فقدان السيطرة.. هل أعاد كورونا مركزية الدين في القضاء على الخوف؟

سامح عودة

“يصعب على مَن صبّ كل اهتمامه على الواقع الظاهري الكبير لهذا العالم أن يتقبّل حقيقة أن هذا الواقع قد يختفي في أية لحظة مثل نفثة دخان، وسوف يحدث هذا في لحظة ما”.

[تشارلز لي-غاي إيتون]

“العولمة هي أن يشرب رجل حساء في الصين فيُخصَم راتبك أنت في مصر”. بهذه الدعابة البسيط اختزل أحد النشطاء على فيسبوك حال العالم بعد انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)، والتي بصرف النظر عن مدى دقّتها في تحديد منشأ الفيروس المستجد، فإنها تشرح بسخرية بسيطة مدى ركاكة هذا العالم الحديث الشامخ، والذي تداعت سيطرته أمام فيروس لا يُمكن لأعيننا أن تراه! فبعد قرنين من الزمان أو أكثر، منذ الثورة الفرنسية وعصر التنوير، وبعد الثورة الصناعية وتغوُّل رأسمالية السوق وتشكُّل النظام العالمي الحديث، وبعد الحضارة التي طاف أنبياء الحداثة بالتبشير لها، يقف العالم اليوم بأدواته تلك، وتطوراتها، مكتوف الأيدي أمام هذا الخصم الصغير.

فكما يقول الكاتب ودكتور علم الاجتماع “أسعد وطفة”: “لقد جاء كورونا المستجد ليهزّ كثيرا من المسلّمات المعرفية الجديدة والأساطير الفكرية القديمة، فأيقظ الإنسانية من غفوتها العنيفة الضاربة في الاستسلام للطمأنينة الحضارية الجارفة”. هذه اليقظة، أو الصدمة، التي أسقطت “الطروحات الأسطورية لنزعة ما بعد الإنسانية التي ترى في عالم الإنسان القادم ومستقبله الجديد صرحا للخلود الإنساني الحافل بالمعجزات الحضارية والمدهشات التكنولوجية التي تعتمل في قلب الحضارة المعرفية والثورة الرقمية المعاصرة”.

هذه الصدمة التي رسمها قبل مئة عام الرسام النرويجي الشهير “إدفارد مونش” في لوحته الأشهر “الصرخة”. ففي عام 1893 قرّر “مونش” أن يُطلعنا على الوجه الخفي لحضارة الإنسان الغربي الصاعدة، مُتمثِّلة في صرخة هلع من المجهول، “حيث سجّلت هذه اللوحة نقطة تحوُّل مهمة في القرن العشرين، بعدما قطع الإنسان الغربي كل صِلاته بالمقدس، الذي كان يمنحه الارتياح في العصر السابق، وأصبح عاريا من الإيمان والتقاليد والعادات، والثوابت بشكل عام، لينقلب مسكينا في لحظة أزمة وجوديَّة مهولة”.

حكايتنا هي حكاية هذا الإنسان الذي انقطع عن عالم السماء ففقد مصدر الأمن المعنوي، حكاية الأنبياء الجُدد، أنبياء التنوير الذين قالوا للإنسان: لا تخف، سنفكّ السحر عن العالم وسنحرّرك من قيد التقاليد والخرافات وسنقضي على الخوف بلا رجعة، فجعلوا الدين مصدر هذه المنكرات في مقابل العلم والوضعية المنطقية التي ألغت مركزية الإله وجعلت مركزية الإنسان هي كل شيء.

عن العالم الذي يفتك به الهلع والخوف الذي لا تُطمئنه الإجراءات، عن الحضارة التي تُخبرنا أن المصل مسألة وقت بينما تتكبّد مليارات الخسائر كل يوم، وعن المصل الذي تحتاج إليه أرواح البشر حتى تواجه هذه الجائحة التي تنتشر كالنار في الهشيم. فهل فكّت الحداثة السحر عن العالم وأنهت الخوف كما وعدت، أم أنها أورثتنا خوفا من نوع جديد؟ وهل كانت أدوات الحضارة كافية لإدراك الحقيقة كلها، أم أننا نحتاج إلى ملاذ راسخ متجاوز لهذا العالم لنستمد منه المعنى ويعطينا في رفقته الأمان؟

خارج السيطرة.. السحر الذي لم يُفكّ
“إن الزهو مرضنا الطبيعي الأصلي، وإن أضعف المخلوقات وأكثرها تعرضا للمصائب هو الإنسان، ومع ذلك هو أكثرها شموخا وكبرياء. يرى نفسه غارقا في الأوحال، ومع ذلك تتسامى به مخيلته فتحيله فوق الثريا وتجعل السماء تحت أقدامه”.

