التعليم والشهادات هل ما زالت مصدر النجاح؟

سري سمور

كاتب ومدون فلسطيني

في معظم البلدان العربية تنشر في هذا الصيف نتائج امتحانات شهادة الدراسة الثانوية العامة (التوجيهي) وهي خاتمة وتتويج 12 عاما دراسية منهجية، والصف الثاني عشر (غالبا) يعقد امتحان على مستوى القطر/الدولة بنظام الفصل أو الفصلين حسب الفروع (العلمي والأدبي والتجاري…إلخ) لتخرج النتائج التي نراها مصيرية في حياة الطالب ومستقبله المهني/المالي/الاجتماعي. ذلك أن هذه النتيجة هي التي ستؤهل الطالب- حسب معدله- إلى دخول الجامعة واختيار التخصص المناسب، ولحظات النجاح للطالب عادة مناسبة فرح، تختلط فيها دموع الفرحة، مع الشعور بأن سهر الليالي وتعبها، وربما تكلفتها (كثير من الطلبة يأخذون دروس خصوصية لتحسين مستواهم) لم تذهب سدى وأن الطالب قد أنجز مرحلة مهمة في حياته التعليمية الموصلة إلى حياته المهنية العملية.

لماذا نتعلم؟!
بعد هذه اللحظات العاطفية، وتقديم التهاني مني شخصيا لكل الناجحين والناجحات وذويهم، أرى أن نقف أمام أنفسنا، ونناقش ما قد نناقشه مبعثرا في مجالسنا الخاصة، أو عبر مواقع التواصل، وأبدأ بسؤال حول جدوى وأهمية التعليم والحصول على الشهادات والدرجات العلمية. حقيقة فإننا غالبا لا نتعلم من أجل العلم ذاته، مع أن الإسلام بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، يأمرنا ويحضنا على العلم؛ ونحن دوما نقول بأن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي (اقرأ) في زمن ووقت لم يكن فيه العالم عموما والعرب خصوصا يهتمون كثيرا بالقراءة وأداة الكتابة أي القلم الذي جاء ذكره في آيات سورة العلق؛ ومع أننا نردد هذا دوما فإننا –إلا قلة قليلة جدا- لا نسعى وراء تحصيل العلم بإنفاق الوقت والمال لتعليق الشهادات من أجل العلم بحد ذاته…هذه حقيقة ندركها جميعا.

فالعلم والاستزادة منه هو وسيلة للحصول على مهنة أو وظيفة نعتاش منها، ولا نفكر كثيرا بأهمية العلم من حيث هو علم في أي مجال كان، كما أن الحصول على درجة وشهادة علمية كان من أدوات الحصول على درجة في السلّم الاجتماعي، أو للحفاظ على (البرستيج) الاجتماعي لمن هم في درجة متقدمة في هذا السلّم، ولعل هذا يفسر جزئيا وفرة المتعلمين عندنا من حيث (الكم) بعكس دول أخرى متقدمة علينا طبيا وتقنيا واقتصاديا وسياسيا لا يهرع كم كبير من أبنائها للحصول على شهادات علمية، خاصة أن بمكنتهم الحصول على أعمال أو وظائف ضمن قاعدة العمل والإنتاج والتميز وليس الحصول على شهادة جامعية.

ولهذا نرى مثلا (بيل غيتس) و(مارك زوكربرغ) تركا الدراسة في جامعة هارفارد -وهي الجامعة التي تراود فكرة الدراسة فيها أحلام اليقظة لكثير من الطلبة في العالم، وآخرون يتمنون فقط زيارتها والتجول في أروقتها- وتوجها إلى عالم الكمبيوتر والبرمجيات ليتصدرا قائمة الرجال الأكثر ثراء وربما تأثيرا في العالم، ومع أن بيل غيتس يبدي ندمه (ظاهريا) على عدم استكمال الدراسة ولكن لا نعرف أحدا وصل إلى قمة سلم الثراء والتأثير والتميز من خريجي هارفارد أو غيرها من جامعات العالم المرموقة بله ما دونها مثل ما وصله الرجل.

ولكن ألا يدل قبولهما للدراسة في هارفارد على الذكاء والتميز أصلا، وبالتالي نجاحهما في الحياة العملية طبيعي؟ نعم، هذا في بيئة مساعدة ومشجعة لا تشترط عليك التقدم فيما تحسنه وتتقنه بحصولك على شهادة علمية بالضرورة، ولكن هل يعقل أن طالبا متميزا في مجتمعاتنا يقول أنه سيوفر الوقت والمال كي يشق طريقه بأسلوب آخر؟ لا بالتأكيد، فغالب الطلبة المتفوقين يحصلون على منح دراسية يسعون إلى استمرارها بمراكمة درجاتهم، ومن لا يحصل على منحة فإن أهله يبذلون الغالي والنفيس ولديهم استعداد نفسي لرهن أو بيع كل ما يملكون، ولدى الآباء استعداد للعمل ساعات إضافية في أي مجال كي يوفروا لأولادهم-حتى لو كانوا دون التفوق- أكلاف الدراسة الجامعية، بعكس الآباء الذين يرفعون أيديهم عن العناية بأولادهم وبناتهم في المجتمعات الأخرى عند بلوغهم سن الشباب الأول.

