أسد في زمن الذئاب: التجربة الاردوغانية بين الداخل و الخارج

بقلم هشام بوريشة

حطت الطائرة على الساعة التاسعة صباحا بتوقيت إسطنبول. و كانت المفاجأة ان اول من استقبلني منظر شرطية بحجاب تختم الجوازات. منظر لم اشاهده حتى في بعض البلدان العربية التي تدعي الحداثة و الديمقراطية. فلم ينلها من الحداثة سوى العري و الانحلال الأخلاقي و التجرؤ على الدين في أحيان كثيرة.
فكرت حينها كيف انقلبت التجربة التركية من علمانية مقيتة همشت البلاد و العباد إلى أسطورة نجاح تتبوأ مراكز متقدمة في مصاف الأمم. و تذكرت كيف ان بعد  26 سنة من الحياة خارج الوطن عادت  مروة صفاء قاوقجي بكامل حجابها لتدرس في الجامعة، التي طردت من البرلمان التركي وسحبت منها الجنسية نتيجة ارتدائها للحجاب.

لا أحد يجادل ان هذا نتاج عمل و عرق بل و دماء أهرقت في سبيل هذه المكتسبات. و لكن الى متى سيستمر هذا المسلسل التركي الذي طالت حلقاته عشرين سنة من المكائد و التحديات؟ و لازال المسلسل يروي حكاية الرهانات و التحديات الداخلية و الخارجية، التي خسرت من الأموال ما لو استغل في رفاهية الشعوب، لكسبت القلوب، و قلبت الطاولة دون اللجوء لحيل ملتوية لم تزدهم الا خبالا. و أعني بذلك الانقلاب العسكري الأخير و ما ضخ من أموال في حملات إعلامية لازالت مستمرة باللغات العربية و التركية. تضح سموما و أفكارا لو امتزجت بماء البحر لافسدته.

سؤال دفعني إلى دراسة التحديات و كيف طورت من مستوى اداء “الأسد اردوغان“. قد تستفزك كلمة الأسد أردوغان. لأنك ربما تعتبره ديكتاتورا او ربما متسلطا. و لكن دعني أخبرك بكل صدق، بأن هذه أسطوانة مشروخة تريد أن تجعل الخيانة وجة نظر. و بالتالي فالرد عليها سهل و لن نشغل أنفسنا بها الآن.

ففي جبهة داخلية تتميز بمقت الدين بل و بمحاولة التضييق عليه إلى أبعد الحدود، استطاع أردوغان أن يعيد للمواطنين المتدينين حقوقهم في ممارسة شعائرهم بكل أريحية. و هذا ما جعل تركيا قبلة العديد ممن يودون تدريس أبنائهم في مدارس إسلامية و دولية قل نظيرها في العديد من الدول العربية. بل كانت حضنا لكل مضطهد.

و قد زادت صعوبة مهمة “الأسد أردوغان” حين استقبل جيرانه السوريين، الأمر الذي استغل من طرف المعارضة العلمانية بشقيها التركي و الكردي. حيث بثت الفتنة بين “المهاجرين و الأنصار” بل و بثت الأكاذيب حول الأسباب الحقيقية لأزمة الليرة التركية مقابل الدولار، و الصقت “بالمهاجرين”. و كيف لا و هم لا يؤمنون بالاخوة الدينية و الانسانية منطلق حزب العدالة و التنمية. ربما قد نختلف في تعاطي الحكومة التركية مع ملف المهاجرين السوريين. و لكن اقل ما يقال هو انها تعاطت مع الملف بواقعية و حذر مع الاخذ بعين الاعتبار الاحتقان الداخلي سد الدرائع التي من شأنها ان تقلب الموازين في الشأن السياسي التركي.

و اذا تم تتبع مواقف “الأسد أردوغان”، فإن الملاحظة المشتركة هي انها غالبا ما كانت سببا في مشاكل خارجية سواءا مع الغرب او الشرق. فموقف أردوغان من مجزرة رابعة، الحرب السورية، صفقة القرن، النزاع الليبي. كلها أمثلة على تبني تركيا، ذات النفس العثماني الريادي، موقفا مناصرا لقضايا الأمة.

و بما ان هذه المواقف ضريبتها غالية لأنها ممزوجة بالعزة و الكرامة. فالولايات المتحدة الأمريكية و اذنابها في المنطقة ممن امتهنوا نهب ثروات الشعوب و خذلان قضاياهم، لا يتوقفون على تمرير الدسائس و الازمات للدولة التركية. فمن التلاعب بالبورصة و مرورا بسحب رؤوس الأموال و انتهاءا بتصدير الأزمات السياسية و الاقتصادية. ناهيك عن الدعم المادي للاحزاب المعارضة و ضخ الأموال لها عن طريق شركات و معاملات وهمية.

كل ذلك واضح للعيان و ما خفي أعظم. حيث أن السعودية و الامارات تجبر بعض مواطنيها من المستثمرين على الانسحاب من السوق العقارية التركية و يسعى الكثير منهم إلى بيع ممتلكاتهم. ناهيك عن الحرب الاقتصادية على الصادرات التركية. و على مستوى السياحة، فالجيوش الإلكترونية و القنوات الإماراتية لا تكل و لا تمل من اختلاق الأكاذيب و الإشاعات حول الأمن بتركيا و سلامة السياح. محاولة منها للنيل من القدرات السياحية للدولة التركية. زيادة على تمويل صفحات اخبارية ضد المصالح التركية.

إن الحديث ليطول عن المواقف و الحيثيات التي تبرز حنكة و نضوج التجربة الاردوغانية. و كيف أن التاريخ يعيد نفسه فعدو الأمس هو نفسه عدو اليوم. عربان تواطؤوا مع الغريب ضد أخوة الدين. لأنهم يرون في الدولة التركية الحالية امتدادا للخلافة العثمانية و لو اختلفت الحيثيات و الظروف الزمكانية.

و لكن  لا يسعنا الا ان نُذكِّر ان الاقتصاد و السياسة التركيين ليستا بشمعة تنطفئ مع مهب الريح. و إنما هما نتيجة اخذ بالاسباب الدينية و الدنيوية. و هما نتاج تجربة مريرة مع علمانية عسكرية انتهكت كل الحقوق مبتعدة بذلك عن الهدف الأساسي الذي ادعت انها تناضل من أجله و هو حكم عادل يكون فيه للشعب الكلمة الأولى و الأخيرة. الأكيد ان التجربة لازالت تعرف بعض الانتكاسات و لكنها تبقى مثلا يتحدى به و نتمنى نجاحه.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.