تفاصيل السقوط السريع لحكومة أفغانستان.. كيف انتصرت طالبان وفشلت إستراتيجية واشنطن؟

في مقالها المنشور بمجلة “فورين أفيرز”، تناقش فاندا فِلباب-براون، خبيرة في شؤون الجريمة المنظمة، وباحثة مرموقة بمركز الأمن والاستخبارات للقرن الحادي والعشرين التابع لمعهد بروكينغز بالولايات المتحدة، أسباب انتصار طالبان السريع، وكيف صنعته سنوات من السياسات الأميركية غير الملائمة لأفغانستان، وما مصير الحركة بعد أن وصلت إلى رأس السُّلطة في كابول.

عشرة أيام، تلك هي المدة التي استغرقتها طالبان بعد رحيل القوات الأميركية لإسقاط الحكومة الأفغانية، ويا له من وقت وجيز مثير للدهشة في نهاية المطاف! ففي يومي الجمعة والسبت الماضيين، وبينما مرَّت الساعة تلو الساعة، استسلمت ولايات أفغانستان الكبرى لحركة طالبان، إذ زحفت الميليشيا الإسلامية منفِّذة هجماتها المثيرة للرعب، حتى دخلت كابول في الأخير يوم الأحد، ففرَّت الحكومة المدعومة أميركيا تاركة البلاد بأسرها في أيدي طالبان.

لم يتوقع أحد على الأرجح التفكك السريع لقوات الأمن والدفاع الوطنية الأفغانية، بيد أن علامات الصعود العسكري لطالبان، وأوجه الخلل الحرِجة للقوات الأفغانية التي تجاهلتها الحكومة بل وفاقمتها بنفسها، ظهرت على السطح على مدار السنوات القليلة الماضية. لقد بدت جليا، منذ عام 2015، جميع المشكلات التي أتاحت لطالبان أن تهزم الجيش الأفغاني بهذه السرعة في 2021، وذلك حين سيطرت الحركة لفترة قصيرة على مدينة قندوز شمالي أفغانستان، مستغلة الروح المعنوية الهشة لدى القوات الأفغانية، وفرارها من المعركة، والاستنزاف والفساد والانقسامات الإثنية في صفوفها، والدعم اللوجيستي الهزيل، واعتمادها المُفرِط على القوات الخاصة.

لم يخفَ على أحد طيلة سنوات أن وحدات القوات الأفغانية أخذت تُبرِم الصفقات مع عدوِّها (كما يفترض)، فقد حذَّروا طالبان قبل الشروع في شنِّ هجماتهم عليها تارة، ورفضوا قتالها تارة، بل باعوها السلاح والعتاد في مرات. لقد كشف السقوطُ الدراماتيكي للجيش الأفغاني العَفَنَ المتراكم في أروقة السلطة بكابول ليس إلا، ولا عجب أن الشعب الأفغاني لم يثق بحكومته ثقة تُذكَر لسنوات، ولا عجب أيضا أن المدن الأفغانية استسلمت الواحدة تلو الأخرى أمام طالبان هذا الأسبوع.

لقد ارتكبت الولايات المتحدة ودول أخرى أخطاء عديدة في أفغانستان، كما مكَّنت باكستان للحركة بسياستها المزدوجة. إلا أن المسؤولية الرئيسية لتلك النهاية المأساوية لعشرين عاما من محاولة بناء دولة في أفغانستان، تقع على عاتق القيادة الأفغانية نفسها، وليس انتصار طالبان سوى نذير لما يحيق بمحاولات ترسيخ الاستقرار من صعوبات، فحين لا تشد واشنطن على أيادي حلفائها، فإنها سرعان ما تجد مجهود سنوات قد ذهب أدراج الرياح.

على مدار العقد المنصرم، وبينما أخذت واشنطن تسحب قواتها تدريجيا من أفغانستان وتلقي بمهمة حُكم البلاد على عاتق الحكومة الأفغانية بصورة متزايدة، اختارت النخبة الحاكمة في كابول ألا تُصلح أمور الجيش أو تحسِّن أساليب الحُكم، وعوضا عن ذلك، وجَّهت أنظارها لمراكمة السلطة والمال لصالحها، والمحسوبية للدوائر المحيطة بها، وقد سعت باستمرار لخلق الأزمات السياسية وتعطيل الإدارة لاستخلاص المزيد من المحسوبية والمال من الحكومة المركزية.

