الصوفية والاستعمار .. حقائق تاريخية مخزية

بقلم : يحيى البوليني

تقوم الفكرة الصوفية بالأساس على فكرة الفناء، وفكرة الفناء تحوي في داخلها معاني الخمول والسكون، والتلاشي، وعدم الذكر، والبعد عن الشهرة، والبعد عن التنافس والمنافسة في أمور الحياة بالمطلق.

وتتعدى فكرة الفناء تلك ما سبق من معانٍ إلى معان سلبية أخرى قامت مقام معانٍ إيجابية في الفكرة الإسلامية الأصيلة، فمعنى مثل معاني الرضا، استخدمته الصوفية لقبول الاستذلال تارة، وقبول الضعة تارة، والسكون إلى الظالم تارة أخرى.

ومعنى مثل معنى الفقر، استخدمته الصوفية لرفض المال الحلال، ورفض التمتع بما أحلَّ الله، ولبس الخرق، وترك إصلاح الحياة!

والفكرة الإسلامية السُّنِّيَّة الصحيحة، تقوم على الوجود الصالح لا الفناء السلبي. نعم هي تدعو إلى مشاعر الفقر بين يدي الله سبحانه والتواضع لعباد الله المؤمنين، والتخلق بأخلاق السكون والهدوء، والرضا بقدر الله سبحانه، لكن كل هذا في إطار الصلاح والإصلاح للحياة. ففي الحديث «نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح »، وفي الحديث «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».. وهكذا.

الإشكال الكبير وهو الذي نسوق من أجله هذه الكلمات، عندما تتحول الفكرة الصوفية بسلبيتها إلى عون من أعوان المستعمر المحتل والعدو المعتدي!

فقد عجب كثير من الناس من تكرار مشاهد مثل حرص السفير الأمريكي السابق لمصر على حضور الحفلات والموالد التي تقيمها الطرق الصوفية في مصر ومعاونتهم كثيرًا، وأن تكرّم الطريقة العزمية الصوفية رجلاً نصرانيًّا معروفًا بعدائه الشديد للحركة الإسلامية وتعتبره شخصية العام، وتصفه بأنه أكثر الشخصيات خدمةً للإسلام بعد إغداقه عليها بالأموال؛ لتعيد إلى الأذهان وجود تلك العلاقة المريبة بين كثير من الفرق الصوفية وخدمة المشاريع الغربية المناهضة للإسلام.

وبمراجعة تاريخ الصوفيين في الجزائر وتونس والسودان والهند إبان الحروب التي سميت بالحروب الاستعمارية نجد آثار تلك العلاقة واضحة في مساهمة الصوفيين بشكل متعمد في تكريس الوجود الاستعماري ومساعدته بوجوه عدَّة، وتدجين الناس للخضوع له، وتخذيل كل مسلم يطالب بالجهاد لمقاومتهم أو لإخراجهم.

ولم يكن هذا الخنوع للمستعمر وخدمة أهدافه عن قناعة أو هوى لبعض الشيوخ لتلك الطرق فحسب، بل يمكن القول أن هذا بالنسبة لهم كان عقيدة فكرية وسلوكية، ويعتبرونها من التدين ويلزمون أتباعهم بها بأن يطيعوا قادتهم أو من سُلِّط عليهم -مهما كانت ديانتهم أو أفعالهم- ويعتبرون الخروج عليهم أو الدعوة لمقاومتهم خروجًا عن سلطان الله!!

فيقول الشعراني في (البحر المورُود في المَواثيق والعهُود): “لقد أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما دار، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو كان في أمور الدنيا وولايتها، كل ذلك أدبًا مع الله عز وجل الذي رفعهم، فإنه لم يرفع أحدًا إلا لحكمة هو يعلمها”.

ويُذكر في هذا المقام قول أحد قادة المستعمرين الفرنسيين في إفريقيا تلك الحقيقة المؤلمة: “لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في إفريقيا إلى تنشيط دعوة الطرق الدينية الإسلامية؛ لأنها كانت أطوع للسلطة الفرنسية، وأكثر تفهمًا وانتظامًا من الطرق الوثنية التي تعرف باسم بيليدو وهاجون، أو من بعض كبار الكهان أو السحرة السود”.

