“سامي طه” أبرز النقابيين المدافعين عن عمال فلسطين.. قصة نضاله الوطني حتى الاغتيال

استذكرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية سيرة “سامي طه حمدان” أحد ألمع المناضلين النقابيين من أجل عمال فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، في تقرير خاص تعكس فيه ملامح الحياة العمالية النقابية في المدن الفلسطينية الكبرى.

وحسب التقرير، ولد سامي طه في قرية عرّابة قضاء جنين في الضفة الغربية لعائلة ريفية بسيطة الحال، وتلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته، وما كاد ينهي السنة الخامسة الابتدائية من دراسته حتى اضطر وهو لا يزال شاباً يافعاً بعد وفاة والده إلى ترك الدراسة والتوجه إلى مدينة حيفا بحثاً عن عمل لإعالة عائلته.

عمل في البداية بفضل رشيد الحاج إبراهيم، في “غرفة التجارة العربية” في منصب متواضع، وانتقل منها إلى “جمعية العمال العربية الفلسطينية” في المدينة كاتباً براتب ضئيل، ويشاء القدر أن تصبح هذه الجمعية مقره ومسرح إنجازاته المهنية طيلة حياته الغنية والقصيرة.

دأب سامي طه بعد تسلمه عمله الجديد على دراسة الأوضاع العمالية المحلية والدولية وقوانينها وظروفها، وفي الوقت ذاته ثابر على تثقيف نفسه بالمطالعة المستمرة ودرس اللغة الإنكليزية حتى أتقنها وراح يتدرج في استلام المسؤوليات في “جمعية العمال العربية الفلسطينية” برعاية رئيسها عبد الحميد حيمور.

كانت “جمعية العمال العربية الفلسطينية” أول وأقدم تكتل عمالي عربي في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، وكانت بداياتها في حيفا سنة 1923 في أوساط سكك الحديد العرب بقيادة حيمور، ولاقت الحركة العمالية العربية منذ البدء مقاومة عنيدة من قبل كل من المنظمة الصهيونية العمالية الكبرى “الهستدروت” وسلطات الانتداب، ولم تعترف هذه الأخيرة بالجمعية إلاّ بعد مرور سنتين على تأسيسها في آذار/ مارس 1925.

وأخذت الجمعية بعد الاعتراف بها تنمو بقيادة حيمور ورفاقه، ويزداد عدد أعضائها وصارت تؤسس فروعاً لها في البلاد منها فرع يافا، واقتصر نشاط الجمعية في عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين على الشؤون العمالية بما في ذلك التنظيم الداخلي وعقد المؤتمرات والتفاوض مع أرباب العمل في القطاعين العام والخاص.

الإضراب الكبير

بيد أن الجمعية قامت بنشاط كبير خلال الإضراب العام سنة 1936، فأسّست لجاناً تولت تنظيم الجماهير وتقديم الإعانات، ومثّل سامي طه الجمعية في “اللجنة القومية” التي أشرفت على الإضراب وهو لا يزال في سن الخامسة والعشرين.

مرت الحركة العمالية النقابية العربية بمرحلة ضعف عام في أعقاب الثورة الكبرى (1936-1939) بسبب تدابير السلطات البريطانية القمعية، غير أن الحياة بدأت تدب من جديد في مكاتب “جمعية العمال العربية الفلسطينية” وفروعها بعيد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وكان لسامي طه إسهام كبير في هذه النهضة التي رافقت سنين الحرب الخمس.

وشهدت فلسطين خلال هذه السنين نهضة اقتصادية صناعية غير مسبوقة نتيجة نشوء صناعات محلية جديدة تحت إشراف السلطات البريطانية لتلبية احتياجات جيوشها في صحراء مصر الغربية للتصدي للقوات الألمانية النازية الزاحفة على مصر.

وانعكس كل هذا على أوضاع الحركة العمالية النقابية العربية، وكان من أهم مظاهر ذلك ازدياد أعداد العمال العرب العاملين في المرافق الحربية ومعسكرات الجيش البريطاني. ومن أدلّ المؤشرات على نمو الحركة العمالية العربية ونمو نفوذ سامي طه داخلها خلال الحرب، ما حدث في مؤتمر يافا 1943، ذلك بأن عُقد مؤتمر في مدينة يافا في مطلع نيسان/ أبريل 1943 حضره مندوبون عن عمال معسكرات الجيش البريطاني العرب الذين قدّر عددهم آنذاك بـ28 ألف عامل، وانتخب المؤتمر سامي طه رئيساً له، وكانت الهستدروت قد دعت إلى إضراب عام للعمال في فلسطين، فنجح طه في إقناع المندوبين بعدم التجاوب مع مخططات الهستدروت وفي إثبات استقلالية الحركة العمالية العربية، التي برز طه بعد مؤتمر يافا كأحد أبرز قادتها.

