شرح حديث من الاربعون النووية

للشيخ إسماعيل بن محمد الانصارى
شرح_الجزء_الأول_من_الحديث الاربعون النووية

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :
{ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهديكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل واحد مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه } .
مفردات الحديث
(حرمت): منعت.
(الظلم): وهو لغة وضع الشيء في غير موضعه.
(على نفسي): فضلا مني ، وجود و إحسانا إلى عبادي ، فلا أعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات ، ولا أعاقب أحدا بذنب غيره ، ولا أنقص المحسن شيئا من جزاء حسناته ، ولا أحكم بين الناس إلا بالعدل والقسط.
(وجعلته بينكم محرما): حكمت بتحريمه عليكم.
(فلا تظالموا): بتشديد الظاء وبتخفيفها أصله تتظالموا ، لا يظلم بعضكم بعضا.
(كلكم ضال): عن الحق لو ترك ، وما يدعوا الطبع من الراحة وإهمال الشرع.
(إلا من هديته): وفقته لا متثال الأمر واحتناب النهي.
(فاستهدوني): اطلبوا مني الدلالة على طريق الحق والإيصال إليها.
(أهدكم): أنصب لكم أدلة ذلك الواضحة ، وأوفقكم لها.

(فاستطعموني): اطلبوا مني الطعام.

(تخطئون): بضم التاء على الرواية المشهورة ، وروي بفتحها وفتح الطاء: تأثمون.

(وأنا أغفر الذنوب جميعا): غير الشرك وما لا يشاء مغفرته.

(فاستغفروني): سلوني المغفرة ، وهي ستر الذنب ومحو أثره. وأمن عاقبته.

(قاموا في صعيد واحد): في أرض واحدة ومقام واحد.

(المخيط): بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الياء _ الإبرة.

(أحصيها): أضبطها وأحفظها بعلمي وملائكتي.

(أوفيكم إياها): أعطيكم جزاءها وافيا تاما.

(فمن وجد خيرا): ثوابا ونعيما بأن وفق لأسبابهما. أو حياة طيبة هنيئة.

(فليحمد الله): على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب ، فضلا منه ورحمة.

(غير ذلك): شرا.

(فلا يلومن إلا نفسه): فإنها آثرت شهواتها على رضا رازقها ، فكفرت بأنعمه ، ولم تذعن لأحكامه.

يستفاد من الحديث
1 – تحريم الظلم ، وذلك متفق عليه في كل ملة ، لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ النفس والأنساب والأعراض والعقول والأموال ، والظلم يقع في هذه أو بعضها ، وأعظم الظلم الشرك ، قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم).
2 – وجوب الإقبال على المولى في جميع ما ينزل بالإنسان لافتقار سائر الخلق إليه وعجزهم عن جلب منافعهم ودفع مضارهم إلا بتيسيره. فيجب إفراده بأنواع العبادة: من السؤال والتضرع والاستعانة وغيرها ، فإنه المتفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه ، وإحيائه وإماتته ، ومغفرة ذنوبه.
3 – كمال فعله تعالى لتنزيهه عن الظلم وكمال ملكه فلا يزاد بالطاعة ولا ينقص بالمعاصي. وكما غناه فإن خزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء. وكمال إحسانه إلى عباده فإنه يجب أن يسألوه جميع مصالحهم الدينية والدنيوية كما يسألونه الهداية والمغفرة ، فله تعالى الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.
4 – أن الأصل في التقوى والفجور هو القلوب ، فإذا بر القلب وأتقى برت الجوارح ، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح.
5 – أن الخير كله من فضل الله تعالى على عباده من غير استحقاق. والشر كله من عند ابن آدم من إتباع هوى نفسه.
#انتهى.

