ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا

قال الله تعالى : (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) ، على ضوء هذه الآية الكريمة كيف نفسر ظهور عكسها في أيامنا هذه ؟
الآية الكريمة ظن بعض الناس أنها تتعارض مع واقع المسلمين اليوم ، بل وعبر التاريخ ، حيث تسلط الكفار في كثير من العقود على المسلمين ، ونالوا منهم قتلا واحتلالا وغصبا .
وهذا خطأ ظاهر في فهم الآية ، فقد قال المفسرون في توجيه الآية الكثير من الأقوال ، نذكر أهمها فيما يلي :
القول الأول :
أن شرط الإيمان المذكور في قوله تعالى (على المؤمنين) لم يتحقق في فترات تسلط الكفار ، فبحسب النقص من الإيمان كان العدوان ، والله عز وجل لا يخلف وعده ، إلا أن يكون عباده هم الذين نكثوا وقصروا .
وهذا قول أكثر المفسرين .
يقول القرطبي رحمه الله – في معرض ذكر الأقوال في الآية : أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، إلا أن يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو من قبلهم ، كما قال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) . قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى :”الآية على عمومها وظاهرها ، وإنما المؤمنون : يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة ، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم ، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته ، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا ، حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به ، فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه” انتهى من ”إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان” (1/ 101) .

ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :” فإن قلت : إذا كان وعدا لم يجز تخلفه . ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصارا بينا ، وربما تملكوا بلادهم وطال ذلك ، فكيف تأويل هذا الوعد .
قلت : إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصة : فالإشكال زائل ؛ لأن الله جعل عاقبة النصر أيامئذ للمؤمنين ، وقطع دابر القوم الذين ظلموا ، فلم يلبثوا أن ثُقفوا وأخذوا وقتلوا تقتيلا ، ودخلت بقيتهم في الإسلام ، فأصبحوا أنصارا للدين .
وإن أريد العموم : فالمقصود من المؤمنين : المؤمنون الخُلَّص الذين تلبسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه ، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا ، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا ” انتهى من ” التحرير والتنوير ” (5/ 238) 
القول الثاني :
أن الآية لا ترد في حوادث الدنيا أصلا ، بل المقصود بها في الآخرة ، أي أن الله تعالى لن يجعل للمنافقين على المؤمنين حجة يوم القيامة ، بل ستكون الحجة للمؤمنين ، أما تسلط الكافر على المؤمن بالعدوان فلا تنفيه هذه الآية ، فتلك سنة الله في الأرض .
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن بعضهم اعترض على الآية بوقوع القتل من الكافر للمؤمن ، فأجاب بما سبق .
روى ابن أبي حاتم في ” التفسير ” (4/ 1095) بسنده عن يسيع قال : ” جاء رجل إلى علي فقال : أرأيت قول الله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال : الكافر يقتل المؤمن ، والمؤمن يقتل الكافر ؟
قال علي : ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا ” .

يوضح ذلك الإمام الطبري رحمه الله فيقول :
” ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) يعني : حجة يوم القيامة ، وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من الجنة ، ولا المؤمنين مدخَل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم ، إن أُدخلوا مُدْخلهم : ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءَنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار ، فجمع بينكم وبين أوليائنا ! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو” السبيل ” الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين ” انتهى من ” جامع البيان ” (9/ 324)
بل نقل الطبري اتفاق السلف من المفسرين على هذا التوجيه ، وأسنده إلى علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبي مالك والسدي . ينظر (9/ 327) .

قال العلامة الأمين الشنقيطي :” يشهد له قوله في أول الآية : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين ) الآية [4 141] ، وهو ظاهر ” انتهى من ” أضواء البيان ” (1/319)

القول الثالث :
أن المنفي هو أن يتسلط الكفار على المؤمنين بالإفناء واستئصال الشأفة كاملة ، أما أن يصيبوا منهم بعض الأذى فلا مانع من وقوعه .
فعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا – أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا – حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا ، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ) رواه مسلم 

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :” يحتمل أن يكون المراد : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي : في الدنيا ، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [غافر: 51، 52] .
وعلى هذا : فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه ، من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ، خوفا على أنفسهم منهم ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) [المائدة: 52]” انتهى من ” تفسير القرآن العظيم ” (2/437) .

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.