الشيخ نور الدين عتر وأخلاقيات العلم

معتز الخطيب

إن “آداب العالم والمتعلم” ترجع إلى 3 محاور رئيسة هي: آداب العالم في نفسه، ومع تلامذته، ومع العلم وكتبه وحمَلته من السابقين والمعاصرين، وقد خصصت المقال السابق لبيان أدب العالم في نفسه، وفيه أوضحت موقف شيخنا العلامة المحدث نور الدين عتر -رحمه الله تعالى- من السلطة والظلم، أما هذا المقال فأخصصه لمناقشة شقين: الأول: أخلاق العالم مع طلبته، والثاني: أخلاق العالم مع العلم نفسه.

فمن آداب العالم مع طلبته -كما يذكر الإمام ابن جماعة- الرفقُ بهم، والإخلاص في النصح لهم، وبذل العلم لهم والمبالغة في تفهيمهم، ولقد رأيت شيخنا عتر متحققا بهذه الآداب، وقد مكنني من هذا الحكم أنني تخرجتُ به في الحديث وعلومه، وأدين له بالفضل في ذلك؛ فقد كان مشرفي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وما رأيته يوما إلا هادئا ودودا باشًّا في وجه طلابه مهما اتسعت شقة الخلاف في الرأي. وأذكر هنا موقفين بيننا؛ أولهما: أن بعضهم حاول أن يوغر صدره ضدي بعد مقال كتبته أناقش فيه -نقديا- “عقوبة المرتد”، فاتصل بي وطلب لقائي في حلب لنتناقش في الفكرة. ثانيهما: أن بعض المشتغلين بالحديث حاول أن يثني الشيخ عن الإشراف على موضوعي “رد الحديث من جهة المتن”؛ لخطورة الموضوع في رأيه ولأفكاري النقدية فيه؛ لكن الشيخ -وهو الملتزم بطريقة ابن الصلاح وابن حجر- لم يُنصت لتلك المحاولات.

بل حدثني أنه يحمد الله أنه أشرف على رسالتي، وأنه يفتخر بهذا العمل؛ رغم أنه لم يكن يؤيد كل ما في الرسالة، ورغم أننا اختلفنا في مواضع عدة منها ما جعله يلزم الصمت أثناء المناقشة؛ لكنه احترم رأيي في الخلاف، بل على العكس إذ إنني رددت عليه في بعض تعليقاتي في الرسالة دون أن أسميه، وهو يعرف أنه المعنيّ. لم تُفسد هذه المواقف الود بيننا، كما لم تُخرجه عن رفقه وبذل النصح لي؛ فقد قرأ رسالتي 4 مرات كلمة كلمة، وفي كل مرة كان يترك تعليقا هنا أو هناك بخطه الدقيق المرتبك، وقال لي مرة أنت حبيب إلي؛ لكن العلم أحب إلي، وإنها أمانة. وهي مسألة توضح المسافة التي تفصل بين وظيفة المشرف الأكاديمي وحدود صلاحياته، وبين حق الطالب ورأيه؛ فالإشراف لا يعني أن يجعل المشرف من طلابه نسخا مكررة منه.

ومما يتصل بآداب العالم مع طلبته، الحرص على تقديم المعلومات المفيدة وبذلها لطالبيها، ويدخل في هذا يسر العبارة مع وجازتها، وحُسن السبك والتنظيم؛ لأن ذلك من مقتضيات الإفادة سواء لجهة الإفهام أو التفهيم، أم لجهة صون أوقات المستفيدين عن أن تضيع في المماحكات اللفظية أو الطرائف والمُلَح التي تُمتع وتسلي؛ لكنها تأتي على حساب الإلمام بمسائل العلم وصلبه.

وما أنسَ من الأشياء لا أنسَ حين منحني درجة الدكتوراه في علوم الحديث سنة 2009، فقد اتصل بي في اليوم الثاني طالبا لقائي، ثم قال أصبحتَ الآن زميلا، وحملني أمانة العلم، ووعظني لرعاية حق العلم، وألا أبذله في غير محله. ومنذ ذلك الحين لم يعد يناديني إلا بالدكتور، بعد أن كان يناديني -كما ينادي جميع طلبته وما أكثرهم!- بالشيخ. وكان من نصحه حينها أن الدكتوراه مجرد مفتاح لباب العلم، فبعدها يمكن لطالب العلم أن يلج باب العلم بعد أن امتلك أدواته.

