الشفرة الأمنية “S17”.. حين تتحول حياة تونسيين لسجن كبير بوطنهم

المصدر : الجزيرة

يهيم هشام الهرمي في شوارع تونس وطرقاتها حاملا على ظهره حقيبة مليئة بعشرات الوثائق الشخصية وأحكام قضائية تثبت براءته من قضايا إرهابية، يتوقع الشاب الحامل لشهادة عليا في التجارة الدولية والعاطل عن العمل منذ سنوات أن توقفه في أي لحظة دورية أمنية أو أحد أعوانها، ليقاد بشكل مباشر نحو مركز الأمن للتحقيق معه لساعات، تحت ذريعة الإجراء الحدودي المعروف برمز “أس 17” (S17).

هذا الإجراء الذي بوبته وزارة الداخلية ضمن إستراتيجيتها الوطنية لمقاومة الإرهاب، والحد من سفر الشباب إلى “بؤر التوتر” منذ 2013، تصفه منظمات حقوقية محلية ودولية بغير الدستوري، وبانتهاكه لأبسط حقوق الأفراد في التنقل بحرية، سواء داخل تونس أو خارجها، كما أن المحكمة الإدارية أقرت بعدم شرعيته، لكن رغم ذلك تواصل الأجهزة الأمنية في البلاد تطبيقه على الأفراد بشكل تعسفي.

انقلبت حياة هشام رأسا على عقب بعد سفره في 2013 إلى ليبيا للتبضع، حيث دفعته البطالة للعمل بائعا متجولا في شوارع العاصمة، كما يقول للجزيرة نت وكان يتردد باستمرار على هذا البلد، لتنطلق بعدها معاناته مع الخضوع للإجراء الحدودي “أس 17” (S17) والتضييقات الأمنية التي وصلت حد مصادرة جواز سفره.

اتهم الشاب بالسفر لبؤر التوتر وبالرغم من صدور قرار قضائي في 2017 يبرئه من جميع التهم المنسوبة إليه، وقرار قضائي آخر من المحكمة الإدارية يقضي بتوقيف الإجراء الحدودي المسلط عليه، غير أن حياته لا تزال رهينة الشرطة، حيث يوقف في الطريق العام كل مرة ليحال إلى مركز الأمن للتحقيق معه ساعات.

يستعد هشام الآن لاستكمال إجراءات الطلاق مجبرا، بعد أن ضاقت زوجته ذرعا من حياة تحولت لسجن كبير وبعد أن خسرت جنينها وهي في الشهر التاسع ثمنا للتضييقات الأمنية اللصيقة لزوجها، أما هو فقد أصيب بداء السكري نتيجة الضغوط النفسية والجسدية المسلطة عليه وحياة البطالة التي يعيشها، بعد أن أوصدت في وجهه جميع أبواب العمل بسبب الرقابة الأمنية التي وصلت -حسب قوله- إلى تصفية حسابات بينه وبين بعض الأمنيين.
لا أرقام رسمية
لا توجد إحصائية رسمية بعدد ضحايا الإجراء الحدودي، فيما تتحاشى وزارة الداخلية الحديث عن هذا الإجراء والمشمولين به، لكن منظمات حقوقية في تونس على غرار “مرصد الحقوق والحريات” الذي يعد مقره ملجأ لآلاف الأشخاص من ضحايا هذا الإجراء، تقول إن عددهم يتجاوز مئة ألف شخص بين ذكور وإناث.

يقول المدير التنفيذي لمرصد الحقوق والحريات بتونس، مروان جدة للجزيرة نت، إن قرابة 50% من المشمولين بالإجراء الحدودي “أس 17” (S17) لم تطأ أقدامهم مراكز الشرطة ولم يسافروا خارج التراب التونسي ولم يصدر ضدهم أي قرار قضائي، ولكنهم رغم ذلك وجدوا أنفسهم مصنفين تحت هذه “الاستشارة الأمنية” بغير علمهم، بحسب ما وثقه المرصد.

ويقر مدير المرصد بعدم دستورية هذا الإجراء الذي تحول حسب وصفه لعصا غليظة في يد الداخلية لفرض انتهاكات جسيمة ضد الأفراد داخل البلاد وخارجها خصوصا من المشمولين بالعفو التشريعي العام من ضحايا النظام السابق وخصوصا الإسلاميين.

ويؤكد أن أغلب المشمولين بهذا الإجراء يكتشفون مصادفة ذلك إثر توقيفهم في المعابر الحدودية البرية والجوية والبحرية من خلال إجراءات تفتيش روتينية، والأخطر من ذلك أن وزارة الداخلية تحرمهم من أي وثيقة تثبت إخضاعهم لهذا الإجراء لتمكينهم من التظلم لاحقا لدى الجهات القضائية.

