مع آخر قطر الماء

سفيان ابو يزيد

مع آخر قطرة..
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: «إذا توضَّأ العبدُ المسلم، أو المؤمن فغسل وَجهَهُ خرج مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نظر إليها بِعَينَيهِ مع الماء، أو مع آخر قَطْرِ الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بَطَشَتْهَا يداه مع الماء، أو مع آخِرِ قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مَشَتْهَا رِجْلَاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نَقِيًا من الذنوب».
[رواه مسلم.]

في هذا الحديث دليل واضح، بأن الإسلام بأحكامه وعباداته التعبدية والمعقولة، جاء ليحل إشكالات الناس ويخفف عنهم ما يثقل كاهلهم، ويعكر صفو حياتهم، ويهدد مآلهم ومستقبلهم…
فشغل المسلم الشاغل هو ذنوبه ومعاصيه، كيف يفعل بها، وكيف يخففها ويتخلص منها، فيأتي هذا الحديث ليوجد له الحل بأقل تكلفة، حتى يوقن بأن هذا الدين خير كله سواء أدركنا ذلك حسيا او عقليا أم لم ندركه، فهو يدرك بأن ذلك الغسل التعبدي يطهر جسده، ويرى قطرات الماء تتساقط منه، ولكنه لا يرى تساقط الخطايا التي هي أمور معنوية، ياتي هذا الحديث ليضيف لك هذه المعلومة، حتى تستقصي تلك القطرات، وتسبغ وضوءك وتكمل نظافتك وتتعبد ربك، وتزيل خطيئتك..

وفيه إشارة إلى واقعية الإسلام الإصلاحية، فالواقعية تظهر في أنه نزل لبشر، قد ينظرون لما حرم الله، وقد يبطشون بأيديهم، وقد يمشون بغير هدى من الله، فهو يذكر ذلك ويستحضره، دون تجاهل او تغافل أو إحالة وقوع، ولكنه في نفس اللحظة يأتي بالترياق الإصلاحي، والوصفة المطهرة، المربية على ترك تلك المنكرات والخطايا، فمن طهر مكانا لا أظن أنه يعود لتلطيخه، فورا وتعمدا..

وفيه إشارة إلى التناسق والانسجام الذي ينبغي أن يتوازى ويترافق ويتعاون بين الطهارة الحسية الظاهرة وبين الطهارة المعنوية الباطنة، فهو يغسل وجهه بالماء ويزيل عنه خطيئته المعنوية، في نفس الوقت ونفس اللحظة دون تخلف..

فيه إشارة إلى التوجه العام نحو الصلاح والعفة والطهارة، والتشجيع والعزم على التخلص من تلك الخطايا وأسبابها ودوافعها، وإعداد الخطط والبرامج الإعلامية والتعليمية لمكافحتها والتقليل منها والمعززة للفضيلة والقيم، فإذا كان الوضوء يساهم في تلك المكافحة، ويدعو إليها وحض عليها، فمن باب اولى وأحرى أن نفكر ونجتهد ونحدث الوسائل والبرامج التي تعين على ذلك، وإلا فلو توضأنا بأنهار من الماء، وتساقطت منا سيول، لن نستفيد شيئا ولن ننتفع!!

فيه تعليم لمقصد الإسباغ المقصود من الوضوء والطهارة بطريقة لطيفة، فتذكر المتوضئ بأن قطرات وضوئه تخرج خطاياه، يعينه على تقصي تلك القطرات، وبالتالي إسباغ وضوئه..

فيه إشارة إلى أن هذا الدين جاء لتفعل عباداته ويظهر أثرها على السلوك والجوارح والحركات والتصرفات، وليست مجرد طقوس بعيدة عن واقع الإنسان وعن سلوكه الفردي والمجتمعي..

فيه تعزيز اليقين في هذا الوحي، فالمسلم بعد سماعه وقراءته لهذا الحديث، يرى بعينيه قطرات الماء، ويرى بيقينه الخطايا تتساقط مع تلك القطرات، فيوقن في صلاحية هذا الدين، وفي غيبياته..

إلى غير ذلك من الإشارات..
والله أعلم

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.