لقد كانت أفكارها الوهمية جزءا من المشكلة، إذ أقنع السياسيون الأفغان أنفسهم بأن الولايات المتحدة لن تترك البلاد أبدا، وتجاهلوا الإشارات المتكررة من إدارات أوباما وترامب وبايدن إلى أن واشنطن تريد بالفعل الخروج من أفغانستان. وبينما ضلَّلتهم سردياتهم عن أفغانستان بوصفها بلدا في القلب من “لعبة كبرى” جديدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، أيقن القادة الأفغان بأنهم قادرون على توريط الولايات المتحدة بدرجة أكبر في أفغانستان حتى يصبح التزامها تجاه البلاد بلا نهاية. ومن ثَم، لم يروا فائدة تُذكر لإصلاح القوات الأفغانية، أو التجاوب مع المطالب اليومية للأفغان، وبدورها لم تضع الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي على قائمة أولولياتها أن تضغط على الحكومة في كابول لفعل أيٍّ من ذلك، ولا استطاعت كذلك أن تُجبر باكستان على وقف دعم طالبان الذي تمَّ بقوة وبأساليب كثيرة التنوُّع، ولذا أخذت قوة المسلحين في التعاظم.

شكَّلت هشاشة الحكومة الأفغانية معضلة أمام الإدارات الأميركية المتعاقبة: إذا ما حدَّدت واشنطن موعدا نهائيا للرحيل عن أفغانستان، فإن طالبان ستنتظر -ببساطة- حتى رحيلها، ثمَّ تشن هجوما شاملا على الجيش الأفغاني. ولم يكن ثمة ضمان بأن السياسيين الأفغان سيتعاملون مع موعد الرحيل النهائي ذاك بجدية، إذ اعتقدوا بأهمية أفغانستان الجيوسياسية، ورأوا بأُم أعينهم كيف تراجعت أكثر من إدارة أميركية عن الانسحاب. لم يكن هنالك ضمان إذن لوضع الحكومة الأفغانية مصالحها دون المصلحة الوطنية، وأن تُجري إصلاحات تأخَّرت كثيرا وأمكن لها أن تؤهلها لتأمين البلاد دون عون من أحد. ومن جهة أخرى، لم تضع الولايات المتحدة تاريخا محددا للانسحاب، بل وضعت بدلا من ذلك شروطا للانسحاب -وفقما صرَّحت إدارة ترامب عام 2016، وإن لم يقتنع الرئيس نفسه وقتها بتلك الفكرة- ومن ثمَّ تضاءلت في الواقع دوافع الحكومة الأفغانية لتغيير أساليبها العقيمة.

أبت الحكومة أن تقلِّص سلطانها بأي شكل أو تقبل تغييرا في نظامها السياسي، ولم ترغب في التفاوض مع طالبان، وهو وضع ظل كما هو حتى بعد اتفاق الدوحة، حيث وافقت طالبان حسب الاتفاق المُبرَم في فبراير/شباط 2020 على الحيلولة دون تنفيذ هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة وحلفائها مقابل انسحاب القوات الأميركية بحلول مايو/أيار 2021. وقد كانت كابول أقوى في تلك اللحظة، إذ سيطرت طالبان على مساحة أقل كثيرا مما حازته هذا العام، وظلت القوات الأميركية الموجودة في البلاد قادرة على قصف مقاتلي الحركة وتقديم الدعم الفني اللازم للقوات الأفغانية. بيد أن كل يوم انتظرته كابول للتفاوض انقضى فيه تدريجيا عُمر الدعم الأميركي وازداد ضعف القوات الأفغانية، في حين اعتقدت كابول قدرتها على إقناع إدارة بايدن بأن يتخلَّص من اتفاق الدوحة ويُبقي على قوات أميركية في البلاد على أنه التزام طويل الأمد.

في الوقت نفسه، لم تشأ طالبان أن تتفاوض مع كابول هي الأخرى، إيمانا منها بأن قوتها العسكرية، ومن ثمَّ موقعها التفاوضي، لن يزيدا إلا قوة في أعقاب انسحاب القوات الأميركية، وهو ما حدث بالضبط، وهي لحظة تطلَّعت فيها الحكومة الأفغانية إلى أن يدفع ضعف قواتها الشديد إلى عدول واشنطن عن قرار الرحيل. هذا ورغب محلِّلون أميركيون كثر بأن تبقى الولايات المتحدة في أفغانستان، وقالوا إن وجود قوة محدودة قوامها 2500 إلى 5000 جندي كفيلة بتقوية شوكة الحكومة الأفغانية وقواتها.