ونستطيع أن نتساءل: هل استفاد الاستعمار فقط من تلك الفرق أم ساهم في صنعها ليستفيد من سطوتها على الناس؟

فما فعله نابليون عندما دخل مصر يطرح هذا التساؤل وبقوَّة، فكما يقول الجبرتي المؤرخ في مظهر التقديس: “وفيها (أي سنة 1213هـ في ربيع الأول): سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف، فلم يقبل وقال: (لا بد من ذلك)، وأعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسية يستعين بها، فعلقوا حبالاً وقناديل، واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم، وأحرقوا حراقة في الليل وصواريخ تصعد في الهواء ونفوطًا”.

والإجابة كما يراها الجبرتي: “ورخص الفرنساوية ذلك للناس؛ لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات”.

ولهذا قسَّم المستعمر المتعاونين معه إلى فئتين أساسيتين:
الفئة الأولى: هي فئة الشباب الذي أُخذ إلى أوربا وانبهر بها وتربى في مدارسهم وجامعاتهم، وانقطعت صلته ببني وطنه ثم عاد ليساهم في سلخ بلاده عن دينها.

والفئة الثانية: هم كثير من المنتسبين للطرق الصوفية الذي روَّجوا الإشاعات وأشاعوا الخرافات وخذَّلوا المجاهدين ونشروا ثقافة الاستسلام للمستعمر الغاشم باسم الدين، فاستخدم المستعمر أبناء الفئتين، واتخذ منهم جواسيس على بلادهم.

وللتاريخ مواقف لا يمكن إهمالها عن طمس الصوفية لذروة سنام الإسلام، واستبدالها بنزعات استسلامية محبطة للناس؛ لتقف حائط صد داخلي يسرت للمستعمر استيلاءه على البلاد..

فهل يمكن أن ينسى التاريخ أن قادة الصوفية في مصر حينما وصلت الحملة الفرنسية على أبواب القاهرة ووجب على الجميع الجهاد كفرض عين لرد المستعمر، قام الصوفية بجمع الناس داخل الأزهر ليتلو كل منهم صحيح البخاري؟! وقبلها عندما كان الإفرنج يغيرون على المنصورة في مصر سنة (647هـ)، تنادى الصوفيون ليقرءوا الرسالة القشيرية!! ثم تجادلوا في كرامات الأولياء والعدو على الأبواب.

ويقينًا لو حضرهم صاحب الأحاديث التي يتلونها -صلى الله عليه وسلم- لأنكر عليهم هذا الفعل أشد الإنكار؛ لتخاذلهم وتخلفهم عن الجهاد ولفرارهم يوم الزحف، فقد همَّ صلى الله عليه وسلم أن يحرق بيوت قوم بالنار لتركهم صلاة الجماعة، فكيف بمن تخاذل وخذَّل الناس عن الجهاد الواجب؟!!

وهل ينسى التاريخ أن في شهر أكتوبر سنة 1881م يوم أن احتلت القيروان أنّ الذي يسَّر للفرنسيين دخولهم المدينة دون مقاومة من أهلها رجل فرنسي دخل الإسلام ثم توغَّل في الصوفية حتى صار إمامًا فيها، وسمَّى نفسه سيد أحمد الهادي، وعُيِّن كإمام لأكبر مساجدها وكمشرف على الضريح المقام فيه المسجد..

وحينما جاءت خيول الفرنسيين، فقام شباب المدينة بالاستعداد للدفاع عنها، قام ذلك الإمام الصوفي بالدخول في الضريح وخرج عليهم بقوله: إن الشيخ -الميت الذي في الضريح!!- يأمركم بالتسليم؛ لأنَّ وقوع البلاد صار محتمًا! فألقى الناس السلاح وقعدوا عن الجهاد؛ تلبيةً لأوامر من في الضريح الذي يعلم الغيب -حاش لله- وبعدها دخل الفرنسيون آمنين مطمئنين دون مقاومة.

وهل ينسى التاريخ أن الطريقة الصوفية التيجانية الجزائرية كانت تُوجَّه من المخابرات الفرنسية مباشرة، فكانت إحدى عميلاتهم زوجة لشيخ من شيوخ التيجانية، ولما مات تزوجت أخاه بعده، وأطلق عليها اعترافًا بكراماتها “زوجة السيدين”؛ ولهذا كان أتباع التيجانية يحملون التراب الذي تمشي عليه سيدتهم عميلة المخابرات؛ لكي يتيمموا به!! ونالت تلك السيِّدة وسام الشرق من فرنسا اعترافًا بخدماتها لهم، كما صرحوا بأنها: “كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص”!!

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.