الفوائد_التربوية :

الفائدة الأولى : يربي في نفس المسلم رحمة الله سبحانه وتعالى وهذا ظاهر في جميع ألفاظ الحديث .
الفائدة الثانية : يورث الحياء من الله سبحانه ، فمع غناه الكامل وعظمته إلّا أنه ينادي عباده بنداء لطيف لدعائه وعبادته واستغفاره .
الفائدة الثالثة : يزيد من محبته سبحانه في القلوب المؤمنة فمن لم يزدد محبة لله بعد هذا الحديث فليتهم قلبه لأن جميع ألفاظ الحديث ومعانيه تزكي المحبة في القلب وتحركها .

الفائدة الرابعة : يتوجه النداء في قوله ” ياعبادي ” إلى جميع البشر مؤمنهم وكافرهم ، إنسهم وجنهم ، فكلهم عباد لله عبوديه عامة .
الفائدة الخامسة : الله يحب المدح ولذلك مدح نفسه
و على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وحتى الصفات المنفية عن الله كالنوم والسنة والموت تتضمن مدحاً فلا ينام سبحانه لكماله ولا يموت لقيموميته وحياته سبحانه ، وهذا الحديث كله مدح لله فهو أهل للمدح .
الفائدة السادسة : يربي في النفس المؤمنة الافتقار إلى الله والتذلل له والمسكنة وتمام الحاجة إليه .
الفائدة السابعة : يدل على غنى الله سبحانه عن جميع خلقه ، فهو غني بذاته .
الفائدة الثامنة : مذهب أهل السنة والجماعة أن الله حرم الظلم على نفسه سبحانه مع قدرته عليه ، ولكنه حرمه فضلاً منه وجوداً وكرماً ، فهو قادر عليه سبحانه إذ لو لم يكن قادراً لم يكن في تحريمه الظلم على نفسه مدحاً ، إذا كيف يمدح نفسه بشيء لا يقدر عليه ؟! .
الفائدة التاسعة : يدل الحديث على تحريم الظلم بجميع صوره وأشكاله بين الناس ، وصيغة الحديث تدل على الترهيب منه حيث جعله الله على نفسه محرماً ثم حرمه على الناس ، فما جزاء من تعدى بعد ذلك وظلم ؟! .
الفائدة العاشرة : من الظلم الذي حرمه الله الشرك به ودعاء غيره والالتجاء إلى أحد سواه ، وانتهاك حرماته والتعدي على حدوده .
الفائدة الحادية عشرة : يدل الحديث على أن الهداية بيد الله يعطيها من يشاء بفضله ، ويمنعها من يشاء بعدله ، ولذلك قال ” فاستهدوني ” فتطلب من عنده .
الفائدة الثانية عشرة : دل الحديث على أن الإنسان لولا إعانة الله لضل السبيل ولا يملك دلالة لنفسه وإرشاداً لها ” يا عبادي كلكم ضال ”
الفائدة الثالثة عشر : قوله ” كلكم ضال إلّا من هديته ” فيه بيان لفضل الرسل لأن الله هدى بهم الناس وأخرجهم من الظلمات إلى النور يبلغون دين الله وهداه ونوره .
الفائدة الرابعة عشر : يدل الحديث على حاجة الإنسان إلى الهداية في كل لحظات حياته ، قال ابن تيمية رحمه الله :
” والذنوب من لوازم النفس وهو محتاج إلى الهداية كل لحظة ، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب ” أ. هـ .
وقال رحمه الله أيضاً موضحاً ذلك ” ولهذا أمرنا الله أن نستهديه فقال ” فاستهدوني ” وأما السؤال من يقول فقد هداهم للإيمان فلا حاجة لهم إلى الهدى وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهداية فكلام من لا يعرف حال الإنسان وما أمر به فإن الصراط المستقيم حقيقته : أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وعلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور ، وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد ، بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهوى به في ذلك الوقت” أ .هـ .
الفائدة الخامسة عشر : الله في الحديث أمر بالدعاء ووعد بالإجابة فقال ” فاستهدوني أهدكم ” وقال ” فاستطعموني أطعمكم ” وقال ” فاستكسوني أكسكم ” وهذا يربي في الأنفس اليقين بوعد الله سبحانه .

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.