في الربيع الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه سيسحب كل القوات الأميركية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول 2021، ونُفِّذ بالفعل انسحاب 95% من القوات بنهاية يوليو/تموز المنصرم، وحين بدا جليا أن واشنطن انتهت من الحرب، وهنت عزيمة الجيش الأفغاني أكثر. غير أنه لم يكن ثمة سيناريو واقعي تستطيع معه قوات من 2500 إلى 5000 جندي أميركي، حتى مع التزام مفتوح من جانب الولايات المتحدة، أن تعدِّل من الديناميات المدمِّرة لحكومةٍ وجيشٍ أفغاني يأبى كلٌ منهما الإصلاح مع صعود متنامٍ لطالبان.

بالطبع، بدأت طالبان في مهاجمة تلك القوات المتبقية، مجبرة إياها على الخضوع، تماما كما جرى مع الجيش الأفغاني، بل لعلها حفَّزت الولايات المتحدة لزيادة قواتها كي تستطيع مواجهة هجمات الحركة، ومن ثَم تعود واشنطن أدراجها إلى شن حرب شاملة على طالبان، بما يشمله ذلك من ضحايا، ودون نهاية للحرب في الأفق. وفي خمس سنوات تقريبا، واجهت واشنطن الموقف المُفزِع نفسه الذي وقفت بصدده قبل أشهر قليلة، دونما سبيل إلى هزيمة طالبان أو حتى محو انتصاراتها على الأرض.

كان بوسع إدارة بايدن أن تحدد ديسمبر/كانون الأول بدلا من سبتمبر/أيلول موعدا نهائيا للانسحاب، لتمنح الجيش والحكومة في كابول مزيدا من الوقت للتأهُّب، لكن القيادة الأفغانية لم تحرِّك ساكنا في كل الأحوال حين علمت بموعد الانسحاب في سبتمبر/أيلول، وليس مرجحا أنها كانت ستغتنم الفرصة لو مُدَّ جدول الانسحاب حتى نهاية العام. بيد أن مزيدا من الوقت لربما أتاح لواشنطن فرصة تُجبر فيها القيادة الأفغانية على إجراء تغييرات في حالة الجيش، وإصلاح الجوانب ذات الأهمية القصوى على الأقل، وإتاحة الوقت للمدنيين الأفغان للتأقلم، بما في ذلك منحهم خيار الخروج من البلاد. لم تكن ثلاثة أشهر إضافية لتكلِّف الولايات المتحدة كثيرا، ولَقَبِلتْها طالبان ولو على مضض ما دام أن جدول الانسحاب لم يمتد إلى 2022.

على مدار عشرين عاما، جرَّبت الولايات المتحدة وحلفاؤها عددا من الإستراتيجيات لهزيمة طالبان. فقد اعتمدت على أمراء الحرب الأفغان بين عامي 2001 و2005 لإلحاق الهزيمة بالحركة وقمع تمرُّدها في خضم انشغال واشنطن بالعراق آنذاك. وبينما تعاظمت قوة طالبان، قررت إدارة أوباما زيادة أعداد قوات حلف الناتو إلى 150 ألفا، وبحلول عام 2014، تبدَّلت الإستراتيجية إلى دعم الميليشيات الأفغانية والانتفاضات المضادة لطالبان باعتبارها السبيل لهزيمة الحركة، ثم أتت إدارة ترامب في الأخير وعلَّقت آمالها ببساطة على إستراتيجية أخرى: إذا بقيت واشنطن وحلفاؤها في البلاد مدة طويلة بما يكفي، سترتكب طالبان أخطاء كفيلة بدحرها في الأخير. بيد أن أيا من تلك السُّبل لم تفلح في نهاية المطاف، بل إن بقاء واشنطن إلى ما بعد 2021 من شأنه أن يُغرق قواتها وأنظمة الاستخبارات والاستطلاع الحساسة خاصتها في مستنقع أفغاني يجعل كلا من الصين وإيران وروسيا سعداء بتورُّطها بهذا الشكل واضطلاعها بمهمة كبح الإرهاب نيابة عنهم في الوقت نفسه.

