ليلة القدر خير من ألف ليلة

كاتب ومدرس للترجمة الاسلامية
محمد فراج

تُحدثني نفسي منذٌ زمنٍ أن أكتب عن فضل ليلة القدر، عن زهرة الشَّهر الغرَّاء، وجائزته الحسناء، وهديَّة الله لعباده الأصفياء الأنقِّياء، ولكن لم يكن يجُول في خاطري حينها إلا أن أُعيد الأقوال التي قِيلت في كرامةِ تلك الليلة وبركاتها. وفي أثناء تصفُّحي لما وَردَ في فضل ليلة القدر من آياتٍ بيناتٍ وأحاديث شريفة، وقعت عيني على حديثينِ غير مشهورين لا يعلمٌهما كثيرٌ من النَّاس، فقد جاء في صحيح الترغيب والترهيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه كان في الرِّباط ففزعوا إلى السَّاحل، ثم قيل.. لا بأس، فانصرف النَّاس وأبو هريرة واقف، فمرَّ به إنسانٌ فقال: ما يُوقِفُك يا أبا هريرة؟! فقال: سمعتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “موقِفٌ ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجرِ الأسود”. أخرجه بن حِبان وصححه الألباني بإسنادٍ صحيح في السلسلة الصحيحة. وكذلك أخرج الحاكمٌ في مستدركه عن بن عمر رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ألا أُنبِئكُم بليلةٍ أفضلُ من ليلةِ القدر؟ حارسٌ يحرٌس في أرض خوفٍ لعلَّه لا يرجعُ إلى أهله”. والحديث على شرط البٌخاري ولم يٌخرجه. وهنا تحوَّلت وجهتي من الكتابة عن فضلِ ليلة القدر، إلى الرغبة في تذكير النَّاس بأنَّ هناك من الأعمال ما قد يفوقُ ثواب إدراكٌ ليلة القدر في بيت الله الحرام عند الحجر الأسود.

بدايةً إنَّ المُتأمل في هذين الحديثين الشريفين يٌدرك بكل يسرٍ وسهولة طبيعة هذا الدين، وكيف أنَّه دينُ عملٍ ورباط ودعوةٍ وجهاد، كما هو دينُ تربيةٍ وأخلاق وروحانيةٍ وخشوع سَواءً بِسواء، ولهذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يٌعلِمَ أمته درساً واضحاً، في الفرق بين الغاية والوسيلة، وبين العبادات الفردية على ما لها من فضل ومكانة والعمل الجماعي من ناحية أخرى، فالعبادة في ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، ولكن هذه العبادة وسيلة وليست غاية، إنَّما الغاية منها هو رضا الله ودخول الجنَّة.

الوصول إلى مرضاة الله وحسن مثوبته، ليست مقصورة على عبادة مخصوصة، ولا طاعة معيَّنة، ولا وقت مٌحدَّد ولو كانت ليلةُ القدر
وبِناءً على هذا فهل يقفُ الرجل موقفاً في سبيل الله يُقرُّ حقاً، أو يرفض ظٌلماً، أو يأمر بمعروفٍ، أو ينهى عن منكرٍ، إلا وهو يبتغي به رضوان الله والجنَّة؟!، فلا عجب من أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفه هذا خيرٌ من إدراكه ليلة القدر، وكذلك المسلم الذي يحرُس في أرض خوفٍ مُضحِّياً بنفسه في سبيل الله، حتى لا يصيب جماعة المسلمين مكروه، وقد باع نفسه في سبيل الله وأراد مرضاته من أقصر الطُّرق، فلا عجب كذلك من أن يصفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حراسته تلك بأنَّه يبيت في ليلته هذه وهو عند الله خيرٌ ممن أدرك ليلة القدر.

لذلك يجبٌ أن تُدرك يا أخي بأنَّ الغاية من الصيام والقيام، وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله، وقيام ليلة القدر وكل عملٍ صالح تقوم به، هي رضا الله وبلوغ جنَّته، وليست ليلة القدر مع تقديرنا لها وطمعنا في إدراكها هي نهاية المطاف في ثواب الله للمؤمنين، فرُبَّ سجدةٍ واحدةٍ تكون سبباً في إدخال المرء الجنَّة، ورُبَّ عبادة اعوامٍ كثيرةٍ تكون فتنةً في الدِّين وباباً إلى جهنَّم وبئس المصير، ألم تقرأ حديث أبي هريرة مرفوعاً ” بينما كلبٌ يطيفُ برِكَّية كاد يقتُله العطش إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني اسرائيل فنزعت مُوقِهَا فسقته فغُفِر لها به”. وكذلك حديث ثوبانٍ الذي رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “لأَعلمنَّ أقواماً من أُمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ جبال تِهامة بِيضاً فيجعلُها الله هباءً منثوراً”. لذلك لا عجب من أن يكون جزاءُ موقف ساعةٍ في سبيل الله، أو سَهرُ ليلةٍ حراسة لعباد الله، أفضل من عبادة ثلاثٍ وثمانون سنةٍ خالصةً لله في أفضل بقاع الأرض.

