الدكتور عصام العريان وحرصه على أداء الواجب المجتمعي

السيد عبد الله محمود

في وداع الدكتور عصام العريان، أحب أن أقف قليلا أمام أحد جوانب شخصيته الثرية، التي لا أشك أنها سوف تنال ما تستحقه من الدراسة والتقييم بعد رحيل ليل القهر والظلم الذي طال.. ونرجو الله أن نرى فجره قريبا.
والجانب الذي أقصده هنا يصح أن يجمعه عنوان هو “الشعور بالواجب إزاء ما يمر به المجتمع من أحداث”، على أنه لا بد لي أن أستدرك هنا أن هذا الشعور بالواجب لا يسفر عن تلك المواقف التي اعتادها الناس الطيبون أمام هذا الحدث أو ذاك؛ لكن الدكتور عصام ذو طبيعة متفردة في تحديد الموقف الذي يرتضيه لنفسه، ولا يأبه كثيرا أن يتوافق موقفه مع المزاج العام الذي يشكل مواقف الناس، أمام تلك الأحداث أو يكون غير ذلك.

كان المرشح الطبيعى لرئاسة الحزب هو الدكتور محمد سعد الكتاتني، فقد كان هو التالي للدكتور محمد مرسي في هيكل الحزب، وإذ بالجميع يفاجَئون بالدكتور عصام يعلن اعتزامه الترشح لمنصب رئاسة الحزب، منافسا للدكتور الكتاتني.

وسنتوقف هنا أمام موقفين للدكتور عصام لا أظنهما يغيبان عن الكثير منكم أو على الأقل عن بعضكم؛ أحدهما من زمان الشدة، والآخر من زمن الرخاء، فجوهر الإنسان لا يختلف بين هذا وذاك.

أما عن موقف زمان الشدة، فهو يرتبط بتلك الأيام العصيبة التى أعقبت أحداث رابعة 2013، التى وضح فيها أن الحركة الظاهرة لقيادات الحركة الإسلامية لن تكون متاحة، وأن الكثيرين ومنهم الدكتور عصام، أصبحوا مطاردين من سلطات الانقلاب، وكان لا بد من مرحلة انتقالية لتحديد مسارات الحركة البديلة؛ لكن إلى أن يتم ذلك، فمن يتولى توجيه الناس وإرشادهم في تلك الظروف الهائجة؟ هنا نجد الدكتور عصام قد انتدب نفسه في قلة قليلة، يتواصل مع الجمهور بالرسائل المكتوبة والرسائل المشاهدة، يسعى للتذكير بما نحن مجتمعون عليه من أهداف ووسائل، حتى لا تتفرق بنا السبل.

ولم تمهل الأقدار الدكتور عصام سوى أسابيع معدودة بذل فيها غاية جهده، وانتهت باعتقاله. نحن هنا لا نسعى لتقييم ما حدث في تلك الأيام الصعبة؛ لكننا ننظر في سيرة رجل شعر بواجبه، وحدد اختياره، وبذل جهده. واليوم أتذكر ابتسامته الواثقة الهادئة ساعة اعتقاله -فقد كان اعتقاله مصورا- وكأنه يقول لقد اجتهدت وسعيت، وليفعلوا ما يفعلون، فقد فوضت الأمر لله سبحانه وتعالى.

أما موقف زمن الرخاء فهو يرتبط بتلك الأيام التى أعقبت ترك الدكتور محمد مرسى -رحمه الله- لمقعد رئاسة حزب الحرية والعدالة، بعد فوزه في انتخابات رئاسة الجمهورية، فقد أصبح المطلوب شَغل هذا المقعد، وكان المرشح الطبيعى لرئاسة الحزب هو الدكتور محمد سعد الكتاتني، فقد كان هو التالي للدكتور محمد مرسي في هيكل الحزب، وإذ بالجميع يفاجَئون بالدكتور عصام يعلن اعتزامه الترشح لمنصب رئاسة الحزب، منافسا للدكتور الكتاتني.

