نهب و أُخفي”.. خطة اختطاف الأرشيف لمحو التاريخ الفلسطيني

أمير العمري
يُعتبر الفيلم الوثائقي “نُهب وأُخفي” (Looted and Hidden) الذي أخرجته الباحثة الإسرائيلية “رونا سيلا” المهتمة بالتاريخ البصري المصور واحدا من أهم الأفلام المُتعلقة بمحو الذاكرة الفلسطينية.

إنه عمل يدخل في صميم وظيفة الفيلم الوثائقي، أي أنه لا يعرض فقط لما وقع، وهو كثير ويتعين الوقوف أمامه بجدية وانتباه نظرا لخطورته، بل لأنه يكشف أيضا الأهمية الاستثنائية للذاكرة البصرية في تاريخ الشعوب، وخاصة تاريخ الشعب الفلسطيني.

لا تستخدم مخرجة الفيلم- كما هو متبع عادة- أسلوبا يقوم على المقابلات المباشرة مع الشخصيات المختلفة التي تأتي على ذكرها في الفيلم، بل تُقسّم فيلمها إلى ستة فصول تعرض في كل منها الكثير من اللقطات والصور ومقاطع الأفلام التي استطاعت العثور عليها في الأرشيف العسكري الإسرائيلي، ولم يكن مسموحا بالاطلاع عليها من قبل، إلا أنها تؤكد أن ما أتيح لها ما هو إلا جزء يسير من كثير من المواد التي نهبها الجيش الإسرائيلي من أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982.

كل فصل من الفصول الستة التي ينقسم إليها الفيلم يُروى من وجهة نظر إحدى الشخصيات، تبدأها “رونا سيلا” في الفصل الأول وتختمها في الفصل السادس، وما بين البداية والنهاية نشاهد القصة من وجهة نظر خديجة حباشنة مؤسسة الأرشيف الفلسطيني، ثم من منظور جندي إسرائيلي شارك في اقتحام بيروت عام 1982، ثم من وجهة نظر صبري جريس المدير السابق لمركز الأبحاث الفلسطينية، ثم خديجة حباشنة مؤسسة ومديرة قسم السينما الفلسطينية.

أفلام الدعاية الصهيونية للهجرة.. بداية صراع الصورة

الفيلم بأكمله مكون من مقاطع من الأفلام الوثائقية الفلسطينية التي صوّرها الفلسطينيون ووثقوا فيها لتاريخ فلسطين الحديث.

في الفصل الأول تروي “رونا سيلا” بصوتها كيف كانت بداية اهتمامها بالمواد المصورة التاريخية، وكيف تفتّح وعيها على الأفلام الدعائية الصهيونية التي كانت تحثّ الشباب الصهيوني على العمل، وتدعو اليهود للهجرة إلى فلسطين، ونشاهد هنا مقاطع من أفلام الدعاية الصهيونية التي أنتجتها الوكالة اليهودية في الأربعينيات والخمسينيات.

وهناك أيضا مقاطع من أفلام الجريدة السينمائية من الثلاثينيات، وكانت “رونا” -كما تقول- كثيرا ما تسأل والدتها عن ما وقع عام 1948، وهل حقا كان المنزل الذي كانوا يقيمون فيه في الأصل منزلا فلسطينيا تقطنه أسرة فلسطينية؟

لكنها لم تتلق إجابة شافية من أمها، ومن هنا بدأت البحث الطويل عن الوثائق الفلسطينية.

أستوديو رائد التصوير الفلسطيني خليل رعد في القدس

أستوديو خليل رعد.. نهب صهيوني للأرشيف الفلسطيني

في أواخر الستينيات قابلت “رونا” خديجة حباشنة التي كانت أول امرأة تهتم بتوثيق الصورة الفلسطينية. وهنا تستعيد المخرجة من خلال المقاطع المختارة من الأفلام الوثائقية القديمة كيف كانت تدمر بيوت الفلسطينيين، ثم يزال الحطام بالجرافات، وكيف أُرغمت الأسر الفلسطينية على مغادرة قراها وبلداتها واللجوء إلى المخيمات التي كانت عبارة عن خيام في الصحراء.

