المهاجرون الحضارمة في أفريقيا

بقلم : منير بن وبر

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، اشترى تاجر حضرمي يُدعى محمد بازرعة، وكالة أخشاب في منطقة الجمالية بحي الأزهر الشريف في القاهرة، ثم حوَّل الوكالة، التي كانت قائمة منذ القرن السابع عشر، إلى وكالة لبيع البُن اليمني الشهير، إلى جانب منتجات أخرى. يُحكى أن محمد بازرعة هو أول مَن أدخل تجارة البُن إلى مصر، كما يُذكر أن الطلبة اليمنيين القادمين للدراسة في الأزهر الشريف هم أول مَن أدخل القهوة إلى مصر.

لا تزال وكالة بازرعة قائمة إلى اليوم؛ وهي مثال فريد للعمارة الإسلامية، كما أنها رمز للتواصل بين حضرموت، في جنوب اليمن، ومصر.

كما تُعد أسرة بازرعة نموذجاً آخر من الأُسر الحضرمية التي هاجرت وأثَّرت في المجتمعات الأخرى؛ حيث يُذكر أن آل بازرعة قد استطاعوا تكوين ثروة من تجارتهم في مصر، كما أن لهم أعمالَ خير ٍكثيرة؛ منها بناء العديد من المساجد، وإمداد أعداد أخرى منها بالتيار الكهربائي.

وإلى جانب البُن اليمني الشهير، كانت وكالة بازرعة تتاجر أيضاً في اللبان؛ وهي تجارة حضرمية موغِلة في القِدم، حيث كانت الحضارة الفرعونية تستخدم اللبان القادم من حضرموت وأرض بونت، في القرن الإفريقي؛ من أجل التقرُّب إلى الآلهة، وكان الفرعون نفسه يحضر تلك الطقوس في احتفالاتٍ كبيرة مهيبة.

إن قصة تجارة وتأثير أسرة آل بازرعة الحضرمية ليست سوى مثال صغير على هجرة الحضارمة إلى إفريقيا. وهي هجرات قديمة؛ لكن تم توثيقها بشكل جيد منذ الفترة الإسلامية؛ حيث شاركتِ القبائل الحضرمية في الفتوحات الإسلامية منذ انطلاقها. ومن الحكايات التي تذكرها كتب التاريخ، مشاركة الحضارمة في حصار حصن بابليون في القاهرة، والذي دام سبعة أشهر، وكان سقوطه إيذاناً بدخول الإسلام إلى مصر.

ومن مشاهير الحضارمة في فتوح مصر؛ معاوية بن حديج، الذي كان من الأمراء المقدَّمين في الغزو، وشارك في غزو النوبة جنوب مصر، وهو الذي حمل خبر فتح مصر إلى عمر بن الخطاب، مع الغنائم.

استقر الكثير من الحضارمة في مصر بعد فتحها، كما لحق بهم أعداد أخرى من حضرموت على مر السنين، وقد تقلَّد بعضهم المناصب الإدارية والقضائية الرفيعة، حتى يُحكى أنه بين عامَي 84 و2444 هجرية، أي طِوال قرن ونصف القرن، ولي القضاء بمصر تسعة من رجال حضرموت.

*ولعل من الأمثلة الحديثة على سمو مكانة الحضارمة وتأثيرهم في مصر هو الشاعر والكاتب المصري من أصول حضرمية، علي بن أحمد باكثير، والذي ألَّف العديد من الأعمال الخالدة؛ مثل “وا إسلاماه”، وقام بترجمة مسرحية “روميو وجولييت”، كما تشارك جائزة الدولة التقديرية مناصفة مع الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب، نجيب محفوظ.*

ولم تقتصر الهجرات الحضرمية إلى قارة إفريقيا على مصر فحسب؛ إذ تعتبر سواحل القرن الإفريقي هي الأقرب إلى سواحل حضرموت، لذلك كانت مناطق مثل جيبوتي وإثيوبيا وإرتيريا والصومال من أشهر وجهات المهاجرين الحضارمة لقرون من الزمن، وذلك إلى جانب منطقة السواحل في جنوب شرق إفريقيا، والتي تشمل كينيا وتنزانيا وموزمبيق وجزر القمر.