مرصد الحقوق والحريات سبق أن أطلق في 2014 و2016 حملات توعية للتنديد بهذا الإجراء الذي بات يهدد حياة الأشخاص ويمنعهم من التنقل والبحث عن عمل أو قضاء شؤونهم اليومية، كما حرم العشرات منهم من استخراج وثائق إدارية مهمة على غرار جواز السفر وشهادة حسن السيرة والسلوك.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2018 أقرت منظمة العفو الدولية في تقرير لها بانتهاك الإجراء الحدودي للحقوق الأساسية للإنسان تحت ذريعة المحافظة على الأمن، وخلصت إلى أن هذا الإجراء لا يخضع لأي رقابة قضائية ويتم تنفيذه بطريقة انتقائية، تعتمد على المظهر والممارسات الدينية والإدانات الجنائية.

وهناك شهادات أخرى لضحايا هذا الإجراء الحدودي ممن تحدثت معهم الجزيرة نت أكدوا أنهم يحاسبون على ماضيهم ونشاطهم الديني أو الطلابي زمن الاستبداد، رغم اعتراف الدولة التونسية بأنهم ضحايا منظومة الاستبداد، وشهادات لآخرين برأهم القضاء من تهم إرهابية، لكنهم يعانون حتى اللحظة من التضييقات الأمنية بسبب اللحية أو القميص أو حتى ارتياد المساجد.

لحية ونقاب
وفي السادس من ديسمبر/كانون الأول 2016 تم استدعاء معز الوشني لمنطقة الأمن بولاية بن عروس بحجة وجود إشكال في بطاقة هويته، ليجد نفسه في وضعية استجواب لساعات طويلة من أعوان الأمن بشبهة إرهابية، حيث خضع لأسئلة تتعلق بالتزامه الديني وارتياده للمسجد وحضوره للخيمات الدعوية، لتتحول حياته بعد ذلك التاريخ لسجن كبير.

اكتشف معز مصادفة أنه أخضع للاستشارة الأمنية “أس 17” بالصيف وهو جالس على شاطئ البحر رفقة زوجته المنتقبة وأبنائه، وبعد استجوابه من قبل دورية أمنية هناك، اقتيد مصفدا بالأغلال تحت أعين أسرته، ومن دون أي جرم إلى مركز الأمن حيث تم إيقافه لساعات وإخضاعه لاستجواب أمني دقيق، ثم أطلق سراحه دون توجيه أي تهمة له.

قرر الرجل بعد تلك الحادثة، الذهاب للمحكمة الإدارية للتظلم ورفع قضية لإيقاف تنفيذ هذا الإجراء، لكنه فوجئ كما يقول للجزيرة نت بأحد أعوان المحكمة يطلب منه قبل ذلك أن يحلق لحيته، ويتخلى عن أي مظهر من مظاهر “تحيل على الإرهاب في أذهان أعوان الشرطة” وأن يتوقف عن الذهاب للمسجد باستثناء صلاة الجمعة.


إجراء لا دستوري
يقر القاضي ورئيس وحدة الاتصال بالمحكمة الإدارية في تونس عماد الغابري في حديثه للجزيرة نت بعدم دستورية الإجراء الحدودي “أس 17” الذي يعتمد أساسا على قرار إداري صادر عن وزارة الداخلية، ولا يستند لأي قرار تشريعي أو حكم قضائي.

ويشدد على أن دستور ما بعد الثورة وخاصة أحكام الفصل 49 تمنع أي تضييق على الحريات وخاصة التنقل، إلا في حال كان ذلك بموجب قرار صادر عن جهات قضائية ومن دونه يكون هذا الإجراء فاقدا للسند القانوني.

وتكون التبريرات التي تقدمها الجهات الإدارية بوزارة الداخلية إثر مراسلتها من قبل المحكمة الإدارية التي يتظلم عندها المئات من ضحايا هذا الإجراء الأمني، إما تحت غطاء حالة الطوارئ التي لا تزال سارية المفعول، أو تحت منظومة مكافحة الإرهاب أو مراسيم وزارية تعطي للجهات الأمنية سلطة الضبط الإداري تحت غطاء الحماية الأمنية وفرض النظام العام.