منهج عتر منهج علمي يدرس الإرث النبوي كما حمله علماء الحديث وأئمته الكبار، ويحرص على درس دواوين الحديث جميعها كما هو مسلك الأئمة أمثال المزي والعراقي وابن حجر والهيثمي وغيرهم، بينما منهج الألباني يقوم على استبعاد ما يعتبره ضعيفا باجتهاده

ومن نصائح شيخنا لطالب علم الحديث: أن يكوّن مكتبة من مصادر السنة الستة “الصحيحان: البخاري (256 للهجرة) ومسلم (261 للهجرة)، والسنن الأربعة: سنن أبي داود (275 للهجرة) والترمذي (279 للهجرة) والنَّسائي (303 للهجرة) وابن ماجه (273 للهجرة)” أو الثمانية “مع إضافة مسند أحمد (241 للهجرة) وموطأ مالك (179 للهجرة) إليها”. يقول الشيخ إن “تسديس الستة يرجع إلى ثمانية كما عرفنا من توجهات علمائنا رضي الله عنهم”، فإذا ما جمع الطالب تلك الأصول أردفها بثلاثة كتب:

أولها: كتاب “جامع الأصول في أحاديث الرسول” لابن الأثير الجزري (606 للهجرة) الذي هو بمنزلة الفهرس لها؛ فقد جمع فيه مؤلفه الأصول الستة المعتمدة عند الفقهاء والمحدثين، وهذبها ورتبها وذلل صعابها، وشرح غريبها ووضح معانيها. والأصول الستة -عنده- هي الصحيحان، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك.

اعلان

ثانيها: كتاب “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد” لنور الدين الهيثمي (807 للهجرة) الذي جمع فيه زوائد مسانيد أحمد، وأبي يعلى (307 للهجرة)، وأبي بكر البزار (292 للهجرة) بالإضافة إلى معاجم الطبراني (360 للهجرة) الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) على الكتب الستة.

وثالثها: كتاب “المطالب العالية” لابن حجر العسقلاني (852 للهجرة) الذي جمع فيه زوائد 8 مسانيد كاملة على الكتب الستة، وهي مسانيد أبي داود الطيالسي (204 للهجرة) وأبي بكر الحميدي (219 للهجرة) وابن أبي عمر العدَني (243 للهجرة) ومسدَّد بن مُسَرْهَد (228 للهجرة) وأحمد بن منيع (244 للهجرة) وأبي بكر بن أبي شيبة (235 للهجرة) وعبد بن حُميد (249 للهجرة) والحارث بن أبي أسامة (282 للهجرة)، وأضاف إليها زوائد مسندين آخرين فصارت 10، وهما ما فات الهيثمي من مسند أبي يعلى؛ لأن نسخته لم تكن كاملة، وما وُجد من مسند إسحاق بن راهويه (238 للهجرة) وهو قدر النصف منه.

ونصيحة الشيخ هنا مبنية على فكرة استيعاب دواوين الحديث النبوي؛ لأن هذه الكتب الثلاثة تجمع بين طياتها على الأقل 20 كتابا، ولفهم هذه المدونات فإنه ينصح بكتاب “النهاية في غريب الحديث” لابن الأثير، فهو بمثابة ملخص لشروح دواوين الحديث، فإذا تأملتَ هذا المقترح من الشيخ وقارنتَه بطريقة الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في تقطيع دواوين الحديث إلى صحيح وضعيف، عرفتَ أحد أسباب النفرة بينهما؛ لاختلاف المنهج، رغم أن عادة شيخنا أن لا يسمي أحدا ينتقده من المعاصرين مكتفيا بالقول “قال بعض العصريين”؛ لأن انشغاله الكامل هو بالفكرة لا بقائلها.

فمنهج عتر منهج علمي يدرس الإرث النبوي كما حمله علماء الحديث وأئمته الكبار، ويحرص على درس دواوين الحديث جميعها كما هو مسلك الأئمة أمثال المزي والعراقي وابن حجر والهيثمي وغيرهم، بينما منهج الألباني يقوم على استبعاد ما يعتبره ضعيفا باجتهاده، وعلى تقطيع كتب رواية الحديث وفق مشربه الذي حمله تلامذته من بعده، وهو مسلك يضيق بالاختلاف والتنوع الذي هو خَصِيصة مركزية في التراث الإسلامي، وهذا الفرق سيزداد وضوحا في كتاب شيخنا “إعلام الأنام” كما سأوضح قريبا.

