حتى يغيروا ما بأنفسهم

 محمد لخضر باحث في العلوم السياسية

إن من أبرز الآيات التي نستحضرها دوما في سياق حديثنا عن أولويات الإصلاح وأصول الفساد هي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد-11)غير أنه من النادر أن نتساءل عن كيفية تغيير النفس وحقيقتها وأصنافها وكيفية معالجة أحوالها وتقلباتها. ويعتبر رمضان من أهم محطات إصلاح النفوس وتحليتها بالقيم والعوائد الحميدة، ففيما تكمن أهمية إصلاح النفوس؟ وما هي أساليب ذلك في القرآن الكريم؟

أولا: تعريف النفس
لقد ذكرت النفس في القرآن الكريم في عدة مواضع من بينها: ﴿سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يس-36)، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (الأنبياء-35)، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ (البقرة-48)، وبعيدا عن الجدل القائم حول الفرق بين النفس والروح وهل هما كيان واحد أم مختلف،فإن النفس تعرّف باعتبارها: الجانب المحرك والموجه والمسؤول عن سلوكات الإنسان وأفكاره ونزواته وأخلاقه وانفعالاته وتوجهاته خيرا أم شرا، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (07) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (09) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس). ويقول الشاعر: والنفس راغبة إذا رغبتها .. وإذا ترد إلى قليل تقنع. وقد قال الإمام البوصيري رحمه الله:

والنفس كالطفل إن تُهْمِلْهُ شَبَّ على .. حُبّ الرضـــــاع وإن تَفْـِطْمه يَنْفَطِــمِ
وجاهد النفس والشيطان واعصهـــما .. وإن هما مَحَّـــضَاكَ النـــصح فاتـَّـِهــمِ

أما الروح فهي الجانب المسؤول عن حياة البدن وتأدية وظائفه الحيوية،ولهذا فبزوالها تتعطل وظيفة كل عضو من جسم الإنسان، وكنهها لا يعلمه إلا الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾(الإسراء-85).

ثانيا: أنواع الأنفس في القرآن
لقد نص القرآن على وجود ثلاثة أصناف من الأنفس هي:
أ- النفس الأمارة بالسوء: وهي النفس الحريصة على دفع صاحبها نحو مخالطة المعاصي، وتزيين الشهوات والإيقاع به في المهلكات، ومثلها ما ذكره الله على لسان امرأة العزيز: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف-53) وهذه أسوء أنفس الآدميين.
ب- النفس اللَّوَّامَةُ: هي نفس تترنح بين الخير والشر، تغالب شهواتها تارة وتسقط في حمأة المعصية تارة، فصاحبها يستحضر الملامة والحسرة والخشية عقب اقتراف أي ذنب فيتوب ويؤوب، قال تعالى:﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة-2) وهذه نفس طيبة لأنها رجّاعة إلى الحق ولا توجد بها مادة الإصرار والتحدي.
ت- النفس المطمئنة: وهي النفس الموحدة التي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ نبيا ورسولا، فبلغت من كمال الإيمان ولطائف الإحسان ما جعلها ترتقي في مدارج العرفان، فاطمأنت بوعد الله ورغبت فيما عنده دون سواه، قال تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)﴾(الفجر)

ثالثا: أحوال الأمم وتقلبات الأنفس في القرآن
الأمر بالقراءة وطلب العلم: فمن حكمة الله أنه لما أراد أن يغير ما بنفوس العرب من فساد، عاجلهم بالأمر بالقراءة التي هي سبيل العلم وتحرير الوعي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق-01) ولا يوجد أنفع منهما في تزكية النفوس
لقد ضرب لنا القرآن عدة نماذج حول تقلبات الأمم والأفراد وارتباط مصائرهم بما كسبت أنفسهم خيرا أو شرا، ومن هذه النماذج نذكر:
1- قصة إخوة يوسف: ففي بداية أمرهم كادوا لأخيهم يوسف وآذوا أباهم يعقوب، ثم لما أدركوا خِطْئَهُم تابوا وأصلحوا نفوسهم فقبل الله منهم بعد أن ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)﴾ (سورة يوسف)
2- قصة امرأة العزيز: فبعد سعيها لإغواء يوسف والإيقاع به، تابت واعترفت بذنبها وندمت عليه وقالت: ﴿ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وما أبرئ نفسي ِإنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إن ربي غفور رحيم (53)﴾ (يوسف) فصلح حالها بعد ذلك واستقامت سيرتها وسريرتها.
3- قصة قوم يونس: بعدما أَيِسَ يونس من إيمان قومه عزم على مفارقتهم وأخبرهم أن العذاب سينزل عليهم في ثلاثة أيام،فلما رأوا إرهاصات العذاب وأيقنوا أنه قد حاق بهم،خرجوا مع أهليهم وغلمانهم وأنعامهم وجعلوا الرماد على رؤوسهم والشوك في أرجلهم ولبسوا الصوف وأخذوا يجأرون ويدعون ويبكون فعلم الله صدقهم فتاب عليهم، وقال فيهم: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (يونس- 98).

