليلة، فرأيت كأنني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، حتى لكأن على ظهر الفاسق مدينة كلها سيئات، ثم وُضعت الموازين، وجيء بي لوزن أعمالي، فجُعلت سيئاتي في كفة، وأُلقيت سجلات حسناتي في كفة، فرجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنع، فإذا تحت كل حسنة (شهوة خفية) من شهوات النفس كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، فقيل: بقي هذا، فإذا قطعتا الخبز اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت بالهلاك، فقد كنت أُحسن بمائة دينار مرة واحدة، فما أغنت عني شيئًا!

فوُضعت القطعتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات ترجح قليلًا، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة، التي بكت من أثر المعروف في نفسها ومن إيثاري إياها على نفسي وأهلي، فإذا بالكفة ترجح بقوة، وسمعت صوتاً يهتف: (قد نجا.. قد نجا)»!

هذه القصة حقيقة، وهي تحمل عبرًا كثيرة عن صلاح النية والعمل الخالص لله وعن الرياء والسمعة .. ولكن ما يعنيني هنا موضوع الرحمة!

والرحمة من الصفات الإنسانية التي تجعل الإنسان إنسانًا، وهي إن وجدت في قلبه كانت خيرًا له ولكل من حوله!
تجد الرحماء هينين ليّنين، يتلمسون حاجات الناس، يختلقون العذر دومًا، يتجاوزون رأفة لا غفلة، يعز عليهم أن يكونوا سببًا في ألم، أولئك الذين يعلمون أن برحمتهم سيرحمهم الله، وأولئك الذين تطيب بهم الحياة!

فيا لسعد من رحم عباد الله وكان تحت لواء “الراحمون يرحمهم الله!”

يا لسعد من يتفقد أولئك الذين يتقلبون على جمر ألم المرض، الذين لا يجدون من يسدد لهم ثمن الدواء، فيبادر بتخفيف الألم بحبة دواء لعل فيها النجاة!

يا لسعد من يرمي بنفسه وسط نهار شاق يتفقد بعض العجائز يسعى في تأمين حاجتهم، ضروريات لا يمكنهم تأمينها، من كسرة الخبز إلى قارورة غاز وبعض الحنوّ الصافي، لا يريد من ذلك كله إلا وجه الله!

يا لسعد من تقلب بين الناس يسعى في رد مظلمة واستجلاب حق، يُرمى بسياط الكلام، ويداس له طرف وهو قائم ثابت حتى يرد لكل حق حقه، لا يريد من ذلك كله إلا أن يرد الله عنه يوم القيامة!

يا لسعد من تغاضى عن كسر خاطره، وعن كلمة قاسية
وعن فعل مسيء، لأجل أن لا يقطع رحمًا، وهو بذلك يقول يا رب احتسبها عندك فلا تقطع سبيلي إليك!

ويا لسعد من صبر على جمر الحياة، وغدر الأصحاب، ونكران المعروف، وأدى الأمانة التي حمّله الله إياها، وحفظ العهد الغليظ، وجاهد نفسه على الاستقامة رغم عثرات الطريق، يقول في نفسه: عوّضني خيرًا يا الله!

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.