[ميشيل مونتين]

في ممر تُحيطه الأرفف الفارغة، تمتنع الأصوات في حضرة عربات التسوق، لا صوت يعلو فوق صوت العجلات المتسارعة حول البضائع، فيما عدا صوت هذه المشاجرة القصيرة، الحامية، التي أعلنتها مواطنتان صالحتان أرادتا الظفر بالعبوة الأخيرة من ورق المرحاض! هنا، في أستراليا، أحد بلاد العالم الأول، يتملّك الهلع البشر في محاولة للسيطرة على الوضع الذي خرج عن السيطرة.

من هنا نفهم الأمر، هذه المشاجرات المتلاحقة في المتاجر هنا وهناك، الأرفف الفارغة، التكديس المحموم، وغيرها من سلوكيات متلازمة “الكورونا فوبيا” -أو الخوف من فيروس كورونا المستجد- ما هي إلا رد فعل لما يشعر به الأفراد من افتقاد السيطرة، محاولين أن يُعيدوا التحكم في زمام الأمور ولو بمجرد إحساس داخلي بأنهم يستطيعون التحكم في كل شيء، تماما كما آمنوا بذلك على الدوام.

هذا الشعور الذي لا ينفك عن الإنسان الحديث وما أقنعته به معتقدات الحداثة وإنجازات التقدم العلمي، فارتفع عنده سقف السيطرة البشرية على الطبيعة والأشياء، وهو ما تشرحه بوضوح مقولة “ماكس فيبر” بأن الحداثة أتت لتفكّ السحر عن العالم، ومع هذا المجيء جاءت نسختها الصُّلبة لتؤكد مركزية الإنسان وقدرته على بسط سلطان العقل على الطبيعة الجامحة وتسخيرها لخدمة البشرية وتقدُّمها، ومن ثم تحييد المخاوف البشرية من الموت بالمرض أو الكوارث أو العدوان البشري.

فحسب ما يقوله “حجاج أبو جبر”، في مقدمة ترجمته لكتاب “الأزمنة السائلة”، كان التصور الميتافيزيقي للكون، القائم على سلسلة الوجود الربانية، هو ما ميّز حقبة ما قبل الحداثة، فكان البشر يلعبون حينها دور الحراس الذين يحافظون على مواقع كل شيء وكل دور في الكون على الموضع الذي خلقه الله بحسب تصورهم؛ حتى أتت الحداثة، بوصفها تمردا على الكنيسة الأوروبية ونقضا لمنهجيتها التفسيرية، لتقضي على مركزية الإيمان وتحارب فكرة الوحي والخلود الأُخروي بتقديسها العلم والعقلانية الوضعية، وتناهض المطلقات كافة بثالوثها الشهير: العمل، الإنتاج، التراكم.

هذه الصلابة التي ما لبثت أن تفكّكت وتحوّلت إلى سيولة تامة لا حرّاس فيها ولا تخطيط، فارتفع رصيد المخاوف البشرية بالصورة الذي ذكرها “روبرت كاستل”حين قال إن شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل عن عدم وضوح نطاقها في عالم اجتماعي يتمركز حول طلب لا نهائي للحماية وبحث مسعور عن الأمن.

في هذا السياق، نلتقي مع ما قاله “برتراند راسل” بأن “العالم يواجه كارثة محتملة، ويسأل نفسه في حيرة: لماذا يبدو أنه ليس هناك مخرج من مصير مؤلم لا يرغب فيه أحد!”. هذه الكارثة ليست “كوفيد-19″، وإنما هي كارثة السعي المحموم في الحياة بلا وجهة، ظنا منّا بأن سلطتنا البشرية وأدواتنا العلمية أضحت قادرة على إخضاع كل شيء وتفسيره.

لقد زعمت الحداثة، كما قال “زيجمونت باومان”، أنها ستبيد الخوف بعدما تنتهي الغيبيات ويحكمنا العلم، وأننا سنسيطر على كل شيء، فأعلنت قتل الإله، وصنعت الرجل الخارق الذي تدور حوله الدنيا، وأنهت مركزية الوحي بمركزية اللذة العابرة، ثم ما لبثت أن دكّت حصون الأمن بحروب ومجاعات ونازحين ومُهجَّرين وأطعمة مسرطنة وهواء مُشِع يقتلك لمجرد تنفسّك.