4- قصة سحرة فرعون: لقد أعلن السحرة توبتهم في اللحظة التي تكشفت لهم فيها عظمة الله، فبعد أن كانوا أعوانا لفرعون في طغيانه، أيقنوا أن ما جاء به موسى هو الحق وليس من قبيل السحر الذي يأتونه، فاخترق الإيمان شغاف قلوبهم وصدحوا في لحظة استفاقة وصدق و﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ(48)﴾ (الأعراف)
5- قصة العرب في جاهليتهم وبعد إسلامهم: لقد كان العرب في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، وعلى وضع أخلاقي وديني وإنساني بئيس،غير أنه لما صدقت منهم طائفة فآمنت وأخلصت وتزكت نفوسها، انتقلوا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن سيء الأخلاق والمعتقدات إلى أحسنها، فأصبح منهم سادة وقادة، حتى وصفهم القرآن بقوله ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران-110)
6- الأقوام مع أنبيائهم: أما بقية الأمم والأفراد الذين ثبتوا على الكفر والفساد ولم يغيروا ما بأنفسهم كقوم شعيب ولوط وعاد وفرعون والنمرود، وصاحب الجنتين، فقد أذاقهم الله سوء العذاب وكانت عاقبة أمرهم خسرا ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ (الأنفال-53).

وبتأمل أحوال النفوس وتقلباتها وعواقبها نلاحظ أنها على ثلاث أحوال:
أ- فهناك من تغيرت أنفسهم من الفساد إلى الصلاح، فاستقام حالهم وكانت لهم العاقبة الحسنة.
ب- وهناك من تغيرت نفوسهم من الصلاح إلى الفساد، فجحدوا نعم الله وكفروا به فكان لهم المصير الأسوء في الدنيا والآخرة.
ت- وهناك نفوس أصرت على فسادها ورفضت دعوة الأنبياء وتنكبت الصراط المستقيم، فكان عاقبة أمرها خسرا.
فصلاح الحال والمآل منوط بصلاح نفوس الأفراد والمجتمعات، فكيف يتحقق ذلك؟

رابعا: إصلاح النفس في القرآن
يمكن أن نحددها في الخطوات المنهجية التالية:
1- الأمر بالقراءة وطلب العلم: فمن حكمة الله أنه لما أراد أن يغير ما بنفوس العرب من فساد، عاجلهم بالأمر بالقراءة التي هي سبيل العلم وتحرير الوعي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق-01) ولا يوجد أنفع منهما في تزكية النفوس وتعديل الطباع وترقية المشاعر وتنقيح الأفكار وتنميتها.
2- الفهم الصحيح للوجود والمصير: أي معرفة الإنسان للهدف من وجوده ومسؤوليته في الحياة ومصيره بعد الممات، فالهدف من الوجود: هو عبادة الله وعمارة الأرض بالعدل والصلاح، والمصير بعد الموت: هو الحساب والجزاء على السيئات والحسنات وما يتبعه من نعيم أو عذاب أليم. قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون-115).
3- تقوية الصلة بالله تعالى: بالحفاظ على الطاعات واجتناب المحرمات والاستجابة لأوامر الله، فذلك هو سبب اطمئنان القلوب وسكينتها: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾(سورة الرعد).
4- إصلاح النفس بالتزكية والأخلاق: أي تربية النفس على الفضائل والمحامد كالعفة والحياء وطهارة القلب وحب المعروف والصدق والأمانة والصبر، وتزكيتها من المفاسد والأخلاق الذميمة ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(09)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ (الشمس).

5- التحلي بالصبر عند الشدائد والبلايا: فالصبر يعوّد النفس على قوة الشكيمة وصلابة العزيمة وعلو الهمة، وهو السلاح المنيع عند اجتماع البلايا، فلهذا كان أجره بلا حسبان ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر-10).
6- المرونة والتحلي بالحلم في مواجهة الواقع وخطوبه: قال ﷺ لأشج عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلم والأناة” رواه مسلم. فالأناة والمرونة والحلم تساعد الإنسان على معرفة عواقب الأمور التي تشتبه في بداياتها، كما أنها علامة التوازن النفسي والانضباط الإنفعالي، ولهذا قال تعالى:﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة-216).
7- الدعوة إلى التفاؤل: وعدم اليأس والقنوط والطمع الدائم في رحمة الله وفضله، فالتفاؤل يبعث في النفس روحا جديدة ويقوي عزيمتها ويدفع عنها أسباب الفشل واليأس،فيعقوب قال لأبنائه في غمرة الحزن والأسى: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّه إلا القوم الكافرون﴾ (يوسف-87).
8-الإطلاع على سير الأنبياء والصالحين: والأمم السابقين والاستئناس بأخبارهم والاعتبار بعواقبهم، ففيها السَّلْوةُ للأحزان والجَلْوَةُ للأشجان، وهي ترقق المصائب؛ فحينما يقف المبتلى على نماذج أشد من بليّته يتسع أفقه ويتعاظم حلمه ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف-111).

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.