لكن “رونا” تتوقف أمام صورة فوتوغرافية ثابتة تقترب منها بالكاميرا، وهي صورة أستوديو التصوير الفوتوغرافي الأول الذي أسسه رائد التصوير الفلسطيني خليل رعد (1854-1957) في القدس. وتقول “رونا” في تعليقها على الصورة إنها علمت أن والدها كان أحد الذين شاركوا في نهب جميع محتويات هذا الأستوديو من صور تعود إلى العصر العثماني.

ومن هنا بدأت تبحث في فكرة اهتمام الصهاينة بمحو الذاكرة الفلسطينية، وخلق تاريخ جديد يقوم على وجهة نظر أحادية يريدون زرعها في ذاكرة الأجيال الجديدة.

صورة تجمع مؤسِسة الأرشيف السينمائي الفلسطيني في بيروت خديجة حباشنة مع مصطفى أبو علي، وهو أحد أبرز السينمائيين المؤسسين للفيلم الوثائقي الفلسطيني

“عزيزتي رونا.. كان لا بد من العمل على الاحتفاظ بالذاكرة الفلسطينية”

يمتد بحث المخرجة لتصل إلى الأرشيف الفلسطيني الذي نُهب فيما بعد، لكن إسرائيل- كما تقول المخرجة- تستخدم كلمة مخففة مثل “النشل” بدلا من “النهب” إمعانا في التضليل، تماما كما تستخدم “عرب إسرائيل” بدلا من “الفلسطينيين”، و”العصابات الفلسطينية” بدلا من “المقاتلين الفلسطينيين”.

ومن داخل سيارة نشاهد لقطة متحركة طويلة بالألوان للخيام الفلسطينية الممتدة في الرمال، ومنها ننتقل إلى الفصل الثاني بعنوان “خديجة حباشنة- عمان الأردن- 1968″، وبصوت خديجة نستمع إلى رسالة منها إلى المخرجة، تبدأها قائلة: عزيزتي “رونا”.. كان لا بد من العمل على الاحتفاظ بالذاكرة الفلسطينية، لقد عملت مع سلافة جاد الله أول مخرجة فلسطينية، وهاني جوهرية مصور الثورة الفلسطينية.

نشاهد هنا لقطات نادرة للشباب الفلسطيني اليافع يتدفق على معسكرات التدريب للانضمام لحركة المقاومة في الستينيات، ونساء المخيمات والأطفال يتجمعون حول منفذ وكالة الغوث لاستلام المعونات الغذائية، ثم مشاهد من معركة الكرامة في الأردن، وننتقل إلى الحرب الأهلية اللبنانية، ثم لقطات نادرة من مخيم “تل الزعتر” عند اقتحامه من قبل القوات السورية عام 1976. وينتهي الفصل بصورة تجمع بين خديجة والمخرج العراقي سمير نمر الذي عمل في قسم السينما الفلسطينية.

المخرجة تستعيد كيف أُرغمت الأسر الفلسطينية على مغادرة قراها وبلداتها واللجوء إلى المخيمات التي كانت عبارة عن خيام في الصحراء

اقتحام بيروت.. سرقة التاريخ المهرب إلى المهجر

في الفصل الثالث يروي جندي إسرائيلي غير محدد الهوية (بصوته فقط) كيف أنه يتذكر جيدا الصورة التي نشاهدها على الشاشة؛ مقر منظمة التحرير في بيروت، ومبنى كبير تطلّ من شرفه ونوافذه مجموعات من الجنود الإسرائيليين، ويقول: كيف لا أتذكرها وقد كنت هناك، كنت أتمنى نسيان هذه الصورة لكنها ظلت تطاردني.

كان هذا بعد اقتحام بيروت من طرف قوات “شارون”، ويستمر تدفق الصور، حيث الجنود الإسرائيليون يسترخون على الشاطئ بملابس البحر، ويقول الجندي: كان هناك أيضا وقت للتفكير، لكنه لم يكن يشعر بالراحة قط، ثم يتذكر نهب وتجميع محتويات المبنى كله، ووضع الوثائق المنهوبة والصور داخل عدد كبير من الصناديق وشحنها.

في هذا الفصل تظهر لقطات كثيرة مأخوذة من فيلم “حصار مضاد” (1978) للمخرج العراقي قيس الزبيدي الذي عمل في قسم السينما التابع لمنظمة التحرير، وله دور بارز في عمل المونتاج وإخراج عشرات الأفلام التي أصبحت جزءا من تاريخ الذاكرة الفلسطينية.

