يمينيون وليبراليون وعرب وأتراك.. الصراع الفكري على الإسلام في ألمانيا

لم تمر ذكرى مئتي عام على صدور “الديوان الشرقي للكاتب الغربي” مرور الكرام في ألمانيا، لأن يوهان فولفغانغ فون غوته (1749 – 1832) يعتبر من أعظم الشعراء الألمان من جهة، ويعتبر ديوانه، الديوان الغربي الشرقي مثلما صدر في الأصل بالألمانية، في عام 1819، ثم النسخة الموسعة في عام 1827، آخر أعماله الشعرية التي رفعت غنائيتها الروح الصوفية الإسلامية.

ولم يؤثر على استعادة هذه الذكرى وتلك الروح صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، وفي كثير من الأجزاء الأوروبية، فهو في النهاية يظل غوته الذي كتب أعمالا خالدة تأثرت في بعض جوانبها بالإسلام والتصوف، ولم يحتفظ فقط بـ “كتاب محمد”، الذي كان يعود له مرارا، بل كان يسهر ليلة القدر في شهر رمضان لكي يحصل على تلك التجليات الروحية. وهو القائل في ديوانه “إذا كان الإسلام هو الاستسلام لإرادة الله فأنا مسلم”.

هل كان وجود غوته في الوقت الراهن بألمانيا سيسبب له انتقادات وهجوما من قبل بعض المتطرفين؟ هذا سؤال غير واقعي، ولكن لا بد من وجود شخصيات تحمل أفكاره ويرغبون بمنع ما يحصل هنا وهناك من اعتداءات وسوء فهم، أو على الأقل للتخفيف منها.

اعتداءات قديمة أم جديدة؟
كانت فرص حزب البديل من أجل ألمانيا وقت إنشائه في شهر فبراير/شباط من عام 2013 في العاصمة برلين، تبدو ضئيلة في التأثير على الوضعين السياسي والاجتماعي في ألمانيا، خاصة أنه ظهر معاديا للاجئين بشكل عام، وللمسلمين بشكل خاص.

وهذا الموقف اليميني البارز يتعارض مع رغبة الألمان الشديدة في نسيان ذلك الماضي الرهيب بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي، وصعود الحزب النازي الذي أدى إلى مقتل الملايين من الألمان والأوروبيين والسوفيت خلال الحرب العالمية الثانية. وهذا ما جعل الحزب لا يتعدى عتبة الـ5% من الأصوات في انتخابات عام 2013، وبالتالي لم يدخل البرلمان. ولكن عاما بعد عام صار الحزب يكسب مزيدا من المؤيدين ليدخل بعدها البرلمان الألماني.

في شهر أكتوبر/تشرين أول من عام 2014 تأسست منظمة بيغيدا في مدينة درسدن، وهي حركة “وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب”، ونظمت مظاهرات كبيرة في كثير من المدن الألمانية، داعية إلى طرد اللاجئين وإغلاق المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية والعربية.

ولكن هذا لا يعني أن هذا الفكر المضاد لوجود الآخر بدأ مع هذه الحركة وذاك الحزب، بل ظهر في أوقات سابقة، مثل حادثة اغتيال الصيدلانية ولاعبة المنتخب المصري لكرة اليد مروة الشربيني في عام 2009، عندما طعنها شاب ألماني متطرف داخل قاعة المحكمة في مدينة درسدن. وقبلها تعرض منزل “مولودة حنش”، وهي ألمانية من أصول تركية، في شهر مايو/أيار من عام 1993 لاعتداء من قبل اليمين المتطرف، وفقدت مولودة على إثر ذلك بنتين لها وحفيدتين.

الإسلام الأوروبي
يقول المؤرخ الألماني ميشائيل بورغولته، صاحب كتاب “المسيحيون واليهود والمسلمون، ورثة العصور القديمة وصعود الغرب”، في حوار مع موقع قنطرة “لقد كان الإسلام ينتمي دائما إلى الثقافة الأوروبية. وبالتأكيد كان يشكل تحديا، وذلك لأنه ظهر في البداية باعتباره دين غزوات وفتوحات. ولكنه استقر فيما بعد في أطراف مختلفة من القارة الأوروبية وأثر تأثيرا حاسما في نقل العلوم والمعارف القديمة”.

