صناعة التجهيل المعاصر

د.علي يوسف السند

لم يعد خافياً أن أغلب الأجهزة الأمنية في العالم الثالث أصبحت تمتلك جيوشاً إلكترونية في العالم الافتراضي تهدف إلى هندسة وعي الجمهور ليكون هدفاً سهلاً للتجهيل.

لا تدخر الأنظمة القمعية جهداً في صناعة وعي مزيف ومعرفة مضللة، واتباع سياسات مخادعة لتجهيل المواطن؛ فالجهل يورث الخوف، والخوف يقود للتبعية، والتبعية تعني الاستسلام والانقياد التام.

عملية التجهيل تتم باتباع سياسة النفس الطويل؛ من خلال ضخ المعلومات المغلوطة، وإشاعة ثقافة التبجيل والتمجيد، فضلاً عن إرباك عقول الناس بإغراقهم بالمعلومات المتضاربة، والإشاعات المصنوعة بعناية لتؤدي أغراضاً محددة، وتشتت الانتباه عن القضايا المصيرية؛ عبر اختلاق قضايا هامشية وتضخيمها وفرضها على الساحة، لينصرف إليها الاهتمام والتركيز، وتغيب بين ثناياها القضايا المصيرية للمواطن، وكل ذلك يجري وفق خطوات وإجراءات ممنهجة تكون حصيلتها النهائية تجهيلاً للعقول وتزييفاً للوعي.

تزداد قابلية الوقوع في شرك التضليل والتجهيل عندما يكون الجمهور المستهدف قابعاً تحت نظام قمعي، حيث الحرمان من التعبير الذي يؤدي إلى ضمور في التفكير، واليأس من التغيير، فتتولد الرغبة في تصديق كل ما يصدر من إعلام النظام، وتتطبع العقول على ذلك.

من مصلحة أي نظام متسلط أن يبقى الجمهور معتل التفكير، مشوشاً في رؤيته، ضائعاً في أولوياته؛ لأن المحاكمات العقلية السليمة، ووضوح الرؤية، تقود لاكتشاف مواضع الخلل، والتركيز عليها والسعي لمعالجتها، وذلك يشكل خطورة على أي نظام، ولهذا يلجأ إلى أساليب المشاغلة السياسية، وتشتيت الانتباه وخلط الأوراق، لإرباك العقول وتشويش التفكير.

ربما يتصور البعض أن تلك الهيمنة لم تعد كما كانت في السابق، فوسائل التواصل الحديثة، والانفجار المعلوماتي الرهيب، وإمكانية الوصول للمعلومة أصبحت أسهل من أي وقت مضى، وأصبح الناس يتمتعون بقدر من التحرر المعرفي، وذلك صحيح إلى حد ما، لكن ما ينبغي التنبه له أنه بقدر ما منحتنا تلك الوسائل من أدوات للمعرفة والتوثيق والتحقق، إلا أنها في الجانب الآخر ضاعفت من القدرة على التضليل والتشويش، وصناعة الدعاية السوداء، وضاعفت من سرعة نشر الشائعات والأخبار والمعلومات والصور المضللة، مع تطور وسائل التلاعب والتركيب والفبكرة وهذا يعني أنها أعطتنا المعرفة والعلم في يد، وفي اليد الأخرى سهلت عملية التجهيل والتضليل.

لم يعد خافياً أن أغلب الأجهزة الأمنية في العالم الثالث أصبحت تمتلك جيوشاً إلكترونية في العالم الافتراضي تهدف إلى هندسة وعي الجمهور ليكون هدفاً سهلاً للتجهيل، حيث تعتمد في سياستها على عدة استراتيجيات تهدف لتشكيل عقلية الجمهور ليبقى تحت السيطرة.

ومن أبرز ملامحها:

1- الخلط بين مفهوم الدولة وبين النظام الحاكم ودوائر النفوذ حوله، فكل من يعادي النظام أو يخاصم دوائر النفوذ فهو عدو للدولة ويسعى للفوضى والخراب.

2- شيطنة المعارضين للنظام الحاكم، وإطلاق أبشع الأوصاف عليهم، وإلصاق أخطر التهم بهم، وعدم التورع عن ترويج الأكاذيب والتعرض للخصوصيات، وهذا يمهد للقيام بأي إجراء قمعي ضدهم، بعد نزع التعاطف معهم.

3- تضخيم منجزات الحكومات، واعتبارها فضلاً ومنة على المواطنين، تستوجب الشكر الدائم والثناء الذي لا ينقطع، وليست من صميم وظيفة الحكومة وأحد أبسط حقوق المواطنين.

4- التعمية على حالات الفساد، والانحراف في الممارسة السياسية، وذلك باتباع مختلف أساليب التضليل والمشاغلة وتشتيت الانتباه.

هذه الاستراتيجيات في التعاطي الإعلامي مع الأحداث والخصوم، تساهم في تشكيل وهندسة عقلية المتلقي بطريقة تجعلها أكثر قابلية للتجهيل، ومشبعة بالمغالطات، فلا تجد الحقائق مكاناً لها في تلك العقول، فتضعف لديها المحاكمات العقلية على أسس منطقية سليمة، وبذلك ينشأ جيش من ذوي التفكير النمطي المقلوب، من السهل استغفاله وتحريكه بالاتجاه الخاطئ.

يبقى الوعي هو العدو الأول لكل نظام قمعي مستبد، ولذلك يحرص على إبقاء الناس قابعين في ظلمات الجهل، فالمستبد يخشى من سلطان المعرفة والوعي أن يفوق سلطانه، فلا يعود هو مصدر التلقي الوحيد، وتتآكل الثقة به مع مرور الأيام والأحداث، وكما قال الكواكبي: فكما أنه ليس من مصلحة الوصي الخائن أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.