ستتكرر كثيرا عبر الفيلم مقاطع من هذا الفيلم تحديدا الذي يحتوي على كثير من الوثائق المصورة النادرة لفترات مختلفة من تاريخ الثورة الفلسطينية.

جنود إسرائيليون ينهبون أرشيف قسم الفنون الثقافية في منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر/أيلول عام 1982

“حفظ الوثائق جزء من النضال الفلسطيني الطويل”

في الفصل الرابع تأتي الرسالة هذه المرة من صبري جريس مدير مركز الأبحاث الفلسطينية الذي يبدأ بتقديم نفسه بأنه من مواليد قرية فسطوطة بالجليل، وبأنه درس القانون في الجامعة العبرية في القدس، وقد عاصر النكبة الكبرى في 1948، وكان وقتها ابن تسع سنوات، ويتذكر احتلال فسطوطة من طرف الإسرائيليين، وصفوف اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يمرون بالقرية، وكيف كانت أمه توزع عليهم أرغفة الخبز التي تأخذها من المخبز مباشرة وهي ما زالت ساخنة.

هنا نشاهد لقطات موثقة لهذه الأحداث، بل ونشاهد أحد المخابز الفلسطينية والخبز يخرج من الفرن، ثم إلى مزيد من اللقطات التاريخية من عام 1948 من فيلم قيس الزبيدي، ويواصل صبري سرده فيخبرنا أن إسرائيل قامت بطرده في أوائل السبعينيات لأنها لم تكن راضية عن كتاباته التي اعتبرتها تحريضية.

وفي عام 1965 تأسس مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت وترأسه لمدة عام الشاعر محمود درويش، ثم جاء بعده مباشرة صبري جريس الذي يروي محاولته إنقاذ مواد الأرشيف بعد الغزو الإسرائيلي لبيروت، ويقول إن ما استولى عليه الإسرائيليون ليس هو الأرشيف الحقيقي، فقد أخفى صبري كثيرا من الوثائق في أماكن أخرى، وبعد عام من نهب محتويات المركز أعاد الإسرائيليون ما استولوا عليه ضمن صفقة للإفراج عن أسراهم بوساطة فرنسية، وقد أسس مركزا آخر في رام الله عام 2001، لكن إسرائيل صادرت هذا الأرشيف مرة أخرى، ويعتبر صبري أن بناء الذاكرة من خلال حفظ الوثائق جزء من النضال الفلسطيني الطويل.

صورة لمجزرة تل الزعتر من فيلم “الفلسطينيون: الحق في الحياة” للمخرج “فلاديمير كوبلان”

“الفلسطينيون.. الحق في الحياة”.. أفلام الأجانب عن فلسطين

في الفصل الخامس تعود خديجة حباشنة مؤسسة الأرشيف السينمائي الفلسطيني في بيروت (1969- 1982)، تروي بصوتها ظروف التحميض والطبع البدائية، ثم عرض الأفلام في المخيمات، ونشاهد لقطات للمخيمات، بينما تهب عواصف ورياح تعصف بالخيام، والرمال تتطاير، وصوت الريح يصم الآذان.

إنها لقطات نادرة باللونين الأبيض والأسود، تتلوها لقطات لمصب مائي، ثم تحية لمصطفى أبو علي وسلافة جاد الله وهاني جوهرية وعمر المختار، وهم أبرز السينمائيين المؤسسين للفيلم الوثائقي الفلسطيني في تلك الفترة.

ومن الأفلام التي نشاهد مقاطع منها هنا، الفيلم السوفياتي “الفلسطينيون.. الحق في الحياة” (1978) لـ”فلاديمير كوبلان”، وتروي خديجة أيضا قصة إعادة إنشاء الأرشيف وجمع الأفلام التي أخرجها الأجانب عن القضية الفلسطينية أو أفلام التلفزيون، واستعادة الأفلام الفلسطينية التي كانت قد أرسلت للعرض في العواصم الأوروبية.

ويظل المرجع الأول البصري هنا هو فيلم قيس الزبيدي “حصار مضاد”.