ورغم أن ابن جماعة جعل الاشتغال بالتصنيف ضمن آداب العالم في نفسه، فإنني أرى أنه مسألة ذات شقين يتصل الأول منهما بأدب العالم في نفسه، حيث يؤلف لنفسه على سبيل مذاكرة العلم، وقد كان بعض العلماء قديما يصنفون تذكرة لأنفسهم ابتداء، ثم يظهر لهم أن يُشركوا الآخرين في الانتفاع بما صنفوا إذا رضوه. والثاني يتصل بأدبه مع العلم، ولهذا قال الخطيب البغدادي (463 للهجرة) إن التأليف “يُثبت الحفظ ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويجيد البيان، ويُكسب جميل الذكر وجزيل الأجر ويخلده إلى آخر الدهر”.

ولكن أدب العالم في نفسه وأدبه مع العلم يتكاملان من خلال عدة أمور:

أولها: أن يتحرى في تصنيفه أن يضيف إلى المعرفة بأي وجه من وجوه الإضافة، وكان إمام الحرمين الجويني (478 للهجرة) قد عاب سوء أخلاق بعض المصنفين مع العلم فقال “ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف، يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمَّنه كلام من مضى، وعلوم من تَصَرَّم وانقضى”، ولهذا كان الجويني نسيجا وحده؛ لأنه إنما حاذر هذه الرذيلة، يقول في موضع آخر “ولو ذهبتُ أذكر المقالات وأستقصيها، وأنسبها إلى قائليها وأَعزيها (هكذا هي بالياء) لَخِفتُ خصلتين؛ إحداهما خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها، وهي سرد فصل منقول عن كلام للمتقدمين مقُول، وهذا عندي بمنزلة الاختزال والانتحال والتشبّع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل… وحقٌّ على كل من تتقاضاه قريحته تأليفا وجمعا وترصيفا أن يجعل مضمون كتابه أمرا لا يُلفى في مجموع، وغرضا لا يُصادَف في تصنيف”، والخصلة الثانية التي يحاذرها الجويني -وهي من آداب العلم- “اجتناب الإطناب، وتَنَكب الإسهاب في غير مقصود الكتاب”.

ثاني الأمور: -وهو مرتبط بالأمر الأول- أن يكون الجمع والتأليف مع تمام الفضيلة وكمال الأهلية، ولا تتأتى للمؤلف الإضافة المعرفية إلا بتوفر هذا الشرط فيه؛ بأن “يطلع على حقائق الفنون ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتنقيب والمراجعة”.

ثالثها: ترتيب أولوياته البحثية، مع حسن التصنيف وإيضاح العبارة، وهو ما عبر عنه ابن جماعة بقوله “أن يعتني بما يَعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يُسْبَق إلى تصنيفه متحريا إيضاح العبارة في تأليفه، معرضا عن التطويل الممل والإيجاز المخل مع إعطاء كل مصنف ما يليق به”، و”لا يُخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه”.

ومن تأمل في مصنفات شيخنا وجده قريبا من هذا المسلك جهده؛ رغم أن بعض تصنيفاته ذات طابع تعليمي يوجه إلى طلبة العلم، وهدفها تقريب مسائل العلم المبحوثة بطريقة سهلة المأخذ ومحررة مدقَّقة. وهو يُلح -باستمرار- على العودة إلى المصادر الأصول، ويتحرى ألا يحرر مسألة فقهية إلا بالعودة إلى مصادر أئمة المذهب نفسه؛ بل ويتحرى الرأي المفتى به في المذهب، وليس أي قول فيه، فلا ينقل الفقهيات عن كتب المذهب المخالف، وهذا من أعظم مزايا كتابه “إعلام الأنام”، كما أنه في تدقيق روايات الحديث وألفاظه يتحرى المصادر الأصلية والعالية، فلا ينقل بالواسطة، ولا يقلد كتب شروح الحديث التي قد تتساهل في ذلك؛ بل إنه قد خالف بعض ألفاظ الحديث في كتاب “بلوغ المرام” الذي شرحه؛ لأنها تخالف النسخ الموجودة من كتب الرواية المسندة، وتحري المصادر المبكرة والأصلية هي إحدى المزايا المركزية التي راقته في أطروحتي للدكتوراه حول “رد الحديث من جهة المتن”، ولهذا طلب مني أن أُبرزها أمام لجنة المناقشة.

