الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية

هشام جعفر

صحفي وباحث

تخيل معي لو كانت جماعة “الإخوان المسلمون” في مصر قد وصلت للسلطة في الخمسينيات أو الستينيات، ماذا ستكون سياستها الاقتصادية؟! ألن تكون ذات طبيعة اشتراكية، أو ما أطلق عليها مصطفى السباعي -المراقب العام للإخوان في سوريا- وقتها (1960) “اشتراكية الإسلام”، بدلًا من الطبيعة النيوليبرالية التي اتبعتها إبان الحكم القصير لمرسي 2012-2013.
ما سنحاوله في هذا المقال هو تقديم نموذج تفسيري لطبيعة السياسات الاقتصادية الاجتماعية لجماعة أيديولوجية لعبت دورا مهما في الحياة المصرية الحديثة ولا تزال، ولكنني أظن أن خبرتها في هذا المجال مما يمكن أن يمتد لقوى وأحزاب أخرى، لأني أرى أن المسألة الاجتماعية باتت من أهم أولويات المواطن العربي متقدمة على موضوعات أخرى اكتسبت أولوية في السنوات الماضية، مثل قضايا الهوية.
بل أزعم أن عدم إدراك الإخوان لطبيعة ثورة يناير التي حضر فيها عند قطاع كبير من المصريين البعدان السياسي (الديمقراطية) والاجتماعي (العدالة الاجتماعية) متقدمان عن البعد الهوياتي (الشريعة)، كان أحد الأسباب الأساسية وراء سقوط مرسي ونهاية حكم الإخوان.

من وجهة نظري يمكن فهم المسألة الاجتماعية عند الإخوان في ضوء المحددات الخمسة التالية:

أولًا: الخطاب الدعوي
فمن خصائص هذا الخطاب أنه مفارق للطبقات، بمعنى أنه لا يدرك التناقضات الطبقية ولا هي تحتل وزنا في أولوياته فمن طبيعته أنه يخترق الطبقات جميعا رغبة في التعبير عن المجتمع كله، وكما يرى وائل جمال في ورقته (الرأسمال الضائع)، “هذه الحركات تزعم أنها تمثل كل المجتمع، وتجنبت كل المقاربات التي قد تبرز الخلافات الطبقية أو الصراعات الاجتماعية. هذا الحجب النسبي سمح تاريخيا لجماعة الإخوان أن تكون قوة جذب لجماعات ذات مصالح متنافرة، الأمر الذي مكّن الحركة من جذب أفراد متنوعين”.

آفة السياسة المعارضة في مصر أنها ذات طبيعة ثقافية لا تتحرك على أرضية اجتماعية

غير أنه في الوقت نفسه جعلها تفشل في التعبير عن قاعدتها الانتخابية التي تركزت أساسًا في الطبقتين الوسطى والدنيا، مما أفقدها شعبيتها إبان حكم مرسي القصير.

الخطاب الدعوي يتحرر من الأرضية الاجتماعية ومن العلاقات المادية القائمة. وآفة السياسة المعارضة في مصر أنها ذات طبيعة ثقافية لا تتحرك على أرضية اجتماعية، بمعنى أنها اختزلت في إصدار البيانات أو اللجوء إلى القضاء لحسم المعارك السياسية، وليس تغيير موازين القوى السياسية والاقتصادية وتفكيك بنية الاستبداد والاستغلال والفساد.

ثانيًا: خطاب أخلاقي

فبالخطاب الأخلاقي تتجاوز أو تهدر الحديث عن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل والثقافية التي تنتج الفقر والتمايز والتناقضات الطبقية في المجتمع، وبالتالي فلا حديث عن السياسات العامة خاصة إذا تواكب أو امتزج ذلك بالحديث عن الإحسان والصدقات والزكاة.

العمل الخيري في أحد جوانبه تخفيف لحدة التناقضات الاجتماعية دون تغيير في عناصر القوة الاقتصادية والثروة في المجتمع، وقد تحول -علي سبيل المثال- في عهد مبارك إلى تفاهم غير مكتوب مع الإخوان على السماح لهم به لتخفيف حدة تأثير السياسات النيوليبرالية التي اتبعها نظامه منذ التسعينيات، وقد حصلت الجماعة مقابل ذلك على قدر كبير من التأييد والنفوذ السياسي خاصة في الانتخابات.

العمل الخيري دون تغيير في علاقات القوى والثروة يتحول إلى غسيل للذنوب وفي أحيان غسيل للسمعة والأموال، ويؤدي إلى التعامل مع العدالة الاجتماعية ليس بإعادة توزيع الثروة ولكن من خلال آلياته التي تؤدي إلى استمرار ما هو قائم.