فهل انتهى الخوف حقا؟ وهل وجدت البشرية إجاباتها؟ أم أن ما نمر به اليوم من جائحة، لا نملك لها تفسيرا سابقا وحلولا جاهزة، يخبرنا أننا نحتاج إلى مصدر فوق البشر لبعث الطمأنينة في النفوس؟ لكن قبل هذا، هل استطعنا أن نمد أنفسنا بالتفسيرات اللازمة للكون والحياة قبل أن نجدنا عاجزين أمام هذا الخوف؟

عين عمياء وأدوات ناقصة
“العلم قصة بلا نهاية تتصف بمنتهى الإثارة. لكن ومع الأسف، فنحن بنو الإنسان محدودون بالزمن، ونحتاج إلى إجابات حاسمة لأسئلتنا”.

[برونو جيديردوني]

في قصيدته “المجيء الثاني”، ينعَى “ويليام بيتس” عالمنا الحديث قائلا: “لقد هوت الأشياء وانهار المركز/ وأقبل العالم على فوضى خالصة!”، وفي وصف الأشياء يقول “هربرت ويلز” واصفا زمننا بأنه “عصر القلق الذهني”، أو بعبارة “راسل”: العصر الذي يفتقد المَخرج من هذا المصير المؤلم الذي لا يرغب فيه أحد.

لكن كيف نفهم هذا الهلع الوجودي في وجود العلم والثورة الصناعية ورأسمالية السوق وكل المفردات التي أعلن الإنسان تحكّمه في العالم من خلالها؟ هذا ما يجيبنا عنه الفيزيائي الشهير “إرفين شرودينجر” بقوله: “إن الصورة العلمية -[أو المادية]- للعالم الحقيقي من حولي شديدة النقص… إن العلم لا يستطيع أن يجيبنا ولو بكلمة واحدة عن الأحمر والأزرق والمر والحلو والألم الجسدي والمتعة الجسدية، إنه لا يعلم شيئا عن الجميل والقبيح والخير والشر والإله والخلود”، فقط يتظاهر بالإجابة، “لكنّ الإجابات غالبا ما تكون شديدة السخافة لدرجة تجعلنا لا نميل إلى أخذها على محمل الجد”.

هذه الصورة العلمية التي يتحدّث عنها أحد أبرز علماء العصر الحديث لا يُعنى بها العلم التجريبي وحده، بل هي، كما يقول “بيغوفيتش” في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، أحد خطّي التفسير اللذين حكما التاريخ: التفسير المادي والتفسير الروحاني، بيد أن ما أعلنته الحداثة، بقتل الإله وإعلان السيطرة على العالم وفك السحر عنه والتخلي عن الدين، قد قوّض الخط الروحاني في تفسير الأمور والتعامل معها لصالح التفسيرات المادية، والتي من ضمنها العلم.

في هذا السياق، يقول “ريتشارد داروين”، وهو مَن هو في تاريخ العلم والمادة، إن “التقدم في أي عدد من المهام العلمية يمكن أن يؤدي إلى معرفة الكثير من التفاصيل المهمة، لكن تأثير ذلك على تقييمنا للحياة والواقع سيكون ضئيلا للغاية”، هذا لأن التفسير المادي لا يرى سوى الكم، فلا يمكنه التمييز -مثلا- بين الموناليزا الحقيقية والزائفة إذا تطابق الرسمان في كل المكونات، ذلك لأن الاختلاف -كما يخبرنا بيغوفيتش- يكمن في اللمسة الشخصية للفنان.

هذه الأحادية التفسيرية للفكر الحداثي قد تشرح أسباب الخوف التي تُسيطر على العالم الحديث في حال افتقدنا السيطرة، فحينما تُختَزَل الأشياء في تفسير واحد، ثم يعجز هذا التفسير عن مدّنا بما نحتاج إليه من الطمأنينة والأمان، فسيكون من المنطقي حدوث الخوف. هذا الجانب التفسيري هو التفسير البشري المستغني عن الإله، الذي يبحث عن الحلول في حدود معرفته، ويبحث عن الأمان في نطاق سيطرته على الأشياء.