كان الشيخ طويل النفَس في نشر الكتب، فيبقي الكتاب يدققه ويراجعه ويتأمله، فلا يخرجه حتى تطمئن إليه نفسه، ولهذا كانت مشاريع بعض كتبه تستغرق أعواما، وهذا الحرص فرع عن أمانة الكلمة وتَخَلُّق بأخلاق العلم التي أشار إليها ابن جماعة بألا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه.

وبعيدا عن تحقيقات الشيخ الدقيقة، كشرح علل الترمذي لابن رجب (795 للهجرة)، وعلوم الحديث لابن الصلاح (643 للهجرة)، وهي تحقيقات متقنة، فإن مما اشتهر به كتابين “منهج النقد في علوم الحديث” و”إعلام الأنام في أحاديث الأحكام”، فالأول كان سباقا فيه -في سبعينيات القرن الماضي- إلى ابتكار صياغة جديدة لعلوم الحديث نهج فيها مسلك حسن التقسيم والتفصيل وجمع فيه أشتات المسائل في وحدة موضوعية بنائية، مع إيراد الأمثلة وتحرير المسائل، ومناقشة الإشكالات الحديثة التي يجيب عليها بطريقة تجمع بين القديم والحديث في صياغة قريبة من طلبة العلم عامة.

أما كتابه “إعلام الأنام”، فقد اعتنى فيه بأحاديث الأحكام (أدلة الأحكام الفقهية) من خلال كتاب “بلوغ المرام” للحافظ ابن حجر الذي دقق فيه الإمام وحبّره تحبيرا، ثم جاء الشيخ فشرحه شرحا وافيا، وبما أن الشيخ حنفي المذهب، والكتاب إنما وضع في أدلة الشافعية، فقد أكمل مقاصد الكتاب بإيراد ما يشهد لسائر المذاهب عند اقتضاء الحاجة؛ لكن ما يقتضي الالتفات إليه هنا هو مقصود الشيخ من هذه العناية بأحاديث الأحكام مع اختلاف المذهب، وهو أنه توخى -بعمله هذا- المساعدة على تقارب المسلمين، وهو مقصد يتصل بالسياق الذي انخرط فيه الشيخ وزملاؤه منذ سبعينيات القرن الماضي لمواجهة دعاوى اللامذهبية، ولتقويض مقولة بعض الأثريين (سُموا سلفيين) في زعم اتباع الحديث بديلا عن المذاهب، فأوهموا أن المذاهب في جانب والحديث في جانب آخر.

جمع الشيخ عتر -رحمه الله- بين القرآن والحديث والفقه والتصوف، وكان يقول “وِرد طالب العلم علمه”، ولهذا تفرغ لورده طول عمره، ولم ينازعه فيه شيء، ولقد كان والده يراسله -وهو في مصر- ويذكّره بأن “الله تكفل لطالب العلم بالعيش الهنيء”، وقد جعلها شيخنا قاعدة، وقال إن والدي “-فيما يظهر- أخذها من جدنا الشيخ نجيب -رحمة الله عليه ورضوانه- ثم وجدت هذا من مقولة للإمام الشافعي”.

أراد الشيخ بكتابه البديع هذا الذي أبدع في تحريره وترتيبه، أن يَرُد الأمر إلى نصابه في أن محل النقاش ليس في (عدم الاستدلال بالحديث)؛ بل في (كيفية الاستدلال به) واقتناص الأحكام من ألفاظه؛ فقد تكون دلالة النص ضعيفة أو فاسدة من أصلها، وهذا يرجع إلى أساليب الاستنباط، ومآخذ الأحكام من أدلتها، ومراتب الدلالات، وليس إلى التنكب عن الحديث كما حاول بعض اللامذهبيين أن يُلبّس على الناس. يقول الشيخ إن مقصوده توسيع آفاق المسلم في معرفة أدلة الشريعة؛ بحيث يأنس إلى أن لأهل المذاهب المختلفة أدلة ربما كانت هي أدلة مذهبه نفسها؛ لكنّ لها توجيها (تأويلا) آخر عندهم، كالخلاف في تفسير الأمر الوارد في الحديث -مثلا- بأنه للوجوب أو للندب، وبأن النهي الوارد في الحديث هو للتحريم أو للكراهة؛ وذلك وفق دلائل تظهر لبعضهم قد لا يرضاها آخرون، وكتفسير الأمر والنهي الواردين على صيغة العموم في الحديث بأنهما مُخَصَّصان، أو تفسير الأمر المطلق بأنه مقيد بدليل آخر، وهكذا؛ أي إن مجمل الخلاف يدور حول منهج التأويل، وليس حول مرجعية الحديث كما توهم هؤلاء حين اقتطعوا من السنة أدلة توافقهم، وجعلوا ما اقتطعوه منها هو كل السنة في بابه، ثم جعلوا فهمهم هو السنة التي لا يجوز لأحد خلافها. يقول الشيخ “وقد أدى هذا الأسلوب إلى زيادة الخلاف… بل ربما كان أمرا يستند إلى كلمة في حديث تفرد بها راوٍ من بين جملة رواة ثقات كثيرين، وكان هذا الراوي دون مرتبة الثقة، كما في كيفية وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، ثم يَعتبر من لم يعمل بهذه الهيئة الجزئية التي تفرد بها هذا الراوي دون رواة الحديث نفسه مخالفا للسنة”.

