شهيد الإصلاح.. الدكتور عبد الله الحامد

د. فتحي الشوك
طبيب

توفّي في أوّل أيّام شهر الرّحمة النّاشط الحقوقي السّعودي الدّكتور عبد الله الحامد بعد سنوات من الاعتقال في السّجون السّعودية تعرّض خلالها لكلّ أشكال الانتهاكات والموت البطيء، ليترجّل فارس آخر قتل عن سابق إصرار وترصّد بإهمال طبّي متعمّد بسبب آرائه الّتي كان يتبنّاها ويدعو إليها ومات عليها وهو ثابت وصامد، توفّي أحد أبرز رموز التيّار الإصلاحي السّعودي وفقيه الدّستوريين بعد مسيرة حافلة بالنّضال الحقوقي لأجل الوطن والإنسان، خاتمة متوقّعة لمن مثله في بلد ترعبه الكلمة حتّى ولو كانت نصيحة ليلتحق بآخرين في انتظار آخرين قد يلتحقون بقافلة الصلّاح والمصلحين.

خبر حزين في زمن الكورونا الّتي يبدو وأنّنا لم نستوعب دروسها بل إنّ أنظمتنا القمعيّة تستغلّها للاستمرار في ممارسة هوايتها السّادية وفي الإمعان في التوحّش، وكما حصل بعد قتل النّاشط عبد الرّحيم الحويطي ومن قبله الأستاذ جمال خاشقجي فلا يبدو أنّ الجلّاد قد اعتبر ممّا حصل بل على عكس ذلك فان شاهيته للقتل تزداد أكثر وهو ما يعرّض عشرات المعتقلين لنفس المصير، فهل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه وكيف السّبيل إلى ذلك؟

عبد الله الحامد.. الإصلاحي الصّامد
ولد عبد الله الحامد في 12 يوليو 1950 بالقصيعة إحدى ضواحي مدينة بريدة، نشأ في أسرة متوسّطة الحال وكان له أحد عشر شقيقا، تخرّج من المعهد العلمي ببريدة سنة 1967، درس اللغة العربية بكلّية الرّياض وتحصّل على الماجستير سنة 1974 ليلتحق بالأزهر الشريف ويتحصّل على الدكتوراه في تخصّص الأدب والنّقد سنة 1978.

كان الدّكتور شاعرا وكتب القصيدة العمودية والتفعيلية وقد نشرت له عدّة قصائد منذ مرحلة تعليمة الثانوية حتّى الجامعية، غير أنّ اهتمامه انصبّ في النّهاية في مجال الإصلاح الفكري وقد تأثّر بمحمّد رشيد رضا وأحمد أمين ومحمّد الغزالي وأمين الخولي، ليتبلور منهجه وتبتدئ محاولاته في الإصلاح على أرض الواقع ومن خلال كتاباته، ترك الدّكتور أبو بلال خمسة عشر مؤلّفا عكست أفكاره الّتي تناولت بإسهاب قضايا الحرّية والإصلاح من منظور شرعي وفقهي من أبرزها “حقوق الإنسان بين عدل الإسلام وجور الحكام” و”الكلمة أقوى من الرّصاصة” و”الطّريق الثّالث الدستوري الإسلامي”.

أسّس الدكتور الحامد منهجا إصلاحيا جديدا في المملكة العربية السّعودية متمثّلا في حركة الملكيّة الدّستورية السّعودية، وهو بخلاف المعارضة السّعودية الجذرية الّتي لا ترى إصلاحا في المنظومة القائمة يعتقد بأنّ الفرصة لا تزال متاحة وممكنة وبالإمكان القيام بعملية إصلاحية من داخل المنظومة على أسس شرعيّة وفقهيّة دون الالتجاء لتبنّي نمط الدّيمقراطية الغربيّة المستوردة، وقد طالب بإعادة صياغة العقد الضّابط لعلاقة الحاكم بالمحكوم والمرور من حكم الملكيّة المطلقة المولّدة قطعا للفساد إلى ملكيّة دستورية جديدة تعتمد مبادئ المشاركة والعدل والحرّية، وهو يدعو إلى نظام دستوري يقول أنّه صورة متجلّية للنّظام الشّوري وركّز على ضرورة إصلاح القضاء بما يمنحه الاستقلالية والنّزاهة وتعرّض لبعض المفاهيم المغلوطة في الخطاب الدّيني المتعلّقة بالتشّريع والبيعة والحاكميّة.

