حول الإلزام الأخلاقي

زيد بلال ابو لمى

ما الذي يمنعك عن ارتكاب جريمة قتل في الظلام حيث لا يراك أحد، أو يحجزك عن شرب الخمر والزنا خاليا، أو يوقفك عن سرقة مال شخص غائب، ولا كاميرا تصورك..؟

بل ماذا يدفعك لمساعدة عجوز على عبور الشارع، أو يلزمك أدبيا بالإحسان إلى الجار والمسكين وابن السبيل، أو إنقاذ طفل من الغرق وقد تهلك أنت..؟

لا يوجد قانون وضعي واحد وجد على كوكب الأرض يستطيع أن يلزم الناس أخلاقيا ويردهم عن الإفساد وهم خالون مختفون من سلطته، أو يرغبهم في الفضائل والأخلاق ولا رقيب.

حيث أن الإلزام الأخلاقي لا ينبع إلا من ذاتك ولا يصدر إلا عن نفسك وبمحض إرادتك.

وإذا انعدم الإلزام انعدمت المسئولية وضاع الأمل في إقامة العدل وعمت الفوضى وساد الاضطراب.

ولذلك يقول كاريل في “الإنسان ذلك المجهول”:

(يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية حتى يستطيع أن يحتفظ بتوازنه العقلي والعضوي.

إن أية دولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن لا تستطيع أن تفرض عليه الأخلاق).

فالقانون لا يكفي وحده لضبط السلوك الإنساني، بل يحتاج لأخلاق يحملها الناس في خلواتهم وتحملهم هي على فعل الخير وترك الشر، فعلى أي قاعدة يا ترى يجب أن تقوم الأخلاق ليتبعها البشر ويلتزموا بها؟
يقول فيخته: الأخلاق من غير دين عبث.

لابد من دين تستند عليه قاعدة الأخلاق ليحولها لقوانين أخلاقية قدسية، و(كلما كان الدين كاملا بسط جناحيه على علم الأخلاق كله بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب ويصبغ كل قواعدها بصبغته القدسية).

العقيدة هي التي تجعل للأخلاق فعالية وإيجابية مؤثرة، والأفكار المجردة لا تصبح عاملا مؤثرا فعالا إلا إذا تضمنت عنصرا دينيا، ولذلك لا تصح المقارنة بحال بين الأخلاق الدينية والأخلاق المدنية، فالإنسان بطبيعته لا يتحمس للخضوع لقواعد السلوك لمجرد أنها ممنطقة، أما إذا اعتبرها منزلة من ذات إلهية فتكتسب عنده قدسية بالغة، ويكون اتباعه لها طاعة للأوامر الإلهية نفسها.

ودونك المقارنة بين تحريم الإسلام للخمر، واستجابة الصحابة له، وبين محاولة دول وحضارات عديدة مجرد حصارها وتقليلها فلم يفلحوا.

وإذا لم تكن الأخلاق قدسية معظمة؛ فما أسهل مخالفتها على البشر.

ناهيك عن القول بنسبية الأخلاق واختلافها باختلاف الزمان والمكان، ونفعيتها المادية وجعله هو المعيار = إفسادا لحياة الناس وإدخال الاضطراب والفوضى والهرج والاختلاط عليها.

في ديننا العظيم وشريعتنا الكبرى تستقيم الحياة الدنيا في كل مجالاتها الضرورية والحاجية والتحسينية، ويتشبع متبعوه بمحاسن العادات وكريم الصفات، وتقل أو تندر عند معتنقيه بحق خسيس النعوت ووضيع الحاجات؛ لارتباط ذلك كله بالآخرة، ويوم القيامة يوم الجزاء والحساب والإثابة والمعاقبة هو الباعث الكبير الحاضر أمام البشر في كل خلواتهم وحضورهم.

ولذلك اهتم به الإسلام إثباتا وتدليلا وشرحا وتفصيلا، وجعله ركنا ضخما من أركان الإيمان، وثالث ثلاثة عمد يقوم عليها دين الأنبياء في كل زمان: الإيمان بالله والنبوة والمعاد، وشريعتنا أكثر الشرائع تفصيلا في ذكر الدار الآخرة، مع معقولية كل ذلك وموافقته لصرائح الألباب والنهى.