ومن المفارقات التي نذكرها هنا أن وعي الإخوان بالمسألة الاجتماعية قبل 1952 كان أكبر من وعيهم بها في ما يطلق عليه البعض مرحلة التأسيس الثاني في السبعينيات (نشر سيد قطب 1951 فيما أذكر عددا من المقالات حول الإصلاح الزراعي نشرت في مجلة الدعوة ولم تنشر في كتاب حتى الآن برغم أهميتها) وربما يعود ذلك إلى ضعف “الفكرية الإسلامية” في هذا المجال، بالإضافة إلى الخصومة التي نشأت بينها وبين التيار اليساري برغم وجود محاولات لم تكلل بالنجاح لتأسيس ما أطلق عليه حسن حنفي ومحمد رضا محرم اليسار الإسلامي في الثمانينيات.

ثالثًا: التنظيم المقدس المفارق لعضويته
منذ أوائل التسعينيات، تحول الحفاظ على التنظيم تدريجيا إلى هدف في حد ذاته باعتباره الأداة المقدسة التي مهمتها إنجاز وتحقيق وتطبيق الإسلام.

وبرغم أن دراسات عديدة توضح لماذا انتشر الإخوان في شرائح اجتماعية محددة من الطبقة الوسطى، فإن الثقافة التنظيمية السائدة التي ترسم طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة تجعل التنظيم أداة مفارقة لأعضائه بتعدديتهم وتناقضاتهم الاجتماعية والاقتصادية، فالفرد لا وجود مستقلا له داخل الجماعة بل يتم التحكم في كل مناحي حياته عبر ما يطلق عليه التربية، وهنا تكون إحدى المفارقات الكبرى، ففي الوقت التي اتبعت فيه الجماعة سياسات نيوليبرالية تتمحور -في أحد أسسها الفلسفية- حول الإيمان بقدرات الفرد وإمكانياته على إثبات ذاته، يتم سحق الوجود الفردي داخل التنظيم بآليات متعددة.

ويعمق من تجاوز التناقضات الاجتماعية أن النظر التنظيمي يتطلب مزيدا من التجنيد المستمر للأعضاء بما يعنيه من توسع في الشرائح والفئات الاجتماعية المنضمة، غير أنه من المفارقات أيضا أن هذا التنظيم المقدس المفارق للعضوية بل وللأمة المصرية ذاتها كما أشار هدهود في بحثه (الأيديولوجية الإخوانية في اختبار الثورة) يتم اختزال توجهاته الأيديولوجية في عدد محدود من حراس الهيكل الذين يطلق عليهم عادة أعضاء قسم التربية، والقيادة التي تتحول إلى كيان مطلق غير معرف يمتلك المعرفة الكاملة بمصلحة التنظيم وأعضائه أيضا.

ومن ثم فإني أتفق مع الدراسات التي تشير إلى دور بعض القيادات التي تنتمي إلى الشرائح البرجوازية في تحديد التوجهات النيوليبرالية للجماعة، إلا أني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أوافق تلك الدراسات حين ترى أن هيكل العضوية وطبيعة الانتماءات الاجتماعية محددان رئيسيان في رسم سياسات الجماعة، فمقولة ترييف الإخوان -للصديق العزيز حسام تمام رحمه الله- لا يمكن فهمها إلا في إطار ثقافي يتعلق بنمط التدين المحافظ فقط، وليست ذات تأثيرات في الانحيازات الاجتماعية للجماعة.

رابعًا: أيديولوجية غامضة ممتزجة بالبراغماتية
الأيديولوجية الإخوانية تتسم بعدد من السمات، فهي وإن انطلقت من مرجعية الإسلام كدين، إلا أن الإطار الديني دائما وأبدًا حمال أوجه متعددة من التفسيرات والتأويلات التي تصل في أحيان كثيرة إلى التناقض والتنافس بين أتباعها.

بل أزعم أن أحد الصراعات الأساسية التي جرت ولا تزال في مصر الآن تدور حول أنماط التدين المتعددة في المجتمع، خاصة أن وراءها قوة دفع من مؤسسات ومصالح وارتباطات داخلية وخارجية.

حرصت الجماعة طوال تاريخها الممتد على عدم الاختيار لسياسات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية محددة إلا مضطرة، فقد وعت نفسها كطرف مستقل خارج المجتمع والدولة يحمل أفكارا مجردة دون مضامين اجتماعية

وطبيعة الأيديولوجية الصادرة عن الأديان منفتحة على مختلف التفسيرات والتأويلات وتتفاعل بشكل متعدد مع السياقات التي تتحرك فيها، كما تستخدم المقولات الدينية لتسويغ الاختيارات والانحيازات الاقتصادية الاجتماعية، وفي أحيان كثيرة تتجاوز الانحيازات دون شعور بالتناقضات بينها، فإشارات مثلا للعدالة الاجتماعية مع إيمان بالسوق الحرة في الوقت نفسه.

أنا أفهم خطاب الهوية في سياق المسألة الاجتماعية باعتباره سبيلًا للتميز الحضاري وقدرته على إنتاج نمط تنموي مستقل -ليس في بعده الاقتصادي فقط وإنما في مكونه وفلسفته التي يتأسس عليها أيضا- نمط يرفض الاستهلاكية الشرهة ومبادئ السوق كقيم هادية لحياتنا كله، بل أزعم أنه دون هذا الانعتاق لن تحل المسألة الاجتماعية ولن نكون قادرين على إحداث التنمية.