دخول الحركة العمالية السياسة

استمر نجم طه في الصعود في المجال العمالي العربي النقابي محلياً في فلسطين ثم دولياً، وخاصة في السنتين التاليتين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، ورافق ذلك دخول الحركة العمالية النقابية العربية في فلسطين المجال السياسي مباشرة وعلى أعلى مستوياته بقيادة طه، وكان هذا التطور الأخير فريداً من نوعه، ذلك بأنه لم يسبق أن تمكنت أي حركة نقابية في أي بلد عربي مشرقي من بلوغ مرتبة المشاركة في القيادة السياسية للبلاد.

لم يكن الدرب أمام طه سهلاً ممهداً، إن في المجال العمالي أو السياسي، واضطر في المجال الأول إلى الصدام مع الأوساط الشيوعية العربية التي ازداد نشاطها ازدياداً كبيراً في العالم بسبب الدور الحاسم للاتحاد السوفييتي في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وكانت التطورات داخل الأوساط الشيوعية العربية في فلسطين آنذاك قد تمخضت سنة 1942 عن قيام الشيوعيين في “جمعية العمال العربية الفلسطينية” بتأليف “اتحاد جمعيات ونقابات العمال العرب” وتبع ذلك انشقاق الشيوعيين العرب سنة 1943 عن الحزب الشيوعي (الفلسطيني)، اليهودي الأكثرية، وتأليفهم “عصبة التحرر الوطني”، ولم يكن عدد أعضاء “الاتحاد” كبيراً بالنسبة لأعضاء “الجمعية”، غير أن نفوذه كان كبيراً خارج حيفا بالذات خاصة في فروع “الجمعية” في يافا والقدس وغزة بسبب انتشار صحيفته التي كانت تحمل اسم “الاتحاد” أيضاً.

خلاف مع الشيوعيين

وحرص “اتحاد جمعيات ونقابات العمل العرب” أول الأمر على الحفاظ على علاقات ودية مع “جمعية العمال العربية الفلسطينية”، غير أن هذه العلاقات ما لبثت أن ذهبت ضحية خلاف حاد نشأ في أوائل 1945 بين “الجمعية” من ناحية بقيادة سامي طه، وبين كل من “الاتحاد” و”العصبة”. وكان ظاهر الخلاف على من يمثل الحركة العمالية النقابية العربية في فلسطين في “مؤتمر النقابات العمالية العالمي” الوشيك الانعقاد على مرحلتين الأولى تمهيدية في لندن في شباط/ فبراير 1945 والثانية في باريس في أيلول/ سبتمبر من العام ذاته.

ونجح طه بالنسبة إلى مؤتمر لندن التمهيدي في أن تُمثّل “الجمعية بشخصه ممثلاً رسمياً بينما مُثّل “الاتحاد” بصفة “مراقب” فقط. إزاء هذا التطور، بادر أنصار “الاتحاد” إلى الانسحاب الجماعي من الجمعية في يافا والقدس وغزة، وعقدوا مؤتمراً في يافا في 19 آب/ أغسطس أعلنوا فيه عن قيام تنظيم جديد باسم “مؤتمر العمال العرب” وعن حل “الاتحاد” لنفسه واندماجه في هذا التنظيم الجديد. ونجح “مؤتمر العمال العرب” في أن يحظى ممثلاه بصفة مندوبين رسميين في مؤتمر باريس، وذلك بمساعدة سائر الوفود الشيوعية فيه، على حساب “جمعية العمال العربية الفلسطينية” تحت قيادة سامي طه الذي حظي بصفة مراقب فقط.

وثابر سامي طه بعد “معركة الوفود” في تطوير “جمعية العمال العربية الفلسطينية” وتنميتها ونجح في إعادة تنظيم الفروع التي انسلخت عنها، وفي إنشاء تعاونيات للمنتج والمستهلك العمالي والزراعي وفي تأسيس صناديق توفير وادّخار ومصارف تسليف وإقراض وغيرها للتوظيف، وأظهر قوة “الجمعية” التنظيمية عندما أعلنت الأخيرة عن إضراب عمالي عام في نيسان/ أبريل 1946 احتجاجاً على دائرة البرق والبريد الانتدابية لرفضها الاعتراف بـ”الجمعية” ممثلة للعمال العرب شلّ اتصالات البلاد مع الخارج.

وكانت مسألة دخول “الجمعية” المعترك السياسي العام مسألة وقت فحسب، ودخلته فعلاً في 20 آب/ أغسطس 1946 في مؤتمر عام لها عقد في حيفا حضره مندوبون يمثلون 42 فرعاً ونقابة منتخبون من قبل منتسبين قدّر عددهم بثمانين ألفاً، وترأس المؤتمر مؤسس الحركة العمالية العربية عبد الحميد حيمور، وانتخب المؤتمر سامي طه سكرتيراً عاماً له.