فالشهادة عندنا هي بمثابة جواز سفر أو بطاقة مرور إلى الحياة العملية، لأن البيئة عندنا تقوم على ذلك؛ ولهذا فقد قلت لابنتي التي ستتقدم بمشيئة الله لامتحان التوجيهي العام الدراسي القادم حين لاحظت قلة اكتراثها:لو أردت المرور إلى دولة، فعند المعبر البري/الجوي/البحري سيطلبون منك جواز سفر، حتى لو جاء العالم كله يقول بأنك فلانة بنت فلان، فلن تمري دون جواز السفر، ولكن ليس جواز السفر هو كل ما يلزمك في الحياة! هنا أنا أخالف ما تربيت وترعرعت عليه، بأن الشهادة والتعليم هو للحياة كالدم أو الماء والغذاء لجسم الإنسان، مع ما كان يتبع ذلك من تصوير الحياة الجميلة الراغدة التي ستفتح أبوابها لك عند حصولك على الشهادة، وكأن الشهادة هي المفتاح السحري لأبواب الحياة المادية والاجتماعية وغيرها…وثبت عمليا أن هذا خطأ فادح.

اعلان
السلّم الاجتماعي والوظائف
لم يعد مؤهل المرء العلمي بالضرورة هو العامل المركزي في المكانة الاجتماعية التي يتبوّؤها المرء، مع اعتراضي على هذا النمط التربوي، لأن مكانة المرء يجب أن تكون حسب ورعه وتقواه وعلمه (يختلف عن شهادته) وأخلاقه، وليس ما يحمل من مؤهلات، أو-وهذا هو المعيار حاليا للأسف- ما يملك من مال وجاه…ولكن نلحظ تغيرا كبيرا فيما كان سائدا قبل عقود من الزمن؛ فهناك كثير ممن لم يكملوا تعليمهم الجامعي بل حتى لم يجتازوا امتحانات الثانوية العامة بنجاح كونوا ثروات يغبطون أو يحسدون عليها، وهذا تلقائيا يضعهم في مكانة اجتماعية متقدمة أكثر من طيف واسع ممن أنفقوا المال والوقت في تحصيل الدرجات العلمية.

وسمعت أن هناك طبيبات/مهندسات/محاميات يتزوجن دون عقبات بمن هو أدنى منهن تعليما، وهذا كان في حكم المحال في أزمان سابقة، والعكس صحيح بطبيعة الحال، وهذا الأمر موجود ومعروف في دول ومجتمعات أخرى منذ زمن بعيد، نظرا لاختلاف نظام الحياة والتفكير…وعليه فإن (الفشخرة) القائمة على تحصيل الدرجات العلمية للبنين والبنات لا محل لها حاليا في أرض الواقع، وبخصوص الوظائف فإن انتشار التعليم في كل الأقطار العربية، جعل السباق للحصول على الوظائف محموما، علما بأن الوظيفة لا توفر وحدها الحد المطلوب للعيش الكريم كما في السابق في معظم الدول العربية، وفي ظل طوابير الخريجين فإن عروض الوظائف أقل بكثير من الطلب، بل لا مقارنة، فحين الإعلان عن وظيفة شاغرة يتقدم المئات أو حتى الآلاف للحصول عليها، ذلك أنه لا يوجد تنسيق أو تناسب بين المؤهلات والشهادات الجامعية وحاجة قطاع العمل العام والخاص لها، أضف إلى ذلك أن الدولة العربية الحديثة (دولة ما بعد الاستعمار) تطغى عليها المحسوبية والزبائنية، أي أن الشهادة الجامعية لا تكفي وحدها للحصول على وظيفة.

نوعية التعليم والمتعلمين
هذه مسألة تثار باستمرار؛ فالمناهج الدراسية لا تربطها علاقة وطيدة بالحياة العملية للطلبة والطالبات، كما أننا نلحظ تراجعا في مستوى المتعلمين وجودة التعليم المدرسي والجامعي، ولهذا أسباب كثيرة منها الموازنات المخصصة لقطاع التعليم، وطبيعة الخطط والمناهج، والتغيرات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ألقت بثقل تبعاتها على العملية التعليمية، لقد صار شائعا أن ترى من يحمل شهادة ماجستير يخطئ في كتابة الإملاء أخطاء فادحة مخجلة لا عذر له فيها، وصرت ترى ضحالة في طرح الجامعيين وسطحية لا تخطؤها عين مقارنة مع أسلافهم، مع وجود استثناءات بطبيعة الحال، وقد كنت في زمن سابق ترى من أنهى فقط المرحلة الإعدادية يكتب ويقرأ ويتقن العمليات الحسابية ويحفظ جداول الضرب ويلم بأمور أساسية في الكيمياء، وكان هناك من يعمل مدرسا ومؤهله فقط شهادة الثانوية العامة يكون مميزا ويخرج من تحت يديه أجيال تتعلم وتحصل على أعلى الشهادات وهي تذكره بالخير والفضل عليها فيما وصلت إليه…أما الآن فالحال لا يسرّ صديقا.

الخلاصة
الحديث ذو شجون، ولديّ كثير من الأفكار التي يمكن مناقشتها حول العلم والتعليم، ولكن المجال لا يتسع، ولكن المؤكد أن الشهادات لم تعد مفتاح النجاح في الحياة بالضرورة، وأن لدينا تضخما كبيرا في أعداد لا أنواع المتعلمين، مما سبب مشكلات تتراكم وتنذر بانفجار أزمات فوق ما هو مشتعل من أزمات متوالدة…وأكرر ما قلته في سطور سابقة: التعليم والشهادة بمثابة بطاقة مرور أو جواز سفر ليس إلا!

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.