وقد حرصت الجماعة طوال تاريخها الممتد على عدم الاختيار لسياسات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية محددة إلا مضطرة، فقد وعت نفسها كطرف مستقل خارج المجتمع والدولة يحمل أفكارا مجردة دون مضامين اجتماعية، كما يذكر هدهود.

النيوليبرالية التي تربط الإخوان بالعالم الخارجي والاقتصاد العالمي، وأضيف أنها تربطهم أيضا بنخب محلية يحرصون على التعامل معهم لنفوذهم الاقتصادي والسياسي

يمتزج بهذه الخاصية أن الممارسة العملية هي التي ترسم ملامح الأيديولوجية، لذا فمن الأخطاء المنهجية أن يتوفر الباحثون على تحليل النصوص دون تتبع الممارسة العملية، فالممارسة عند الإسلاميين -في أحيان كثيرة- تسبق الرؤية النظرية، وهذا يجعل من الفكرة الإسلامية عندهم وعاء فارغًا غامضًا دون مضمون محدد، ويؤدي إلى تأثرهم بالسياقات التي يعملون فيها.

وقد أدى ذلك إلى قدرتهم على ضبط مواقفهم الأيديولوجية لمواكبة التغيرات التي تحدث، فقد انتقلوا -أو بالأدق تعايشوا وتجاوزوا- من اشتراكية الإسلام إلى الرأسمالية إلى النيوليبرالية، ومن معاداة التعددية الحزبية إلى الإيمان بالديمقراطية الليبرالية، وفي كل مرة يبرر ذلك بمقولات دينية.

لكنه في الوقت ذاته أدى بهم إلى الظهور بمظهر البراغماتية، فلا يمكن تفسير سياساتهم النيوليبرالية بعد 2011 إلا ببحثهم -كما يرى خليل العناني- عن القبول الغربي ومغازلة غير شرعية لطبقة رجال الأعمال الكبار من عهد مبارك، برغم تقديمها نفسها باعتبارها راعية للفقراء في غياب الدولة.

فالنيوليبرالية -على حد قول العناني- هي التي تربط الإخوان بالعالم الخارجي والاقتصاد العالمي، وأضيف أنها تربطهم أيضا بنخب محلية يحرصون على التعامل معهم لنفوذهم الاقتصادي والسياسي.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى، فإن جزءا كبيرا من ثورة يناير 2011 كانت احتجاجا على سياسات مبارك النيوليبرالية، ولكن الإخوان في السلطة اتبعوا السياسات نفسها، بما أدى إلى عزلتهم الجماهيرية، فسهّل ذلك محاصرتهم ثم ضربهم.

غياب الرؤية الحاكمة ينتج تناقضات متعددة، فقد انتقدوا -في عهد مبارك- تراجع الدولة عن أداء أدوارها الاقتصادية والاجتماعية وفي وقت آخر تخلوا عن تدخلها، (انظر بيانا لهذه التناقضات في مقال خليل العناني).

ويقدم بعض الباحثين مفهوم الليبرالية الورعة (انظر العناني) تفسيرا لسياسات الإخوان النيوليبرالية.. الليبرالية الورعة ظاهرة يتفاعل في حضنها كل من الدين والأعمال الخيرية والنشاطات الاقتصادية.

من وجهة نظري أن هذا المفهوم مفهوم شارح لطبيعة الظاهرة وليس مفسرا، بعبارة أخرى فإنه في غياب الرؤية الحاكمة تكون الغلبة هي الاستجابة للسياقات مع استخدام ديباجات دينية لإضفاء شرعية على السلوك والأفكار.

السياق أولًا هو الحاكم بدليل أن البرجوازية الإخوانية قد غلبت عليها خصائص البرجوازية العربية التي اتسمت بالاقتصاد الريعي الذي يهيمن عليه النفط والمضاربات والاستيراد والاقتصاد المالي (وتأمل معي كيف استخدم لفظ الاقتصاد الإسلامي لوصف المكون المالي فيه فقط) وغاب عنها الاستثمار في مجالات الصناعة أو التكنولوجيا المتقدمة.

خامسًا: غلبة الاحتجاجي على تقديم السياسات
هذه الخصيصة لا تخص الإخوان وحدهم بل تمتد إلى قوى المعارضة المصرية كافة، فقد حرمهم نظام مبارك من مجرد الخيال بأن يصلوا إلى مقاعد الحكم وقد فاجأتهم ثورة يناير كما فاجأت الجميع.

وفاقم الأمر عند الإسلاميين حرمانهم من تبوؤ أية مناصب ذات شأن في جهاز الدولة، لذا فلم يدركوا معنى الدولة وكيفية عمل جهازها وتصرفوا أحيانا كثيرة -وهم في الحكم- بمنطق الحزب المعارض أو وفق آليات المجتمع المدني!

والخلاصة أنه لم تكن لدى الحركة حين وصلت للحكم حلول لكيفية التعامل مع مشاكل مصر المزمنة، وافتقرت إلى إستراتيجية اقتصادية اجتماعية متماسكة.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.