المدارس النظامية في العهد السلجوقي وأثرها في العالم الإسلامي

د. علي الصلابي

اختلف العلماء المؤرخون وأهل العلم في بداية نشأة المدرسة الإسلامية، فمنهم من قال إنها ظهرت في عهد نظام الملك الذي أنشأ المدرسة النظامية سنة (459 هـ)، ومنهم من قال إنها كانت قد ظهرت قبل ذلك بكثير، ولكن بالرجوع إلى المصادر والكتب المتخصصة نجد أن أول ظهور للمدرسة كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150-217 هـ)، ويبدو من نسبتها إلى مؤسسها أنها قد أُسّست في حياته، وأبو حفص البخاري من الفقهاء الذين تزعموا الحركة الفكرية في مدينة بُخارى، ثم نشطت حركة إنشاء المدارس في بلاد المشرق بعد هذا التاريخ.

فقد أُنشئت مدرسة بنيسابور منذ بداية القرن الرابع الهجري [الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي، ص 94]، أنشأها الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الشافعي (270-354 هـ).

وكانت المدارس التي أسست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر [المدرسة مع التركيز على النظاميات، ص 236-237].

ومن الجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهرت في دمشق قبل ظهورها في بغداد، فقد أُنشئت أول مدرسة فيها عام (391 هـ)، وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية المنسوبة إلى منشئها، صادر بن عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق رشأ بن نظيف إذ أسس المدرسة الرشائية في حدود سنة (400 هـ)، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من الحلق التي كانت تعقد في المسجد، إلى مكان يختص بتلقي علم معين، فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال، وتوفَّر لهم أسباب التعليم.

وفي ما يأتي ذكر لبعض المدارس التي أنشئت قبل المدرسة النظامية، حسب التسلسل الزمني لظهورها، وهي أيضا على سبيل المثال لا الحصر:

مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150-217 هـ).
مدرسة ابن حبان، في بداية القرن الرابع الهجري، ففي نحو سنة (305 هـ) شيد أبو حاتم محمد بن حبان البستي دارًا في بلده بست، وجعل فيها خزانة كتب وبيوتًا للطلبة.
مدرسة أبي الوليد، قبل سنة (349 هـ) أنشئت مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي (ت 349 هـ)، ويذكر أنه كان كثير الملازمة لها.
مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد (ت 388 هـ) الذي وصفه السبكي بأنه كان إلى أن خرج من دار الدنيا وهو ملازم للمسجد ومدرسته.
المدرسة الصادرية أنشأها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة (391 هـ)، في مدينة دمشق.
المدرسة البيهقية بنيسابور، أنشئت قبل أن يولد نظام الملك، وقد ولد سنة (408 هـ)، فتكون هذه المدرسة أنشئت قبل هذا التاريخ.
مدرسة أبي بكر البستي (ت 429 هـ)، بناها لأهل العلم بنيسابور على باب داره ووقف جملة من ماله عليها، وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والناظرين بنيسابور.
مدرسة الإمام أبي حنيفة، أنشئت بجوار مشهد أبي حنيفة، وأسسها أبو سعد ابن المستوفي، وافتتحت قبل افتتاح المدرسة النظامية بـ5 أشهر [التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد، ص 351].

وقد ذكر بعض المؤرخين أن الغزنويين اهتموا بالمدارس بفضل اهتمام بعض أمرائهم بها، كالنصر بن سبكتكين حينما كان واليًا على نيسابور، وسماها السعدية، فجاء نظام الملك فوجد أمامه هذه النماذج العديدة من المدارس، ورأى الفاطميين قد سبقوه إلى تشييد الأزهر، والاعتماد عليه في دعوتهم، ودراسة مذهبهم، فكانت هذه مصادر إيحاء وتحفيز لإنشاء مجموعة من المدارس، وليست مدرسة واحدة، لتشارك المجاهدين في حربهم على المبتدعين بالسلاح نفسه.

لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي، والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام (455 هـ)، فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا وسنّيًّا متحمسًا، هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسيًّا لن يكتب له النجاح إلا إذا وازت هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الحقبة وما قبلها في الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سُنِّيٌّ مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، بخاصة أن السلاجقة ورثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهدًا في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم.