أفكار إصلاحية نيّرة ومستنيرة لا تختلف عمّا كان يدعو إليه الأستاذ جمال خاشقجي الّذي تعرّض لعمليّة اغتيال بشعة لا يزال مرتكبوها يمارسون جرمهم في تعقّب كلّ رأي مخالف وكلّ نقطة ضوء قد تضيء في العتمة، قدّم الدّكتور نفسه كما الشّهيد خاشقجي على أنّه وطنيّ محبّ لوطنه ناصح ومصلح ولم يعترض يوما على مسألة الملك وولاية العهد، وقد سبق للأستاذ خاشقجي بأن وصف الدّكتور الحامد، في لقاء تلفزيوني أجراه بضعة أسابيع قبل أن تطاله يد الغدر، بأنّه رجل مثقّف واصفا حركة الإصلاح الدستورية الّتي أطلقها بأنّها متقدّمة جدّا منهيّا حديثه بالقول بأنّ عبد الله الحامد مثقّف لكنّ خلفيّته إسلاميّة راسخة.

جريمة أخرى
لم يشفع النّهج الإصلاحي للدكتور الحامد ودعوته لإصلاح المنظومة من داخلها دون إسقاطها لتجعله بمنأى عن التّضييق والمطاردة والاعتقال، ليعرف السّجون السعودية ويزورها في ستّ مرّات أوّلها كانت سنة 1992 وآخرها سنة 2013 ليحكم عليه بإحدى عشر سنة بتهم التحريض على الفوضى وتفتيت الوحدة الوطنية وتدمير قدرات الأمّة ومكاسبها وزرع بذور الشّقاق والمعارضة.

دخل الشّهيد في إضراب عن الطّعام احتجاجا على ظروف سجنه السّيئة وهي خطوة لم تعجب الجلّاد فأمعن في التّنكيل به وضاعف التعسّف والإهمال ممارسا اغتيالا ممنهجا وقتلا بطيئا له مع سابق الإصرار والترصّد، تدهورت الحالة الصحّية لأبي بلال قبل ثلاثة أشهر، وكان بحاجة مؤكّدة لعمليّة قسطرة في القلب وهو ما تمّ تجاهله ولم يتم، ممّا عرّضه لجلطة دماغية في 9نيسان الماضي وقد ترك في زنزانته لمدّة أربع ساعات وهو مغمى عليه قبل أن ينقل إلى المستشفى لتتتعكّر حالته وليلفظ أنفاسه ويلقى ربّه في أوّل أيّام شهر رمضان الحالي، شهر الرّحمة في ظلّ ما يعيشه العالم من تغيّرات فرضتها جائحة كان من المفروض أن تحدث تغييرا ايجابيّا غير أنّها لم تزد الطّغاة سوى توحّشا وظلمة.

لا يبدو أنّ المستبدّين قد استفادوا أو اعتبروا ممّا جرى وممّا يجري وهم ما يزالون مستمرّين في نفس النّهج وتكرار الفشل بنفس الأسباب، اغتالوا الأستاذ خاشقجي ليطاردهم طيفه ويحاصرهم وهم ما يزالون يدفعون لأجل حماقة سُجّلت على أنّها أغبى عملية اغتيال في التّاريخ، ثمّ قتلوا بدم بارد عبد الرّحيم الحويطي ذاك الرّجل الّذي مات مدافعا عن أرضه الّتي أرادوا أن يغتصبوها إرضاء للمغتصب الصهيوني وانخراطا في صفقة القرن، ليصبح الرّجل أشهر من نار على علم ويتحوّل إلى أيقونة تحرّر ضدّ الظّلم والاستبداد.

وهاهم يمارسون نفس القتل بطريقة أخرى مع الدّكتور الحامد متوهّمين أنّهم قادرين على التخلّص من فكرته مع أنّ الفكرة حرّة طليقة وحيّة لا تموت، يقول الشّهيد الحامد فيما يقوله:” إنّ الّذين يجعلون التّغيير السّلمي مستحيلا سيجعلون التّغيير الثّوري حتميّا في المستقبل” وكما قال الدّكتور سلمان العودة: “لم تنته الحكاية.. غدا تطير العصافير” رحم الله شهيد الإصلاح والكلمة والفكرة وادخله فسيح جنانه

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.