ألا فلتعلم يا أخي أنَّ الوصول إلى مرضاة الله وحسن مثوبته، ليست مقصورة على عبادة مخصوصة، ولا طاعة معيَّنة، ولا وقت مٌحدَّد ولو كانت ليلةُ القدر، فرُّبَ كلمةٍ من رضوان الله لا تُلقِي لها بالاً يرفعُك الله بها درجات، ورُّبَ أُخرى تكون من سخط الله لا يُلقَىَ لها بالاً يهوي بها صاحبُها في قعر جهنم، إنَّ سحرة فرعون دخلوا الجنَّة ولم يعملوا من الصالحات شيئاً سوى انَّهم قالوا كلمة حق عند سلطان جائر، قالوا: “إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ”. إنَّ هؤلاء لم يُؤدٌّوا العبادات، أو يُقيموا الصلوات، لم يعرفوا السٌّجود والبكاء من خشية الله، فقط قالوا كلمة حق لطاغية فوضعوا بها رِحالهم في جنَّةٍ عرضٌها السَّموات والأرض أُعدَّت للمٌتَّقين.

الله قريبٌ مجيب، يُجيب دعوة المضطر في رمضان وفي غير رمضان، فاحرص على أن تكون كلٌّ ليلة في مسيرك إلى الله هي ليلة قدرك

رويترز

وحتَّى تستقيم قِيمٌ الإسلام في نفوسنا، وتتَّضح تلك الغاية في عٌقولنا، كان لابٌدَّ من هذا التوجيه النَّبوي الحكيم، الذي يُربِي فيه المسلم نفسه تربيةً إسلاميةً متكاملة، ينتقلٌ بها بين مواطنِ الخير، يأخذُ منها ما يٌناسب الوقت ويُبلِّغه الغاية، فتجدُه يسأل الله أن يبلِّغه ليلة القدر وأن يكونَ له فيها أسعدَ حظٍ واوفرَ نصيبٍ، وهو مع ذلك يعتقد اعتقاداً أرسخ من الجبال الرواسي، أنَّ موقِف ساعةٍ في سبيل الله، أو كلمة حقٍ عند سُلطان جائر، أو إقامة شعيرةٍ من شعائر الإسلام المجهولة، هو خيرٌ له من طُولِ لزُومِ فرديٍّ للعبادة، من صلاةٍ وذكرٍ ولو كان ذلك عند الحجر الأسود وفي ليلة القدر، وهو مع ذلك يعي ويفهم أنَّ الخيرية هذه لا تعني الاستغناء عن عبادة التبتل، واغتنام الأوقات الفاضلة، والانقطاع لله، بل يُقرُّ الأمرين معاً، ويجتهد أن يأخذ ثواب الله من كليهما، فالأمران متلازمان متكاملان، وإلا فإننا نعرفٌ عُلماءً كانوا ومازالوا يُحدِّثونا عن فضل ليلة القدر، ويحثُّونا على كل أعمال الخير، بل إنَّ بعضهم أقام إماماً بالنَّاس العشرات من ليالي القدر عند الحجر الأسود، ولكنَّهم عندما احتاج الحقُّ منهم موقفاً سقطوا على رؤوسهم، وطَفقُوا يُبرِّرون الظٌلم ويكتمون الحق ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولو تدثَّروا بالصمتِ لكان خيراً لهم وأنفع لغيرهم.

وكذلك من المفارقات العجيبة هي أنَّ الكثير من المسلمين يدخُل أحدهم في شهر رمضان، يعٌدٌّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ ينتظر ليلة القدر، فما يَلبثُ أن ينقضي الشهر وترحلُ لياليه، وهذا المسكين مازال مُنتظر لليلةِ قدره، وهو لا يدري أنَّه يملك الكثير من ليالي القدر بين يديه في كلِّ يوم، بل في كلِّ ساعة، لا يدري أنَّه حين ينصُر مظلوماً، أو يجبر مكسوراً، أو يحمي ضعيفاً، يكون خيراً له من ليلةٍ يُكثر فيها من التهليل والتحميد والتكبير منفرداً، كما لا يدري هذا المسكين أنَّ رِباطَ ساعةٍ في سبيل الله على تُخوم المقاومة ضد المُحتل هو موقفٌ خيرُ له من ليلة القدر، وأنَّ من يَخلُفُ غازياً أو أسيراً في أهله بخير يكون خيراً له من صلاة ركعتين في جوف الليل بمحاذاة الحجر الأسود، وأنَّ السَّعي على الأرملة والمسكين واليتيم والمعدوم، خيرٌ له من صيام النهار، وقيام الليل، كما لا يدري هذا المشغول بتحري ليلة القدر، هل هي ليلة الثالث والعشرين؟ أم السَّابع والعشرين؟ أنَّ نُصرة الحق بالمال موقف، والإعانة على نوائبِ الدهر موقف، وتغبير القدم في سبيل الله تفقداً لبيوت المغيبين من أسرى المسلمين موقف، وكل موقف مثل هذه المواقف يدخل تحت بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود”.

وأخيراً أعلم وفَّقني الله وإيَّاك لإدراك ليلة القدر، أنَّ الله قريبٌ مجيب، يُجيب دعوة المضطر في رمضان وفي غير رمضان، ويتنزَّل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر وكل ليلة، فاحرص على أن تكون كلٌّ ليلة في مسيرك إلى الله هي ليلة قدرك، وفي كلِّ الأحوال كن على يقينٍ تام أنَّه “إذا رقَّ قلبُك، وأقشعرَّ بدنُك، وجرى دمعُك، فهذه ساعة قدرِك، فأدعُ.. فأنت مستجاب الدعوة.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.