بتهمة “اليسار الإسلامي”.. كيف تهاجم السلطات الفرنسية فضاءات الإنتاج الحر للمعرفة؟

صرحت وزيرة التعليم العالي في فرنسا، فريديريك فيدال، مؤخرا، بأن شبح “اليسار الإسلامي” يطارد فرنسا، وقد استخدم هذا المصطلح أيضًا وزير التعليم جان ميشيل بلانكي، وأصبح استهداف المفكرين المشتبه في صلتهم بما يسمى “الإسلام السياسي” -ولا سيما المتخصصين في دراسة العنصرية المؤسسية أو العلاقات الاجتماعية في فرنسا ما بعد حقبة الاستعمار- أمرا واضحا الأشهر الأخيرة، وهو ما يعكس توجه السلطة نحو اليمين المتطرف في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية لعام 2022، بحسب مراقبين.

ويستخدم اليمينيون في فرنسا مصطلح “اليسار الإسلامي” عند الحديث عن أوجه الاتفاق والتحالف السياسي المزعوم بين الإسلاميين واليساريين في البلاد، وخاصة حول قضايا كالحجاب واستقبال اللاجئين.

ونشر موقع “كارتيي جنرال” الفرنسي حوارا أجراه جوناثان بودوان مع الفيلسوفة والأكاديمية الفرنسية ناديا يالا كيسوكيدي حيال هذه المسألة.

تناقض رسمي
تعليقا على تصريحات وزيرة التعليم العالي الفرنسية بخصوص ما تسميه “اليسار الإسلامي” وتقييمها لردود مؤتمر رؤساء الجامعات والمركز الوطني للبحوث العلمية، اعتبرت ناديا أن ردود فعل الوسط الأكاديمي سلطت الضوء على التناقض في الخطاب السياسي لكبار ممثلي الدولة. ولعل أكثر ما يدعو للقلق هو استخدام الدولة مصطلحات تندرج ضمن إطار نظريات المؤامرة، وبالتحديد الادعاء بوجود مؤامرة تحبك ضد فرنسا من الداخل من طرف خونة الأمة، يُقصد بذلك الأكاديميون الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع “المتطرفين الإسلاميين” لإفساد الشباب الفرنسي، بحسب تعبير تيارات يمينية فرنسية.

وأضافت الفيلسوفة بجامعة باريس الثامنة أنه عندما يشير مؤتمر رؤساء الجامعات والمركز الوطني للبحوث العلمية إلى أنه لا يمكن أن يكون “اليسار الإسلامي” موضوع دراسة أكاديمية، فإنه يعني بذلك أن استخدامات هذه الفكرة أيديولوجية وأمنية بحتة. وهي تهدف إلى ترسيخ فكرة خيالية مثيرة للقلق عن مجتمع محاصر لتبرير اتخاذ جميع التدابير السياسية والقانونية بتعلة “حماية” السكان من الخطر الوشيك، التي تقيّد الحريات وحرية التعبير بما في ذلك أيضا الحريات الأكاديمية.

وذكرت الفيلسوفة -التي تدرس مفهوم “السواد” بتداعياته الاستعمارية في فرنسا وبقية أوروبا- أنه يتم بانتظام نشر قوائم بأسماء المثقفين والأكاديميين المشتبه في وجود صلة لهم مع “العدو” في الصحف الرئيسية أو على حسابات تويتر، والتي لا تكون بالضرورة مجهولة المصدر. وتم تصنيف بعض الباحثين على أنهم يمثّلون تهديدا أخلاقيا وملموسًا على المجتمع، واتُّهموا بأن عملهم سيكون أساسا أيديولوجيا للتعصب الإجرامي. في المقابل، يعتبر نشر مثل هذه القوائم بمثابة دعوة مستترة للعنف (ضدهم) بسبب تعبير الفيلسوفة.

وفي إجابتها عما إذا كانت تصريحات وزيرة التعليم العالي محاولة للتغطية على الصعوبات المادية التي يواجهها الطلاب والباحثون في السياق الحالي لجائحة كورونا، قالت الفيلسوفة “منذ بداية الوباء، تُركت بعض الجامعات للتصرف بمفردها حيث اضطرت إلى توزيع وجبات على الطلاب الذين فقدوا وظائفهم أو الدعم المادي الأسري بسبب الأزمة الاقتصادية، أو نشر تدابير المساعدة لشراء الأدوات الرقمية مثل أجهزة الحاسوب”.

وأعربت الفيلسوفة -المولودة لأب كونغولي وأم فرنسية- عن قلقها الشديد في الظروف الحالية بشأن تفضيل الوزارة شن حرب ضد عدو وهمي على حساب التعامل مع المشاكل الحقيقية التي يواجهها المجتمع الأكاديمي والتي تستمر في التفاقم.

وتقول إن ما يحدث لعبة خبيثة تتمثل في إضعاف ما هو هش بالفعل، إذ تتعرض حرية التعبير والمعرفة لهجوم عنيف من قبل حركات دينية متطرفة فاعلة وفتاكة، ولكن ما يحدث في المقابل هو استهداف فضاءات إنتاج المعرفة الحرة، بينما الطلاب الذين تُركوا بمفردهم لمدة عام يحتاجون إلى مؤسسات قوية يعتمدون عليها، ولكن ما يحدث أن هذه المؤسسات باتت تجرّد من أهليتها وشرعيتها.

