صحبة الصالحين .. تقييم وتبيين

كتب بواسطة الشيخ عبد الله العمر

لقد وضع الإسلام حيزاً كبيراً في منهجه الدعوي والأخلاقي للصحبة الصالحة..
حتى وإن لم تكن في أي دين لها وجود والإسلام مُنَّزه عن ذلك النقصان.
فينبغي في العُرف والحسَّ الإنساني البحث عنها. ذلك أن الغبر لا يقوم بذاته، والمشاركة في الخير مباركة.
والأخوة في الدين هي أساس الصحبة الصالحة، وهي الوعاء الذي يستوعبها..
وذلك أن الله سبحانه قدم الأخوة على الصحبة فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10). مما يعني إنه لا صحبة حقيقية إلا في ظلال الأخوة الإيمانية ومن هنا نبدأ فنقول أنه قد وضع رسول الله عليه الصلاة والسلام مدماك هذه الصحبة ورسم معالمها في الحديث الشريف: ” المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ” رواه الترمذي، ولقد ذكر الحديث أعلى مراتب الصحبة “”والمحبة بين أخوة الدين والإيمان، وهي مأخوذة من تخلَّل المودة في القلب وتمكِّنها فيه.
ليصل إلى حد محاكاة أحدهما الآخر في أقواله وأفعاله دونما مراجعة أو نظر.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بتقوى الله وأن يكونوا مع الصادقين.
فإذا ليست هي مصاحبة عابرة ولا مرافقة طارئة تنتهي بانتهاء زمانها ومكانها.. بل هي كينونة دائمة ومجالسة قائمة لا انفكاك بين أصحابها كمن يظفر بكنز يغتني منه ويستغني به..
ويكفي ان اسم الصحبة اقترنت أولاً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنال بذلك أعلى درجات الشرف فيها، فكانوا أنموذجاً لا يُحاكى في تاريخ الإنسانية في الصحبة الإيمانية الصادقة الخالصة.
وقد كان أول صاحب في الإسلام ذكره القرآن، وكان له شرف الصحبة مع خير خلق الله وصفوة رسله محمد صلى الله عليه وسلم.
هو الخليفة الراشد أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) والذي ذكر القرآن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة: ٤٠)
ولم تكن صحبة الصديق للرسول الكريم في الهجرة فقط بل منذ بزوغ فجر الإسلام فكانت في الميسر والمعسر وفي الحل والترحال وتجسدت في المصاهرة والقرابة باقتران ابنة الصديق رضي الله عنه الحميراء، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها بالرسول الكريم زوجة صالحة لا يشق لها غبار.
واختيار الصاحب الصالح ضرورة شرعية وذلك لما تتركه من أثر على الصاحبين معاً مادياً ومعنوياً، فإن كانت كما ينبغي لها أن تكون تركت أثرها القريب والبعيد كما يترك العطر والطيب أثرهما عند المماسة أو الشم، وإن كانت غير ذلك تركت أثرها السيء ريحاً منتنة وعبقة تزكم الأنوف وتلوث الأيدي عند اللمس أو الاقتراب..
وهو ما فسره الحديث الشريف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة.
ولا يضر في الصحبة أن تقوم على المناصحة مع المصافحة، وعلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والإسلام يجعل من أخوة الإسلام وصحبة الدين والإيمان تصل بأصحابها إلى حد أن يكون كل واحد منهما مرآة لأخيه. ينظران إلى بعضهما كمن ينظر إلى نفسه سواء بسواء فيريان الحسنات كما يريان العيوب وهذا ليس أقرب منه درجة أو إحاطه به جانباً.
وليس ما ذكرناه من أثر الصحبة ومكانتها مقصوراً على الدنيا وحدها بل إنه يمتد الأثر الطيب أو السيء إلى الدار الآخرة.
ذلك إن الإسلام ميَّز أخوة الدين والإيمان عندما ذكر الحديث الشريف عن السبعة الذين يظلهم الله بظله الشريف يوم لا ظل إلا ظلّه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله : وذكر منهم : ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه . (متفق عليه).
وبالمقابل هناك المصير المشؤوم لمن اتخذ الأخوة والصحبة الكافرة التي تردي بأصحابها في ويل وندامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّاَلِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتَا ليتني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً* لَّقَدْ أضلني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءني وَكَانَ الشَّيْطانُ للإنسان خَذُولاً} (سورة الفرقان: ٢٧، ٢٨، ٢٩).
والسؤال هنا، ما أثر المصاحبة الصالحة، في حياة المسلم، وما الفائدة المرتجاة منها، فتقول إنه يمكن حصرها في ثلاثة أمور:
1- إزياد المؤمن إيماناً وقرباً من الله تعالى عندما يلازم الصالحين، ويستقي من طلعتهم الزاد والمعين. فهم ينطبق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر من يجب التأثر بهم والإقبال عليهم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قِيلَ : “يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ ؟ قَالَ : ” مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيَتُهُ” (الترمذي)، أي أنه بمجرد أن ترى واحداً منهم تذكر الله شكراً وعرفاناً لما تجده من أثر من صحبة تُذكّر العبد بالله وبالعمل الصالح.
2- الاستفادة من علمهم إن كانوا ذوي علم ومعرفة فتكون الصحبة هنا ذات فائدة مضاعفة، فمن يصاحب العلماء ويجالسهم فقد نال خيراً كثيراً وملك نفعاً عظيماً.
3- إحياء القلوب بزاد الإيمان والتقوى في مصاحبة ومجالسة الصالحين حيث أن العبد يبقى مفتقر إلى من يُذكّره وينصحه فلا بد أن يجد واعظاً حياً يأخذ على يديه وينصره ظالماً كان أو مظلوماً..
ولا منة لإحد على أخيه في ذلك، فالدين النصحية كما جاء في الحديث الشريف يقول ﷺ: “الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ” (صحيح مسلم). ألم يقل سيدنا موسى عليه السلام وهو نبي مرسل للعبد الصالح الخضر عليه السلام:
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (سورة الكهف: ٦٦)؛اً فلا غرو في ذلك ولا ضرر ولو كانت تلك الصحبة ليوم واحد أو ساعة واحدة.
وهكذا نكون قد أحطنا ببعض جوانب صحبة الصالحين التي ينبغي للمؤمن أن يقتفي آثار أصحابها بعد ندرة وجودها وعز امتلاكها سيما في أيامنا هذه حيث غلب على الناس في تعاملهم عامة المنفعة والمصلحة الآنية الرخيصة التي تقيّم الأصحاب بما يملكون من مال أو جاه أو سلطان وصدق الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (سورة ابراهيم:٢٤) والحمد لله رب العالمين .

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.