لكن بنظرة إلى ما في وسع البشرية، سنجد قول الفيزيائي “شرودينجر” -آنِف الذكر- حول قصور الإدراك العلمي للحياة، وسنجد قول “مارتن هايدجر”، الفيلسوف الألماني الشهير، الذي يخبرنا بأن مساعي الإنسان المستقلة عن الإله غير كافية للتعامل مع وقائع الحياة العصيبة، فيقول: “إن الفلسفة لن تكون قادرة على إحداث تغيير فوري في الوضع الراهن للعالم، وهذا يصدُق على تأملات الإنسان ومساعيه كافة وليس على الفلسفة فقط”، ثم يكمل قائلا: “وحده الإله يمكن أن ينقذنا.

لقد أتى فيروس “كورونا المستجد”، وفقا لـ “أسعد وطفة”، ليُشكِّل صدمة توقظ الإنسان من غفلته الحضارية، “ليهزم غروره الحضاري، ويستحضر عجزه الكبير إزاء المصير المستقبلي الغامض”، وهو ما يتآزر مع عجز أدواته المعرفية والحضارية عن الإحاطة بكل شيء، حتى إن فيروسا صغيرا لا يُرى بعين هذا الإنسان كان قادرا على حصد أرواح عشرات الآلاف من بني جنسه، بينما تقف أيدينا عاجزة -حتى الآن- عن ردعه واستئصال الخوف الذي خيّم به علينا. فإن كانت أدوات الإنسان لم تستطع نزع الخوف من عالمه، بل زادته، فإلى أي مدى تحتاج البشرية إلى إلهها حين تعجز عن تخليص نفسها؟

الملاذ
“ليس هناك شيء في الحياة أهم من العثور على المنظور الصحيح الذي ينبغي أن تُشَاهَد الأشياء من خلاله ويُحكم عليها منه، ثم الثبات على ذلك المنظور”.

[كارل فون كلاوزفيتز]

في صورة متداولة على مواقع التواصل، يقف عامل رعاية صحية -في زي الوقاية الكامل- بجوار عيادة “المهورست” ببريطانيا، يرفع بصره وذراعيه للسماء في توسّل صامت لخالقه أن يجعل لهذه الأزمة مخرجا. ففي أقل من ثلاثة أشهر، وحتى كتابة هذه الكلمات، بلغ التعداد الرسمي لحالات الإصابة بـ “كوفيد-19” قرابة 3.2 مليون حالة، توفي منها نحو 227 ألف حالة[14]، في تسارع محموم لا يملك البشر أمامه حيلة حتى الآن إلا تقليل فرص العدوى بالإجراءات المتبعة في مختلف البلدان، ولهذا نظر الرجل إلى السماء.

Omar Kasir
@OmarKasir
عامل يائس في مستشفى يرزح تحت وطأة أزمة تفشي فيروس كورونا في نيويورك، ينشد المساعدة من السماء.
الصورة أمام مستشفى إلمهرست الموجود في “بؤرة الأزمة” كما أن الظروف داخله تجعله يبدو وكأنه “منطقة حرب” في ظل العدد الضخم للمرضى والنقص الحاد في التجهيزات الطبية.

تلك النظرة التي يعلم بها في قرارة نفسه أنه يحتاج إلى مصدر أكبر منه يُطمئنه ويلجأ إليه، وأن الإله لم يمت، ولا ينبغي له أن يفعل، فكما يقول “باومان”: “لو مات الإله فإن هذا لن يحدث إلا بموت الإنسانية جمعاء”. في هذا الموقف البشري العصيب نعلم “أن واحدة من أهم الحقائق عن بني البشر تتمثّل في أن إحراز أعلى مستويات الثروة والصحة والحكمة لا يضمن لهم أبدا الاستقلال المطلق”، لأننا نعلم “أن الثروة ستتلاشى مع الوقت، والصحة ستتآكل مع تدهور حال الإنسان، والحكمة ستنحسر مبتعدة مع حلول الهرم والشيخوخة، وأن ذلك يكفي بكل تأكيد لإثبات ضعفنا الفطري”، مما يعني أن البشرية لا تستغني عن خالقها مهما ظنّت أنها فعلت.