تتمثَّل الأولوية القصوى في خوض غمار الدبلوماسية والتفاوض المكثَّفَين مع طالبان. على الأرجح أرسلت واشنطن رسالة واضحة وصريحة مؤخرا مفادها ضرورة عدم التعرُّض لنشطاء المجتمع المدني أو مسؤولي الحكومة الأفغانية السابقين، وتقييد أيادي مقاتلي الحركة عن القيام بعمليات القتل الانتقامية، وحث طالبان على تشكيل حكومة ائتلافية قدر الإمكان، بحيث تشمل الأقليات الإثنية والتكنوقراط والنساء، مع الحرص على استمرار حصول النساء على التعليم والرعاية الصحية والحق في التوظيف وترك المنزل دون رقيب من الذكور، وهي توصيات يبدو أن طالبان التزمت ببعضها وفق سياساتها الأولى بعد دخولها العاصمة وبحسب تصريحاتها الرسمية أيضا.

بيد أن نشوة النصر حالت دون انصياع طالبان لبعض المطالب الأخرى، وأبرزها تشكيل حكومة توافقية، إذ أعلنت الحركة أنها لا تنتوي تشكيل حكومة انتقالية، ما اعتُبر مؤشرا على عدم رغبتها في مشاركة السلطة مع غيرها، أضف لذلك سلسلة الاغتيالات التي نفذتها بحق معارضيها أثناء استحواذها على مدن أفغانستان الأسبوع الماضي. على أي حال، تملك واشنطن الآن سطوة محدودة في البلاد، وتكمن إحدى أوراقها المهمة في قدرتها على منع أو إتاحة تدفق المساعدات الاقتصادية والوصول المباشر إلى المؤسسات المالية الدولية، لكنها تظل أدوات بعيدة عن تغيير الواقع على الأرض.

علاوة على ذلك، تسبَّب انفتاح الصين وإيران وروسيا على التعامل مع طالبان في تقويض نفوذ واشنطن أكثر، وهي دول ستمارس ضغوطا على الحركة لكبح الإرهاب، وحماية مصالحها الاقتصادية، ومشاركتها النفوذ والموارد الطبيعية مع وكلائها في أفغانستان، لكنها لن تضغط عليها بالطبع من أجل إشراك غيرها في السلطة أو ضبط تجاوزات مقاتليها بحق المواطنين الأفغان. لذا، فإن سلوك طالبان سيعتمد بالأساس على قدرة المجتمعات الأفغانية على التفاوض مع قادة البلاد الجدد.

على صعيد آخر، وفيما يتعلَّق بمكافحة الإرهاب، فإن الأخبار القادمة من كابول ليست سيئة بالكلية، فرغم أن قطع طالبان علاقاتها مع تنظيم القاعدة ليس مرجحا، فإن الحركة لن تسمح بشن هجمات إرهابية من أراضٍ أفغانية وفق تعهُّداتها في اتفاق الدوحة. وليس ذلك بحال مطلبا أميركيا حصريا، بل مطلب صيني وإيراني وروسي أيضا، أضف إلى ذلك أن طالبان لديها مسوِّغات قوية لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان على وجه الخصوص، وهو ما يتقاطع مع أهداف العواصم الأربع المذكورة آنفا.

أفضل ما يُمكن أن يتمخض عن تجربة طالبان الجديدة في السلطة هو تبلور نظام سياسي واجتماعي مشابه للنظام الإيراني، بحيث تشكِّل طالبان مجلسا أعلى يضم عددا من قياداتها لتعمل تحت إمرته طبقة من المؤسسات التكنوقراطية تمارس الإدارة الفعلية على الأرض. وفي سيناريو متفائل جدا، قد تسمح القيادات الأفغانية الجديدة بضرب من ضروب الانتخابات التشريعية والتنفيذية، وتمنح التكنوقراط بعض المناصب، وتخصص للأقليات الإثنية حصة في مؤسسات الإدارة وصنع القرار. بعد عقدين كاملين، و2400 قتيل أميركي، وتريليون دولار، ليست هذه -على الإطلاق- النتيجة التي طمحت إليها الولايات المتحدة في أفغانستان، بيد أنها نتيجة أخذت تتشكَّل تحت ناظرها لسنوات وسنوات.

————————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.