كذلك غضّوا الطرف عن نشاط دعاة الإسماعيلية في فارس والعراق، وترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الشيعة فيهما، بخاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية، تتولى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشأ أبو علي بن سوَّار الكاتب، أحد رجال عضد الدولة (ت 372 هـ)، دار كتب في مدينة البصرة، وأخرى في مدينة رامهرمز، وجعل فيها أجرًا على من قصدهما، ولزم القراءة، والنسخ، وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة [تاريخ التربية عند الإمامية، عبد الله فياض، ص 87-89].

وأسَّس أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة (ت 416 هـ)، دارًا للعمل في الكرخ في عام (383 هـ)، ووقف فيها كتبًا كثيرة، ذكر ابن الأثير أنها بلغت 10 آلاف و400 مجلد في أصناف العلوم، وأسند النظر في أمرها ورعايتها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة، وبعد وفاة سابور انتقلت مراعاة هذه الدار إلى الشريف الرضي نقيب الطالبيين [التاريخ السياسي والفكري، د. عبد المجيد أبو الفتوح، ص 177].

كذلك اتخذ الشريف الرضي (ت 406 هـ)، الشاعر الإمامي المشهور، دارًا أسماها دار العلم، وفتحها لطلاب العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه.

ويدل مجرد اسم هذه المؤسسات على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة، فكانت دار الكتب تسمى قديمًا خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم، وخزانة الكتب جزء منها، وهذا يشير إلى أن هذه الدور الجديدة كانت لها وظيفة تعليمية أيضًا.

وإلى جانب دور العلم هذه كان كثير من أئمة الشيعة الإمامية يدعون إلى مذهبهم وينشرون عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم، وأعني بها المساجد التي دفن فيها أئمتهم -على حد قولهم- لأن بعضها لا يثبت، وعرفت عندهم بالعتبات المقدسة [المنتظم (8/11)].

أثر المدارس النظامية في العالم الإسلامي
وفّق الله تعالى النظام توفيقًا قلَّ نظيره في التاريخ السياسي، والعلمي، والديني، فقد عاشت مدارسه أمدًا طويلًا، وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء 4 قرون، إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفى (817 هـ)، فقد زالت في نهاية القرن التاسع الهجري. وأدّت رسالتها في تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي، وزوّدت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحًا من الزمن، وبخاصة دوائر القضاء، والحسبة، والاستفتاء، وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر، وبلغوا الشمال الأفريقي، ودعموا الوجود السنّي بها، إذ تخرج في هذه المدارس جيل تحققت على يديه معظم الغايات التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيرًا من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى لتدريس الفقه الشافعي، والحديث الشريف، ونشر عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها، أو تولّي مجالس القضاء والفتيا، أو بعض الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة.

وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي -أول مدرس بنظامية بغداد- قوله “خرجت إلى خراسان، فما بلغت بلدة، ولا قرية إلا وكان قاضيها، أو مفتيها، أو خطيبها تلميذي، أو من أصحابي” [طبقات الشافعية (3/89)].

وقد أسهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضًا تقلص نفوذ الفكر الشيعي، بخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي على قمَّة المفكرين الذين شنّوا حربًا شعواء على الشيعة، بخاصة الباطنية الإسماعيلية، فقد ألف كتبًا عدة، أشهرها (فضائح الباطنية) الذي كلفه بتأليفه عام (487هـ) الخليفة المستظهر، وسيأتي الحديث عن مؤلفاته عند الحديث عن ترجمته بإذن الله.

وقد نجحت المدارس النظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي، فقوي عوده، ودخل مناطق جديدة، وبدأ يشق له طريقًا في العراق وفي المشرق الإسلامي، وصارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس، ومثارًا للتنافس، بقدر ما أصبحت نموذجًا يقتدي به مؤسسو المعاهد منذ بداية تشييدها إلى ما بعد ذلك بعصور طويلة.

وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها، ورجالها، وعلمائها السبيل، ويسّرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح، بخاصة في المناطق التي كانت موطنًا لنفوذ الشيعة في تلك المرحلة كالشام، ومصر، وغيرها.

لقد كانت المدارس من خير ما اهتدى إليه العقل البشري للتفرغ للعلم وفق معطيات ذلك العصر، وكانت (النظاميات) من أفضل الوسائل لنشره وتعميمه، وتحقيق الأهداف التي رسمها نظام الملك من سيادة الكتاب، والسنة، وعقيدة أهل السنة والجماعة على الدولة، والأمة الإسلامية، ودحر المد الشيعي الباطني الرافضي الذي كانت الدولة الفاطمية بمصر تدعمه.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.