وهنا لا بد أن نقف قليلا مع قصة الأحزاب السياسية الحديثة، فهى نبت للتجربة الغربية في تنظيم الحياة السياسية، وقد اشتبكت الحركة الإسلامية الحديثة مع مستحدثات هذه التجربة؛ لا ترفضها كلها ولا ترضخ لها كلها، بل تأخذ منها ما لا يتعارض مع شرائع الإسلام وقيمه.

ومن أعراف هذه الأحزاب في التجربة الغربية أن تشغل مواقعها الداخلية من خلال تصويت قواعدها للاختيار بين المرشحين أنفسهم لشغلها، ووفق البرامج التي يطرحونها، ويكفينا أن نقول هنا إن هذه الطريقة لشغل المواقع إنما هي لحكمة ولا حرج أن نلتزم بها، ثم نجتهد في التجريب والتصويب والإنضاج إلى أن تتحدد معالم نموذجنا الخاص الذي نعتمده.

وهنا نواجه إشكالية عملية؛ فقد نشأ أعضاء حزب الحرية والعدالة وقيادته، وتربوا في جماعة الإخوان المسلمين، التى تسير في نهجها كجماعة دعوية على انتخاب قيادات الجماعة؛ لكن دون أن يترشح أحد من أعضائها لشغل المواقع المطلوب ملؤها.

ومن ثم ففكرة الترشح وطرح برامج لنيل ثقة الأعضاء هى فكرة غريبة عن ثقافتهم يخجلون منها، وربما يرى بعضهم أنها لا تليق بهم وبقيادتهم في الحزب، حتى إن نُبه أن هذا حزب سياسي، وليس جماعة دعوية، وأن لائحة الحزب تسمح بذلك الترشح والتنافس.

والبرامج التثقيفية في الحزب لا تكفي لإحداث التحول المطلوب في ثقافة الأعضاء مهما تكررت؛ لكن لا بد من هزة ما، واختراق للحاجز الثقافي الذى يحول بين أعضاء الحزب و الترشح لشغل المواقع القيادية به على المستويات المختلفة، بداية من القرية وحتى المركز أو الحي ثم المدينة ثم المحافظة وانتهاء برئاسة الحزب.

ونعتذر عن هذه الإطالة؛ لكن كان لا بد منها لتوضيح الخلفيات، ونقول هنا يظهر الدكتور عصام ليلقي حجرا كان لا بد من إلقائه لكسر حاجز يحول دون تغيير الأعراف والثقافات، ويعيق التحول عن المألوفات، فهو رجل هذه المواقف.

وقد كانت قراءة الواقع تنبئ -حينذاك- أن فوز الدكتور عصام بمقعد رئيس الحزب ليس احتمالا راجحا، وما أظن أن ذلك كان يغيب عن الدكتور عصام؛ لكن الرجل كان في واد آخر، وفي تفكير آخر، إذ كان يسعى لإحداث تحول ثقافي حقيقي لدى أعضاء الحزب؛ لدفعهم إلى خوض تجربة بناء حزب حقيقي، ينتعش بالتنافس بين قياداته، ويثري مشروعه بما يطرحون في برامجهم لشغل مواقعه.

كان حزب الحرية والعدالة حدثا كبيرا في حياة الحركة الإسلامية في مصر، وكان لا بد له من أمثال الدكتور عصام، ليكون تجربة جادة تنتقل بالحركة الإسلامية الى آفاق جديدة، ولا تأبه بالحسابات الصغيرة التافهة. وقد عشنا بقية الدرس مع الدكتور عصام في أعقاب فوز الدكتور الكتاتني في انتخابات رئاسة الحزب، فقد وجدنا الدكتور عصام بعد هذه الانتخابات متعاونا وليس منزويا، معززا لمواقف المرشح الفائز، وليس مشككا فيها. هكذا كان الرجل، وهكذا يكون الرجال.

رحم الله الدكتور عصام العريان رحمة واسعة وألحقنا به على خير.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.