وشدد الباحث الألماني على إسهامات العلماء المسلمين -مثلما كانت الحال في بغداد وإسبانيا المسلمة- في نقل العلوم اليونانية إلى العربية وترجمتها إلى اللغات اللاتينية قائلا، “لولا الإسلام لما كان لدينا نظام المدارس والجامعات الموجود في العصر الحديث”.

وعلى هذا المنوال جاءت تصريحات كثير من أساتذة الجامعات الألمانية، وكذلك من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، بأن “الإسلام جزء من ألمانيا”. وقد صدر قبل أسابيع كتاب جديد يحمل عنوان “الإسلام.. عدو أم صديق؟” وهو كتاب يقدم “38 حجة ضد الهستيريا” المتصاعدة ضد الإسلام واعتباره “دينا متشددا لا يعترف بالأديان الأخرى”.

وتقول مونيكا توروشكا، أحد مؤلفَي الكتاب، “لقد اختصت مجموعة من الأشخاص بمصطلح “نقد الإسلام”، وهم مهتمون بإثارة الجدل أكثر من التعاطي النقدي مع هذا الأمر. ونادرا ما يتسم بالجدية حضور “ناقدي الإسلام” هؤلاء والذين يضمرون عداوة ورفضا لكل ما يمت للإسلام بصلة، إذ إنهم ينشرون الفزع والبروباغندا الرخيصة، وليسوا جادين في ذلك على الدوام”.

اتجاهات فكرية
الكاتب والأكاديمي السوري المقيم في ألمانيا الدكتور حسام الدين درويش قال للجزيرة نت، إنه مثلما هي الحال في العالم العربي والإسلامي، هناك عدة اتجاهات في ألمانيا تتصارع حول تحديد ماهية الإسلام وتوصيفه وتقييمه.

ويوضح أننا “من ناحية أولى، نجد القائلين بفاشية الإسلام، وبالسقوط الحتمي للعالم الإسلامي، وبالتناقض بين قيم الإسلام وتعاليمه وممارسات المسلمين عموما، من جهة، والقيم الإيجابية للحداثة (الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان)، من جهة أخرى”.

ويرى درويش، الباحث في ميادين الفلسفة الغربية والفكر العربي والدراسات الإسلامية، أن أبرز ممثلي هذا الاتجاه هو الكاتب “حامد عبد الصمد” صاحب كتابي “الفاشية الإسلامية” الصادر عام 2019. ويشدد عبد الصمد، في كتابه “سقوط العالم الإسلامي” (2016)، على أن “ما نراه في عالمنا الإسلامي ليس حالة صراع للثقافة العربية والإسلامية كما يزعم البعض، وإنما حالة احتضار للثقافة العربية والإسلامية”.

من ناحية ثانية، وفي القطب المقابل والمناقض، نجد القائلين بليبرالية الإسلام، وبانفتاحه الكبير على الاختلاف، وبتقبله لقيم الحداثة والديمقراطية والحريات الفردية. ومن الممثلين البارزين لهذا التيار “سيران أطيش” التي كانت صاحبة مشروع افتتاح “مسجد ابن رشد غوته الليبرالي” في 2017 بالعاصمة الألمانية برلين. والمسجد مفتوح للرجال والنساء، وللمحجبات وغير المحجبات، وللمسلمين من كل الطوائف والمذاهب، والإمامة فيه يمكن أن تكون للمرأة أو الرجل.

وبسؤاله عن ما يجمع ويفرق هذين التيارين، قال درويش للجزيرة نت إن ما يؤخذ على هذين القطبين هو “ثقافتهما” و”تطرفهما” وأحادية فهمهما للإسلام. فكلاهما يعتقد أن “تخلف العالم الإسلامي” أو “انحطاطه” و”سقوطه” إنما حصل لأسباب فكرية تتعلق بالدين وقيمه وفهمه وتأويله.

ويوضح درويش أنه في حين أن متبني القطب الأول يرون أن “سقوط العالم الإسلامي” و”احتضار ثقافته” أمر حتمي، يعتقد أنصار القطب الثاني بوجود إمكانية فعلية لقيام فهم أو تأويل معاصر إيجابي للدين يجعله منسجما مع الحداثة السياسية والاجتماعية والأخلاقية وقيمها الإيجابية المعاصرة. فالتيار الأول لا يرى في الإسلام إلا ما هو سلبي، ويقصي أي إمكانية لوجود رؤى وتأويلات إيجابية مختلفة لهذا الإسلام. فلا فهم إلا فهمه، وكل ما عدا ذلك هو مجرد كذب أو خطأ أو مغالطة أو ما شابه، وفق درويش.