وأدخل المؤتمر تعديلاً على النظام الداخلي للجمعية، محولِّاً إياها إلى “مجلس نقابات”. كما صدرت عنه قرارات تجلت فيها فلسفة “الجمعية” الاجتماعية الاقتصادية واتجاهها السياسي الوطني والدولي وانعكست فيها اجتهادات طه وتفكيره الاشتراكي، واعتبر المؤتمر الحركة النقابية ذاتها “الأم” والحركة السياسية الصادرة عنها “الفرع” والأداة، وأكد على وجوب بقاء قيادة الحزب المنبثق عن “الأم” النقابية بأيد عمالية إقصاءً لـ”الانتهازية” وللقيادات السياسية البرجوازية الصغيرة المهيمنة في أقطار عربية، أما العلاقة مع الخارج فالحركة النقابية “تكتل قومي” يساهم في “الحركة الإنسانية الدولية بشرط المحافظة على استقلالها وشخصيتها القومية.

مؤتمر الطاولة المستديرة

لفتت هذه القرارات الأنظار، وتردد اسم سامي طه في صفوف الرأي العام، ولم يكن مستغرباً أن وافقت “الهيئة العربية العليا” على مشاركة طه في الوفد الفلسطيني المفاوض إلى مؤتمر الطاولة المستديرة الذي دعت إليه الحكومة البريطانية في كانون الثاني/ يناير 1947، من أجل تقريب وجهات النظر بين الأطراف العربية والصهيونية بشأن فلسطين.

وكانت مشاركة قائد نقابي عربي على هذا المستوى السياسي حدثاً لا سابق له في السياسة العربية. لم يسفر مؤتمر لندن عن أي نتيجة وقررت بريطانيا إحالة القضية إلى هيئة الأمم المتحدة، وقررت الجمعية العامة إيفاد لجنة اليونسكوب (لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين) إلى فلسطين لتقصي الحقائق.

لدى وصول اللجنة إلى فلسطين في حزيران/ يونيو 1947، دعت “الهيئة العربية العليا” إلى مقاطعتها احتجاجاً على تأليفها، ذلك بأن فلسطين كانت قد “استقبلت” من دون جدوى عشر لجان تقصي للحقائق قبل اليونسكوب منذ 1919. وارتأى “مجلس النقابات” (الذي انبثق عن مؤتمر حيفا العمالي في آب/ أغسطس 1946) برئاسة سامي طه عكس ما ذهبت إليه “الهيئة”، واعتبر أن ثمة مصلحة وطنية في مقابلة اللجنة.

عملية الاغتيال

كان هذا أول صدام علني بين “مجلس النقابات” وأعلى سلطة سياسية عربية في البلاد، أعقبه صدام أكثر خطورة بينهما، عندما قرر مؤتمر لـ”مجلس النقابات” المنعقد في حيفا في 18 آب/ أغسطس 1947 إرسال برقية إلى السكرتير العام للأمم المتحدة باسم 120 ألف عامل، وكل عامل ينطق باسم عائلته المكونة بمعدل خمسة أفراد”.

وقد تضمنت البرقية رفضاً للتقسيم ومطالبة بالاستقلال وتقرير المصير، أما بشأن يهود البلاد، فاعتبرت “اليهود العرب الذين كانوا يعيشون في البلاد قبل 1918 (أي قبل وعد بلفور والاحتلال البريطاني) والذين تناسلوا منهم… إخوة لنا ومواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ويُجلى عن الوطن كل شخص قدم إليه دون موافقة شعبه.

اعتبرت “الهيئة العربية العليا” الاتصال المباشر بين “مجلس النقابات” وهيئة الأمم المتحدة بمثابة تعد على صلاحياتها وتجاوزاً لصفتها الدولية التمثيلية، وركّزت أوساطها الصحفية على ما ورد في البرقية بشأن يهود البلاد واعتبرته تخلياً عن الحقوق الوطنية واتهمت بعضها سامي طه بما هو أخطر من ذلك، مع أن ما ورد في البرقية بصدد اليهود كان مطابقاً لموقف بعض أركان “الهيئة” ذاتها المعلن.

وفي مساء 11 أيلول/ سبتمبر 1947 اغتال مجهول سامي طه في مدينة حيفا، واجتاحت البلاد موجة عارمة من الحزن والسخط والغضب وشيعته الجماهير إلى مثواه الأخير في قرية بلد الشيخ القريبة من حيفا.

وخلصت مؤسسة الدراسات الفلسطينية للقول: “لم تعرف إلى الآن هوية الجاني وإن كانت أصابع الاتهام موجهة إلى أكثر من طرف، أما المؤكد فهو أن الحركة العمالية النقابية العربية وفلسطين بأسرها منيت بوفاة سامي طه، وهو لا يزال في سن السادسة والثلاثين، بخسارة فادحة، وفقدت بموته نقابياً ألمعياً طافحاً بالطاقات والآمال وقادراً على المزيد من العطاء”.

شاهد أيضاً

الشباب.. صوت التغيير في عالم الظلام

لماذا يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية أميركا وأوروبا، بينما يخيم سكون مدهش بين شعوبنا وشباب منطقتنا الأقرب رحما ودينا؟