فبالنظر إلى معجم “لاروس” للقرن العشرين، سنجد أن “الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية وأقربها إِلى الحياة الحيوانية… وأن الاهتمام بالمعنى الإِلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإِنسانية، وأن هذه النزعة لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإِسراف في الحضارة وعند عدد قليل جدا من الأفراد”

في هذا السياق يقول الباحث “عبد الله الشهري” إنه “بمجرد أن ننتبه للمشهد الأكبر ويجذبنا إحساس للبحث عن معنى الحياة، فإننا -سواء أحببنا ذلك أم لا- ندخل إلى المنطقة الإدارية لمملكة أخرى تسمى “الدين” فمشكلة البشر الأساسية، كما يرى “كولن ويلسون”، تكمن في “ميلهم إلى الانحباس في التفاهات اليومية للحياة في العالم الخانق لمشاغلهم الشخصية”، فينسون بذلك “العالم الأعظم للدلالة الأوسع التي تحيط بهم”

فما صنعه الوباء هو أنّه أخرج البشر من تفاصيل التفاهات اليومية تلك، بتعبير “ويلسون”، لأن التفاصيل لم تعد تنجينا من الخوف، بل إنها أنشأت لنا ذعرا من نوع آخر -الكورونا فوبيا والوصمة الاجتماعية بالمرض- في حين أننا صِرنا في حاجة إلى ملاذ أكبر نطمئن إليه ويمنحنا ما لا تستطيع أدواتنا أن تمنحنا إياه، لا لأننا نحتاج إليه فقط في هذه اللحظة، لكن لأنه يُشكِّل المعنى الذي تدور الحياة في فلكه، وهذا ما يُحقِّقه الدين على مر العصور كما يقول المؤرخ الشهير “بلوتارخ”بأننا قد نجد مدنا بلا أسوار أو حضارة ولكننا لا نجد مدينة بلا معبد.

فما تحتاج إليه البشرية الآن أكبر من مجرد لقاح يقيها آثار العدوى، فحتى هذا الاكتشاف يفتح تساؤلات لا تنتهي حول توفر هذا اللقاح للجميع بالتساوي، فضلا عن شكل الحياة بعد انقضاء الجائحة والخسائر الاقتصادية التي ينتظرها العالم جرّاء ما حدث. ما تحتاج إليه البشرية في هذه اللحظة أن تجد ملاذها الذي يُخلّصها من سيطرة الخوف، ملاذها الذي نؤمن بقدرته على السيطرة على الوضع، بينما نترجم نحن عجزنا إلى تصارع على الموارد من أجل السيطرة على شيء ما.

فإن كان العلم أداة البشر في السيطرة الخارجية على العدوى، وكانت التدابير المادية قادرة على تحجيمها قدر الممكن، فإن عجز هذه المادية على إزالة الخوف، كما أسهب “زيجمونت باومان” في كتابه “الخوف السائل”، يضعنا أمام سؤال جديد -قديم- حول ماهية الحاجة التي نطمئن بها من مخاوف العالم المتزايدة، والتي علم الإنسان منذ فجر وجوده أنها تتمثّل في صلته بخالقه، أو كما قال “المسيري”: “اللَّه هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسِي اللَّه ركيزة الكون كلها تنتهي”.

غير أن التطرف في النزعة المادية لا يتزن بتطرف آخر في النزعة الروحية التي تُنكِر محورية العلم والتقدم الحضاري كأداة حتمية لمواجهة الكوارث، وهو ما يُقرّه “بيغوفيتش” بسلاسة حين يقول: “يُمثِّل الإسلام في تاريخ تطور الأديان نقطة تحوُّل لا جدال فيها، فهو يختلف عن غيره من الأديان والمذاهب والفلسفات جميعا، لقد جاء الإسلام بمدخل يعكس فلسفة جديدة كل الجدة. تتطلّب هذه الفلسفة من الإنسان أن يحيا -في وقت واحد- حياته الجوانية والبرانية، الحياة الأخلاقية والحياة الاجتماعية، الحياة الروحية والمادية معا، وبدقة أكثر تقتضي هذه الفلسفة من الإنسان أن يتقبّل بوعي كامل وإرادة كاملة جميع جوانب هذه الحياة باعتبار أنها تُحقِّق إنسانيته، وتؤكد المعنى الحقيقي لحياته في هذه الدنيا.

شاهد أيضاً

الشباب.. صوت التغيير في عالم الظلام

لماذا يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية أميركا وأوروبا، بينما يخيم سكون مدهش بين شعوبنا وشباب منطقتنا الأقرب رحما ودينا؟