ليبرالية إسلامية
أما متبنو فكرة “الإسلام الليبرالي”، فيرون أن إصلاح الإسلام ولبرلته ممكن، بل وواجب أيضا، ويشددون على أن كل فهم كلاسيكي غير ليبرالي للإسلام إنما هو فهم مغلوط لا يتوافق لا مع روح الإسلام ولا مع روح أو متطلبات العصر الراهن.

ويرى درويش أنه “على العكس من أنصار القطب الأول الذين يستندون في “مزاعمهم” ورؤيتهم للإسلام إلى قراءة منهجية ما للنصوص الدينية و”التاريخ الإسلامي”، يبدو “الإسلام الليبرالي مرتبطا بأفراد ذوي “نيات طيبة” و”غايات نبيلة”، دون أن يرتكز على أي عمل فكري ومؤسساتي واضح ومتين”.

إلى جانب هذين القطبين وبينهما، يتابع درويش، نجد محاولات جدية لتجاوز المواقف الأيديولوجية المتطرفة، والمحاكمة النقدية للآراء المسبقة والتبسيطية والاختزالية عن الإسلام. ولعل كتاب “الإسلام.. عدو أم صديق؟”، للباحثين مونيكا وأودو توروشكا، والصادر في بداية هذا العام (2019)، هو من أحدث وأبرز تلك المحاولات. ويقدم الباحثان الإسلام بوصفه دينا عالميا، لا أيديولوجيا سياسية، وينتقدان الأساس المعرفي والأيديولوجي للمحاولات الإسلاموية وللحملات المعادية للإسلام، في الوقت نفسه.

الطرف الآخر
ولكن ماذا يقدم الطرف الآخر ضمن هذا الصراع؟ إذ نجد أن أكثر الأطراف العربية والإسلامية غائبة عن تقديم مبادرات إلا فيما ندر منها، بينما نجد أن الطرف الألماني يقوم بالنسبة الساحقة من تلك المبادرات. فترجمة الكتب الفكرية والثقافية والأدبية تتم من قبل جهات ألمانية.

وحتى المواقع التي تطرح هكذا ملفات “تحسن صورة الإسلام” أو لمناقشة فكرية جادة، هي مواقع مدعومة من الخارجية الألمانية، مثل موقع قنطرة والدويتشه فيليه. بينما نجد أن المعهد الثقافي العربي في برلين، ومنذ إنشائه قبل عامين، لا يقدم سوى معارض فنية وحفلات موسيقية ومباريات كرة قدم.

وتم إغلاق أكاديمية الملك فهد في بون عام 2016، وهذا الإغلاق لقي صدى إيجابيا بحسب الباحث الاجتماعي والسياسي والمختص في الجماعات الدينية المتطرفة في ألمانيا الدكتور رالف غضبان الذي رأى أن القرار تأخر كثيرا! إذ قال “وللتذكير فعندما تم الكشف عن أن الأكاديمية تنشر الفكر الديني السلفي في بون وتدعو إلى معاداة الغرب، كانت السلطات تنوي في وقتها إغلاق هذه الأكاديمية، لكن الضغوط التي مورست عليها من قبل الدولة السعودية والتهديد الاقتصادي، وخاصة في عهد المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، وخاصة التهديد بإغلاق المؤسسات الألمانية في السعودية حال دون تنفيذ عملية إغلاق الأكاديمية. تأخر القرار حوالي 12 عاما، إلا أنه قرار جيد”.

المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا
يعد المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) أحد أهم المنظمات في ألمانيا، ويضم المجلس عشرة آلاف عضو فقط من 3.5 ملايين مسلم يعيشون في ألمانيا. وهذا الرقم دليل كبير على تدني فعالية هذا المجلس فكريا وثقافيا.

