قلبك سبب فلاحك

فلاح العبدِ متعلقٌ بصلاح قلبِه؛ ﻷنه لا نجاةَ البَتَّةَ يومَ القيامة إلّا بصلاحِ القلوب؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾، وعليه: فلابد مِن تزكيةِ القلب وسلامتِه حتى ينجو العبد؛ عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ”. متفق عليه.

فالقلبُ السليم، همُّه كلُّه في الله، وحبُّه كلُّه له، وقصدُه له، وأعمالُه له. القلبُ الصحيح الحديث عن الله تبارك وتعالى عنده أشْهى مِن كلِّ حديث، والخَلْوَةُ به آثَرُ عنده مِن الخُلْطَة إلّا حيثُ تكونُ الخُلْطَةُ أحبُّ إليه وأرضى له، قرّةُ عينُه به، وطُمأنينتُه وسكونُه إليه، وكلما وجدَ التفاتًَا إلى غيرِه تلا: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾.

فصاحبُ القلبِ السليم يردِّدُ على نفسِه هذا الخِطاب، حتى تصيرَ العبوديةَ صفةً له، وذَوْقًا لا تَكَلُّفًا، فيأتي بها تودُّدًا وتحبُّبًا وتقرُّبًا إلى ربِّه جل وعلا. كما يأتي المُحِبُّ المقيمُ في محبةِ محبوبِه بخدمتِه وقضاءِ أشغالِه. فكلّما عرضَ له أمرٌ مِن ربِّه أو نهىٌ أَحَسَّ مِن قلبِه ناطقًا ينطقُ: لبيْك وسعدَيْك إني سامعٌ مطيعٌ مُمْتَثِل، ولك علَىّ المِنَّة، والحمدُ فيه عائدٌ إليك.
حيث قال تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾، لذلك ذكر الله حياة القلوب ونورَها وموتَها وظلمتَها في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه العزيز. قال تعالى: ﴿َ ‌‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏ ﴾، وقال تعالى‏:‏ ﴿ ‌‌‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ‌‌‏ ‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏ ﴾، وقال تعالى‏:‏ ‌‏ ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ‏ ﴾.

ثم قال جل وعلا‏:‏ ﴿ ‌‌‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ﴾، ثم قال جل وعلا: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏ ﴾.

مَثَلُ الاعتقادات الفاسدة، والأعمال التابعة لها، يحسبُها صاحبُها شيئًا ينفعُه فإذا جاءَها لم يجدها شيئًا ينفعُه، فوفّاه اللّه حسابَه على تلك الأعمال‏.‏

البصرَ إنما هو بنورِ الإيمانِ والعلم‏، قال تعالى‏:‏ ﴿ ‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‌‌‏ ﴾، وقال تعالى‏:‏ ﴿ ‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‌‌‏ ﴾، وهو برهانُ الإيمانِ الذي حصلَ في قلبِه، فصرف اللّهُ به ما كان من هم، وكتب له حسنةً كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذْ فعل خيراً، ولم يفعل سيئة‏، قال تعالى‏:‏ ﴿ الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ‏‌‏لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏ ﴾.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.