بالإضافة إلى الدارة الآخرة ومركزيتها في ضبط حياة الإنسان واستقامتها، هناك أيضا صوت داخلي يناجي ضميره يمدحه إذا أحسن ويذمه إذا أساء، مبدأ أسمى وقانون أعلى كما يسميه “بارتملي” ويقول أننا نشعر في أعماق نفوسنا بصدى هذا القانون ونعجز عن تغييره، رغم وحي منافعنا وعمليات شهواتنا.

هذا الصوت هو نتاج وأثر الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، وبعث الرسل لينعشوها ويزيلوا الصدأ والأتربة عنها؛ لتقوم بعملها في ضبط بوصلة الإنسان وإيصاله للكمال على أتم وجه.

إذن هناك فطرة تناجينا من الداخل، ودار آخرة تنتظرنا في الخارج؛ ليعيش الإنسان حياته الطيبة بين هذين المؤيدين والزاجرين.

في الشريعة ثم مؤيدات و”ضوامن” كما تسمى في ألسنة الفقهاء؛ تصون الحكم الشرعي عن الانتهاك من المكلف، وتحمي نفسها بنفسها، في منظومة كلية متكاملة تخاطب كل ذرة فيه.

وقد قال الزرقا في “المدخل الفقهي العام” ٢/٦٠٦ معرفا المؤيدات بأنها: “كل ما يشرع من التدابير لحمل الناس على طاعة أحكام الشريعة الأصلية”.

فهناك أحكام “أصلية” شرعها الله لبيان وتنظيم الحقوق والواجبات، وهناك أحكام “تأييدية” وضعت لحماية القسم الأول، وضمان تطبيقها، وحمل المكلف على تنفيذها وحفظها.

والمؤيدات أخروية ودنيوية.

الأخروية كالتي وردت في الوحيين ترغب المكلف أو ترهبه، بغض النظر هل لفعله عقوبة دنيوية أم لا، فهناك ما لا يمكن الوقوف عليه في الظواهر كالحسد والنميمة والكذب؛ فتقوم “الزواجر” بتنفير العبد منها، وتحذيره من الوقوع فيها.

والمرغبات كالتي تشوق للفعل وتحث عليه، وتعد عليه بالثواب العظيم، وتظهر نتائجه في الدنيا من الحياة الطيبة المطمئنة؛ فيندفع المكلف للعمل بوازع داخلي شخصي، وباعث ومراقبة قلبية.

ومراقبة الله الناشئة عن هذين الأصلين مما تنف

رد به الشريعة الربانية عن قوانين البشر؛ فيؤثر العبد رضا ربه ولو لم يكن ثم “رادع” دنيوي، فهو يبتعد عن انتهاك الحرام طوعا واختيارا.

وهناك شيء آخر تنفرد به الشريعة الربانية وهو مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمجتمع مطالب بنفي خبثه ومنكره بنفسه قبل أن تطوله يد السلطة، وهو يمنع الجرائم بالتنفير منها ومن أصحابها ومحاصرتهم مجتمعيا وتضييق الخناق عليهم؛ فتنحسر الجرائم وتقل تلقائيا.

والدنيوية تصلح لمن ضعف وازع الله في قلبه من المكلفين؛ فشرع الله من “الزواجر” والتهديدات والعقوبات الدنيوية ما يردعه.

وهناك مؤيدات “مدنية” شرع الله بها حرمان الشخص من نتائج تصرفاته وعقوده ومعاملاته وخسران ثمرتها، ما يجعله يائسا من حصولها بطريق محرم؛ لأن الشرع اعتبره لغوا لا اعتراف به.

وتحت كل بند من هذه البنود كلام طويل عريض من فلسفة التشريع الإسلامي وعبقريته وحمايته وحفظه للمجتمعات، بما يعد إعجازا قانونيا مبهرا.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.