مثير للجدل
مع قانون البرمجة البحثية الذي تم إقراره في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ومشروع قانون للإشراف على تدريس العلوم الاجتماعية، هل يمكننا القول إن العمل على قضايا ما بعد الاستعمار في الجامعات الفرنسية قد يصبح أكثر صعوبة؟

ترى الفيلسوفة أنه كثيرا ما كان العمل على هذه المسائل معقدا في فرنسا، فعندما بدأت دور النشر الفرنسية المرموقة في ترجمة مواد مهمة في مجال دراسات ما بعد الاستعمار إلى الفرنسية أوائل العقد الأول من القرن 21، كان رد الفعل فوريا قاده باحثون فرنسيون شعروا بأنه لم يعد لهم فائدة وأن مجالات بحثهم قد افتكت منهم.

وذكرت أيضا أن الدراسات ما بعد الاستعمارية تستحق معاملة مميزة من وسائل الإعلام الفرنسية والفضاء السياسي، ويجب فهم السبب الذي يكمن وراء إثارتها “الكراهية”.

وتعبيرا عن رأيها بشأن سلسلة الهجمات التي تستهدف العلوم الإنسانية الأسابيع الأخيرة من داخل الطبقة السياسية وجزء من النخبة المثقفة، قالت الفيلسوفة الفرنسية “يمكننا القيام بالعديد من التحليلات. من ناحيتي، أود التأكيد على نقطة واحدة. أود الإشارة إلى ما أسماه المفكر وعالم الاجتماع البريطاني ستيوارت هال في التسعينيات (الأصولية العرقية) الذي يحيل إلى ظهور (شكل جديد من القومية الدفاعية والعنصرية) التي تجتاح المجتمعات في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية”.

وفي فرنسا، تجد هذه “الأصولية” الآن موطئ قدم لها في السلطة، قد يكون ذلك عن قناعة، أو ربما يعود إلى “الانتهازية الانتخابية”. لقد أنذرت فترة ولاية دونالد ترامب بوضوح بما يمكن توقعه: هجوم مباشر على الديمقراطيات الليبرالية بدعم من الجماعات الرجعية أو المتطرفة، بحسب تعبير الفيلسوفة الفرنسية.

نقد النقد
وفي مقاله الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” (Middle East Eye) البريطاني، قال الأكاديمي الفرنسي فرانسوا بورغا (ولد عام 1948) إنه حتى يتصالح المجتمع الفرنسي مع ماضيه الاستعماري يتعين عليه أولا الاعتراف به والسماح بالبحث فيه.

وأشار بورغا إلى أن استخدام عبارة “اليسار الإسلامي” السياسية ليس حديث العهد بالنظر إلى أصولها، بل إن المصطلح قد صيغ أول مرة عام 2002 من قبل عالم الاجتماع الفرنسي المؤيد لإسرائيل بيير أندريه تاغييف (مواليد 1946) لتشويه مصداقية دعم اليسار الفرنسي للمقاومة الفلسطينية، مثل حركة حماس الفلسطينية، ولقد استُخدم مصطلح “اليسار الإسلامي” منذ البداية لنزع الشرعية عن مقاومة المجتمعات التي تتحدى أنظمة الاحتلال القائمة.

ويقول أيضا إن المظالم التي توصف بأنها “إسلامية” في الغرب تُقابل بالإنكار والتكذيب والازدراء وحتى التجريم، ويُنظر إلى الإمكانات السياسية لخطاب الإسلام السياسي على أنها مجرد وسيلة لتحقيق المطالب الطائفية.

واعتبر الكاتب -وهو أستاذ للعلوم السياسية وباحث بالهيئة القومية الفرنسية للبحث العلمي في مدينة آكس أون بروفانس (Aix-En-Provence) جنوب شرق فرنسا- أن السياسية الفرنسية اليمينية المتطرفة جاي ماري لوبان وجميع مقلديها من اليسار واليمين يتمتعون بكامل الحرية في مهاجمة “العنصريين” لمحاولتهم وضع “حواجز عرقية” داخل المجتمع، وذلك رغم أن الفئة السكانية الذين يتعرضون للوصم بهذه التهم تسعى لفعل العكس.

وقد بدأت مجموعة هامشية من الأكاديميين -وهي أقلية إلى حد كبير ولكنها تتمتع بالدعم الهائل من السياسيين ووسائل الإعلام اليمينية المتطرفة- المطالبة بإجراء تحقيق حكومي (داخل الساحات الأكاديمية) متجاوزة عن عمد هيئات الرقابة الأكاديمية المخصصة لحماية الباحثين والأوساط الأكاديمية من التدخل الحكومي الموجه بدوافع سياسية.

وفي حوار أجرته الجزيرة نت مؤخرا مع بورغا، انتقد المنظر السياسي الفرنسي “تبنّي رئيس الدولة خطاب الإسلاموفوبيا الذي كان محدودا في اليمين المتشدد، وأصبح خطابا رسميا من قمة الدولة” مشيرا إلى أن “المجتمع الفرنسي يعيش أزمة انغلاق ورفض لبقية ثقافات المهاجرين”.

وفي المقابل، قال بورغا في الحوار “الأساتذة والباحثون المتخصصون الذين يشتغلون في حقول العلوم الاجتماعية يرفضون بأغلبيتهم هذا الميل لليمين المتشدد وشبه العنصري ضد الإسلام والمسلمين، غير أن تدخّل وسائل الإعلام وخطاب الدولة يحجب هذا الواقع، فيحتل هذا الهامش بالوسط الأكاديمي المشهد الإعلامي كله، ولديه وسائل إعلام مرئية متضخمة جدا مقارنة بحجمه الحقيقي”.

المصدر : الصحافة الفرنسية + ميدل إيست آي

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.