لقطة من فيلم “ذكريات ونيران” للمخرج الفلسطيني إسماعيل لشموط، والذي سرد فيه التاريخ الفلسطيني عن طريق الرسوم الملونة

إسماعيل شموط.. لوحات في الأرشيف العسكري الإسرائيلي

في الفصل السادس تقول رونا سيلا إنها قابلت الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط والفنانة تمام الأكحل من يافا عام 2005، وقد أطلعها شموط على لوحة لمنزل عائلته الأصلي من رسم والدته، وأطلعته هي على لقطات وصور ليافا صورها الإسرائيليون بعد حرب 1948، وتظهر فيها منازل الفلسطينيين المدمرة التي كانت تجري إزالتها.

هذه اللقطات هي التي نشاهدها في الفيلم، ومنها لقطة متحركة من سيارة تمر على المنازل المدمرة، وهي مأخوذة من الجريدة السينمائية الإسرائيلية التي صورت عام 1951. ونشاهد تفجير المنازل الفلسطينية التاريخية ذات العمارة الأصلية المميزة، وطفلين يهبطان سلما حجريا مهشما بصعوبة بالغة.

من بين هذه اللقطات -كما تقول المخرجة- استطاع شموط التعرف على منزل والدته، هنا نرى مزجا بين صورة المنزل التي رسمتها أمه، وصورة بقايا المنزل كما تظهر في الفيلم الإسرائيلي. وبعد ما تركه هذا اللقاء من أثر عليها قامت “رونا سيلا” بزيارة الأرشيف العسكري الإسرائيلي مجددا، ودهشت عندما عثرت على أفلام صوّرها وأخرجها إسماعيل شموط نفسه مع آخرين تتضمن صورا واسكتشات ولقطات حية، وكانت كلها تعتبر مفقودة.

من مقاطع هذه الأفلام لقطة نادرة لكمال ناصر وهو يقول إننا نريد أن يعرف العالم أن لدينا قضية ندافع عنها، وهدفنا ليس العنف، ثم تظهر لوحة تقول إن عملاء إسرائيليين قاموا باغتيال كمال ناصر في شقته في بيروت في 10 إبريل/نيسان 1973.

هذه الأفلام مُصنّفة تحت بند “أفلام عُثر عليها في الأرشيف الفلسطيني”، لكن الحقيقة خلاف ذلك كما تقول “رونا سيلا” التي وجدت أنها أُخذت من قسم الفنون والثقافة التابع لدائرة الإعلام والإرشاد الوطني بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومؤسسها إسماعيل شموط في أوائل السبعينيات.

أفلام الأرشيف.. وعد استرجاع مواد التاريخ المنهوبة

في لقطة نادرة من أفلام إسماعيل شموط نشاهد مبنى مقر منظمة التحرير في بيروت، وتوجد أعلاه في المنتصف تماما صورة بورتريه رسمها شموط لجمال عبد الناصر بعد وفاته في سبتمبر/أيلول 1970، كما نشاهد صورة لـشموط نفسه داخل مرسمه عام 1966 (بالأبيض والأسود)، وعليها ختم منظمة التحرير.

وفي لقطة من فيلم “النداء العاجل” الذي أخرجه إسماعيل شموط نُشاهد مغنية شابة جميلة ذات صوت قوي عذب تغني بالإنجليزية إحدى الأغاني الثورية، وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية، هذه المغنية هي زينب شعث، وكان يعتقد أن هذا الفيلم قد فقد إلى الأبد، وكذلك بالنسبة لفيلم “ذكريات ونيران” لشموط أيضا، وهو عبارة عن سرد زمني للتاريخ الفلسطيني عن طريق الرسوم الملونة.

توجه المخرجة الإسرائيلية الحديث إلى كل من زينب وتمام الأكحل في نهاية فيلمها، فتقول إنها أدركت أن هناك كثيرا من المواد التي ما زال ممنوعا الاطلاع عليها، فإسرائيل تشعر بأن هذه الوثائق والصور تمثل تهديدا لسياستها الخاصة في الإنكار، وتعتقد أنها بمصادرة مواد الأرشيف الفلسطيني يمكنها محو الهوية، لكن “رونا” تتعهد بمحاولة استرجاع كل المواد المنهوبة وإعادتها الى أصحابها، وهذا جيد، لكن من الذي سيعيد الأرض المنهوبة إلى أصحابها؟

شاهد أيضاً

الشباب.. صوت التغيير في عالم الظلام

لماذا يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية أميركا وأوروبا، بينما يخيم سكون مدهش بين شعوبنا وشباب منطقتنا الأقرب رحما ودينا؟