ويقر الغابري بوجود فراغ تشريعي بهذا الخصوص وباستعمال هذا الإجراء الأمني لتقييد حرية تنقل الأشخاص وللتنكيل بهم بشكل كيدي أغلبها يكون على أساس المظهر الخارجي، كما تصل الحال ببعض الضحايا إلى الانتحار بسبب الضغط النفسي، نتيجة التضييقات الأمنية المسلطة على الأشخاص المشمولين بهذا الإجراء.

وبالمقابل، يعبر القاضي الإداري عن وجود بوادر انفراج قانوني من خلال ما أسماه “ثورة” في القضاء الإداري، بعد صدور أحكام قضائية توقف هذا الإجراء الأمني وتسميته بالاسم “أس 17” وهو ما لم يحدث سابقا، حيث تصدر قرارات متفرعة إما تحت باب المنع من السفر أو التضييق على التنقل داخل التراب التونسي.

وعاينت الجزيرة نت من خلال هذا التقرير الاستقصائي وجود أشخاص تم إنصافهم من قبل المحكمة الإدارية وأخذوا أحكاما باتة بتوقيف تنفيذ الإجراء الأمني “أس 17″، لكن رغم ذلك لا يزالون يعانون من التضييق في حرية التنقل وهو ما عده الغابري مصيبة كبرى لعدم تنفيذ أحكام قضائية.

قصة أحمد بن عبد الله (43 عاما) المقيم في إيطاليا منذ 2005، لا تختلف كثيرا في تفاصيلها المؤلمة مع ضحايا آخرين لهذا الإجراء الحدودي، حيث شاءت الأقدار أن رزقت زوجته بمولود جديد، ليعجّل بالعودة لمسقط رأسه “قربة” شرقا، على أن يعود لعمله بعد شهر، لكنه وجد نفسه ممنوعا من السفر بعد مصادرة الأجهزة الأمنية جواز سفره.

اكتشف عبد الله مصادفة أنه يخضع للاستشارة الأمنية، حين دخل أحد المراكز الأمنية لتجديد جواز سفره كما يقول للجزيرة نت، وقد سبق أن برأه القضاء من شبهة إرهابية ولم يصدر بحقه أي قرار قضائي بحجز السفر.

فقد عبد الله عمله في إيطاليا بعد نحو 14 عاما من الإقامة هناك بشكل قانوني، ويخشى أن تدمر حياته الزوجية ويعجز عن توفير قوت يومه وعائلته وهو العائل الوحيد لأسرته، وقد التجأ مثل غيره من آلاف الضحايا إلى مرصد الحقوق والحريات للتظلم ويستعد لرفع قضية من أجل توقيف تنفيذ الإجراء الحدودي.

نواب على الخط
يحاول بعض نواب البرلمان التونسي العمل على إلغاء هذا الإجراء الحدودي الذي يصفونه بغير الدستوري، وكانت أحزاب خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة قد تعهدت في برنامجها الانتخابي بفتح ملف “أس 17” على غرار حركة “أمل وعمل” و”ائتلاف الكرامة”.

وفي هذا السياق، نشر النائب عن ائتلاف الكرامة راشد الخياري منذ أيام عبر صفحته على فيسبوك رسالة توجه بها لوزير الداخلية هشام الفراتي للمطالبة بإنهاء العمل بهذا الإجراء غير القانوني.

وزير الداخلية هشام الفراتي سبق وأن تحدث خلال جلسة عامة في البرلمان في 14 يونيو/حزيران الماضي عن جدوى هذا الإجراء الحدودي وفعاليته في مقاومة آفة الإرهاب، والحد من تنقل الجماعات المتطرفة نحو بؤر التوتر، مؤكدا أن وزارته “تسعى إلى التوفيق بين احترام الحقوق والحريات وإنفاذ القانون”.

ويجمع كثير من المستجوبين في هذا التقرير على أن الإجراء الحدودي “أس 17” في ظاهره حماية للأمن الوطني ومحاربة آفة الإرهاب ولكن في باطنه تضييق على حرية التنقل وتنكيل بالأشخاص من الجهات الأمنية، في ظل غياب أي معايير قانونية لتطبيقه، ليصبح رهين مزاج هذا الأمني أو ذاك ويتحول في أبشع صوره أداة للابتزاز المعنوي والمادي.

حاولت الجزيرة نت التواصل مع مسؤولين في وزارة الداخلية لتوضيح طبيعة هذا الإجراء الحدودي والمعايير المعتمدة في تطبيقه، في ظل توالي الانتقادات الدولية والمحلية له من قبل منظمات حقوقية وجهات قضائية تصفه بالتعسفي وغير الدستوري، لكننا لم نلق أي تجاوب ولم يتم الرد على مراسلاتنا بهذا الخصوص.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.