وفي الوقت الذي يتابع المجلس إصدار بيانات ترحيب بمبادرات ما، أو شجب لمبادرات أخرى. ورغم أن له صفة اعتبارية معترف بها في ألمانيا، فإن المجلس له أدوار دستورية واضحة، لأن دستور ألمانيا يقر بنوع من التشاركية بين مؤسسات الدولة وبين المؤسسة الدينية التي يمثلها المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، فيما يتعلق بالدين الإسلامي ومراقبة التشريعات مع مجالس أخرى، أو إيصال رأي ما للصحافة والبرلمان، إلا أنه يستغرق عمله في الجانب السياسي ومناهضة العنصرية أكثر.

أتراك وعرب
تعتبر الجالية التركية من أكبر الجاليات الإسلامية في ألمانيا، فمنذ فتح باب الهجرة للعمال الأتراك في عام 1961 وصل عدد الأتراك إلى ما يقارب ثلاثة ملايين شخص، وهناك مساجد كثيرة لهذه الجالية ومراكز ثقافية بالاسم فقط. وفي الوقت الذي كان الألمان ينظرون للأتراك على أنهم أسهموا في إعادة بناء ألمانيا، وإعادة دوران عجلتها الاقتصادية لتعود للواجهة العالمية، بعد دمار الحرب العالمية الثانية، إلا أنهم، ومنذ سنوات، ينظرون للأتراك على أنهم يشكلون كانتونا مغلقا لم يندمج في المجتمع الألماني حتى الآن. و”يعملون ليل نهار لكي يحولوا أموالهم إلى تركيا”. بينما الأتراك، من جهتهم يجدون أنفسهم يعانون من التمييز في التعليم والسكن والتوظيف.

بالإضافة للعيش من أجل العمل لا يلتفت الأتراك، باعتبارهم أكبر جالية مسلمة، للتدخل في تفتيت الصراع الفكري حول الإسلام هنا، بل لا يلتفتون لذلك. فلا تقام ندوات فكرية ولا حوارات ثقافية لبيان “اعتدال الفكر الإسلامي” حتى لدى الجالية نفسها، وكل المناسبات الدينية، مثل الأعياد وشهر رمضان، يتم قضاؤها بالولائم المجانية وبإهداء نسخ القرآن والتبرعات. ولكن مع فهم الارتباط الشديد للأتراك بوطنهم الأم تركيا نعرف أن وجودهم في ألمانيا هو ورقة سياسية يربيها الأتراك في أقوى دولة أوروبية، وليس ورقة فكرية أو ثقافية.

في الوقت الذي وصل عدد الأتراك فيه إلى ثلاثة ملايين نسمة في ألمانيا خلال ستين عاما، فإن السوريين قد يصبحون الجالية الأكبر هناك خلال أعوام قليلة، فقد وصل عددهم خلال خمس سنوات إلى مليون نسمة، ولكن الجالية السورية، على الرغم من الزمن القليل، وضعفهم اقتصاديا بالمقارنة مع الأتراك، فإنها تبدو أكثر نشاطا من الناحية الفكرية والثقافية.

إعلام وكتب وحوارات
وأطلق السوريون في ألمانيا جريدة “أبواب” الناطقة باللغتين العربية والألمانية، والتي تطبع ورقيا وتوزع مجانا على الكثير من الهيئات العلمية والثقافية الألمانية. وكذلك مجلة “فن” الإلكترونية، التي تحوي أبوابا فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية متنوعة. وصدرت مجموعات شعرية وروايات وكتب فكرية باللغة الألمانية، ومرات باللغتين، ولقيت ترحيبا نقديا في الإعلام الألماني. بالإضافة إلى تنظيم محاضرات نقدية وفكرية في الكثير من المدن الألمانية، وهي مدعومة كذلك من جهات ألمانية حكومية أو مستقلة، ولا تلقى دعما من منظمات أو حكومات عربية أو إسلامية.

ويقول الدكتور حسام الدين درويش للجزيرة نت “هناك محاولات لمسْحنة الدولة الألمانية، والثقافة الألمانية، و”الشعب الألماني”، من خلال إبراز البعد الديني المسيحي فيهم، وإظهار “أجنبية الإسلام” وعدم انتمائه إلى ما هو “ألماني”. وعلى هذا الأساس، يمكننا فهم النقاش الحامي الوطيس، في ألمانيا، حول ما إذا كان “الإسلام هو جزء من ألمانيا” أم لا.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.