يُقدَّر عدد ذوي الأصول الحضرمية في كل من كينيا وتنزانيا وجيبوتي والسودان بنحو ستة ملايين نسمة. ولا توجد دلائل أكيدة على الوقت الذي توافد فيه الحضارمة إلى مثل هذه الأماكن؛ لكن خبراء التاريخ الشرق إفريقي يعتقدون أن هناك موجتَين للهجرة الحضرمية على الأقل، الأولى من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر، والثانية من القرن الثامن عشر إلى بداية القرن العشرين.

غالباً ما كانت الهجرات الحضرمية إلى إفريقيا محصورة بالذكور فقط، وكانوا يميلون إلى الزواج من نساء العشائر المحلية للوصول إلى الشبكات التجارية. وبمرور الوقت، تمكَّن الحضارمة من الاندماج في تلك المجتمعات وتنمية تجارتهم ونشر الإسلام، وحتى تأسيس مجتمعات جديدة.

كما استطاع بعض الحضارمة تَبَوُّؤَ مكانة اجتماعية مرموقة. ومن تلك المجتمعات قبيلة “الأرتيقة” أو “أرتيجا” التي حكمت منطقة سواكن في شمال شرق السودان لقرون عديدة.

ووفقاً لدائرة المعارف البريطانية، يُعتقد أن هذه القبيلة من نسل أحد المهاجرين الحضارمة الذين قَدِموا إلى المنطقة منذ ما قبل الإسلام. وقد كان لقبيلة “أرتيجا” شأن كبير؛ حتى إن الكلمة تعني “أرستقراطي”؛ وهو ما يُوحي بتربُّعهم على قمة النظام الاجتماعي.

ومن بين الأمثلة الحديثة الشهيرة على المكانة والتأثير اللذين حظي بهما ذوو الأصول الحضرمية نذكر أحمد عبدالله سامبي؛ رئيس دولة اتحاد جزر القمر، من 2006 إلى 2011، ورجل الأعمال والمستثمر الكيني عوض صالح شيرمان، وكذلك الملياردير الإثيوبي- السعودي محمد العمودي.

وعلى الرغم من أن الهجرات الحضرمية إلى إفريقيا قديمة، وبالتالي احتمالية توارث المكانة والثروة؛ فإن ذلك لا ينطبق بالضرورة على الجميع؛ ولعل قصة رجل الأعمال عوض شيرمان، أحد الأمثلة على ذلك؛ حيث كان والده سائق سيارة أجرة في مومباسا.

أنشأ عوض شيرمان

ورشة لإصلاح الدراجات في سن مبكرة، ثم قام بتحويل ورشته إلى مرآب لإصلاح وبيع السيارات المستعملة، وانطلق بعد ذلك في عالم المال والأعمال والاستثمار في مجالات عدة؛ مثل البناء والعقارات وتربية المواشي وتجارة الشاي والقهوة. وكعادة الحضارمة بدول المهجر، اشتهر شيرمان بنشاطه الخيري، ومنه، على سبيل المثال لا الحصر، إنشاؤه مخيماً للاجئين الصوماليين بكينيا.

تجسِّد قصة رجل الأعمال عوض شيرمان، واحدة من عشرات، بل ربما المئات، من قصص المثابرة الملحمية التي يشتهر بها الحضارمة المهاجرون، وذلك إلى جانب صفات أخرى لا غنى عنها للنجاح الحقيقي؛ مثل الأمانة والنزاهة والبراعة، ولا تزال دول ومجتمعات الشتات الحضرمي تشهد لأجداد الحضارمة المؤسسين بسمعة عَطِرة إلى اليوم، كما لا يزال الحضارمة ممتنين للفرص العظيمة التي منحتها إياهم مجتمعات المهجر، مصداقاً لقول الأديب المصري، والحضرمي الأصل؛ علي أحمد باكثير، عن الحضارمة:“ولو ثقَّفت يوماً حضرمياً، لجاءك آية في النابغينا”.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.