جمع الشيخ عتر -رحمه الله- بين القرآن والحديث والفقه والتصوف، وكان يقول “وِرد طالب العلم علمه”، ولهذا تفرغ لورده طول عمره، ولم ينازعه فيه شيء، ولقد كان والده يراسله -وهو في مصر- ويذكّره بأن “الله تكفل لطالب العلم بالعيش الهنيء”، وقد جعلها شيخنا قاعدة، وقال إن والدي “-فيما يظهر- أخذها من جدنا الشيخ نجيب -رحمة الله عليه ورضوانه- ثم وجدت هذا من مقولة للإمام الشافعي”.

ولقد أكسب التصوف شيخنا حالا يندر بين المشتغلين بالحديث من الأثريين الجدد؛ فقد حوّل بعضهم علوم الحديث إلى مسائل رياضية؛ لكن شيخنا أشبه حالا بالقاضي عياض (544 للهجرة) في كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” الذي خصصه للتعريف بحقوق المصطفى، وحفظ لكل مجال حقه في التعامل مع الحديث النبوي (كلاما، وفقها، وأصولا، وتصوفا)، فميز بين مقتضيات العلم ومقتضيات المحبة في التعامل مع الحديث، ومن هنا كان شيخنا وشيخه عبد الله سراج الدين -رحمهما الله تعالى- يوصيان بكتاب الإمام النووي “رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين”، الذي جعله النووي -كما قال- “مختصرا من الأحاديث الصحيحة، مشتملا على ما يكون طريقا لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلا لآدابه الباطنة والظاهرة. جامعا للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين؛ من أحاديث الزهد ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها، وغير ذلك من مقاصد العارفين”. فقد كان الشيخان -عتر وسراج الدين- يريان أن تصوف النووي -وهو تصوف المحدثين- يجسده “رياض الصالحين”، ويتجلى ذلك من خلال اختيارات النووي في الكتاب وطريقة تبويبه وتقسيمه، وأنه -على اختصاره- يمثل “خلاصة معاني السنة، وحفظه يسهل حفظ الكتب الستة وما وراءها”، ولقد حدثني فقيه الحنابلة في قطر الشيخ وليد بن هادي أنه استقرأ الكتاب فوجده جامعا لمقامات أهل السلوك، وهذا الاستقراء يؤكد -في نظري- ما قاله النووي نفسه في مقدمته بقوله ” جامعا للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين”.

والصلاح قيمة عليا يجسدها الكتاب، وكان شيخنا يحرص عليها في أفعاله؛ فقد تحقق بكمال التأدب بالحديث النبوي، وكنتُ إذا استوصيته خيرا عند سفر أوصاني بالسلام على الصالحين في البلد الذي أتوجه إليه، وديدن الصالحين أنهم لا ينظرون إلى أعمالهم إلا من حيث إنها تقربهم إلى الله، وشرط القرب القبول، (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وَجِلة) أي خشية ألا تُقبل أعمالهم -في ظني والله أعلم-، ولا أنسى حين قرأ شيخنا النسخة الأخيرة من كتابي “رد الحديث” كتب بخطه في آخرها ما نصه “جعلها الله في حرز القبول. آمين”، وأنا بدوري أسأل الله لنا وله القبول وأن يحشرنا وإياه في زمرة الصالحين. آمين.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.