“الفن الخبيث”.. كيف يغير الإعلام مفاهيم الناس عن السلطة؟

لطالما كانت هناك علاقة -بالأحرى معركة- تربط بين الفن والسياسة على مر التاريخ، وتلك المعركة حامية الوطيس، حاول فيها كلا الطرفين بسط سلطته على الآخر؛ فالسلطات السياسية حاولت دوما “شرعنة” وجودها عبر الفن، والفن هو الآخر طالما نقد المسارات السياسية واحتج عليها.

وذلك منذ عهد نيرون؛ الإمبراطور الروماني الذي أغرق مملكته في بحور من الدم والاغتيالات للمحافظة على عرشه، لكنه في الوقت عينه كان فنانا وممثلا، يطوف اليونان مشاركا في كافة المسابقات الفنية التي لا يجرؤ أي مواطن آخر على الفوز فيها أمام الإمبراطور. وعبر عمله كممثل وفنان كان نيرون يصور دائمًا قصصا من شأنها دعم حكمه كإمبراطور.


الفنان الألماني جوزيف بويز:
هدف الفنّ هو تحرير الناس، وبالتالي فإنّ الفنّ بالنسبة لي هو علم الحرية

تظهر العلاقة الجدلية بين الفنّ والسياسية في أوج وضوحها في مطلع القرن العشرين، حيث أتت حركات فنية، مثل التعبيريّة والتكعيبيّة، للوجود متأثرة بشدة بالاضطرابات الوجودية التي صاحبت فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وصور الرسام الإسباني بابلو بيكاسو في لوحته التكعيبية الخالدة “جرنيكا” -التي تعد أشهر وأهم الأعمال الفنية السياسية في التاريخ- “إبادة سكان قرية جرنيكا بدم بارد وببطء شديد”، على يد سلاح الجو الألماني تحت حكم هتلر.


بيكاسو:
لم يُخلق الفن من أجل تزيين العمارات، بل هو سلاح هجومي ودفاعي معا

وبشكل عام، بدأ جليا منذ النصف الثاني من القرن العشرين أن الفن لن يكون أبدا بمعزل عن التغيرات السياسية. وأصبح لزاما على كل نظام سياسي تجهيز أدواته الفنية والإعلامية في معركته لبسط نفوذه، وهو الأمر الذي دفع بإشكالية الفن والسياسة أكثر فأكثر للواجهة.

العنجهية.. مصر نموذجا
كانت عادة الصراحة التي يعتمدها الفن -في أي حقبة وأي زمان- في التعليق على الأحداث السياسية تقابل برد فعل عنيف من السلطات السياسية، وتاريخ الفن نفسه حافل باغتيالات لرسامين وأدباء وفنانين دفعوا حياتهم ثمنا لآرائهم السياسية. ويحضر دائما رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، الذي اغتاله الكيان الصهيوني في لندن عام 1987، كواحد من أبرز تلك الأمثلة.

ومضت كل الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية دوما نحو اعتماد أدواتها الفنية والإعلامية الخاصة، التي من شأنها الرد على أي معارض لها. هذا الرد الذي يبدأ عادة بالتخوين، ويمضي للحث على التخلص من تلك المعارضة الفاسدة العميلة، وصولا للحث على القتل والإبادة الجماعية إن لزم الأمر.

فمنذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 الدامي، الذي انتهى بأبشع مجزرة في تاريخ مصر الحديث، مضت المؤسسة الإعلامية المصريّة في إطلاق عدد ضخم من الأغاني الوطنية “الشيفونية” التي تؤيد قرارات الرجل الذي لولاه لغرقت مصر في براثن الإرهاب!

ورغم أن هذا الرجل لم يزد الأمور إلا سوءا على كافة الأصعدة، وسجّل رقما قياسا في أعداد المعتقلين الذي يتجاوز خمسين ألف معتقل؛ فلا يزال يقدم في الأغاني “الشيفونية الوطنية” على أنه حامي الحمى الذي يحمي البلاد والعباد من خطر “أهل الشر”، على حد وصفه.


نعوم تشومسكي:
الدعاية في النظام الديمقراطي اليوم هي بمثابة الهراوات في الدولة الشمولية

الإرهاب القانوني الوحيد
منذ انقلاب يوليو/تموز وفض اعتصامي رابعة والنهضة وحتى اليوم تعمل الآلة الإعلامية المصرية بكامل أذرعها الفنية بمنتهى الإخلاص على تغيير فهم الناس لطبيعة السلطة والممارسة السياسية، لتتحول من “السلطة الدستورية القانونية التي تعمل وفق سلسلة من القوانين” -حسب تعبير ماكس فيبر- “لسلطة كاريزمية”، يكون فيها السيسي كقائد فردا يتمتع بموهبة متفردة يجب أن تكون له سلطة مطلقة.

ولعل ما كانت التعديلات الدستورية الأخيرة -التي ستسمح له بالبقاء في السلطة مدى حياته- لتمر لولا عشرات “الأبواق الإعلامية” التي تم تأميمها جميعا لتكون متحدثة باسم الحكومة فقط، والتي أيدت هذا القدر من العنف غير المسبوق؛ فمنذ “تسلم الأيادي” حتى الآن، لم تتوقف الآلة الدعائية الفنية للدولة عن تأييد ودعم القائد المخلص عبد الفتاح السيسي.

وفي تلك الحالة، فإن الحديث عن وجود أي حريات أو تعددية سياسية وعدالة اجتماعية يعد دربا من الجنون، لأن هناك هدفا أهم وأسمى من تلبية احتياجات الشعب الاقتصادية، ذاك الهدف الأسمى هو بناء مصر؛ ذاك البناء الذي ما تنفك المؤسسة الإعلامية أن تؤكد مرارا وتكرارا أنه لا يكون إلا عبر حالة من التقشف وغلاء الأسعار، حتى صار أكثر من أربعين مليون مصري تحت خط الفقر.

وبالطبع، تعد كل المؤسسات الوسيطة كالانتخابات والأحزاب والبرلمان -التي من شأنها منح حرية التعبير للشعب- مجرد هوامش، بل ويجب السيطرة عليها ومحوها إذا لزم الأمر، لأن حكمة السيسي وعبقريته السياسية والاقتصادية تفوق كل شيء وتتفوق على كل هؤلاء.

وحتى لو بلغت أعداد المُعتقلين والمخفيين قسريا والميتين تحت التعذيب أضعاف ما هي عليه الآن، سيظل هذا العدد فاتورة بسيطة وثمنا زهيدا مقابل الحماية التي يعطيها السيسي لمصر، حتى وإن كانت تلك الحماية ما هي إلا قمع واستبداد في جوهرها.

فالعنف الذي تمارسه الدولة في حق مواطنيها، حتى لو كان هو أبشع صنوف الإرهاب، يظل في نظر النظام وفريقه من الفنانين والإعلاميين المؤيدين له “إرهابا قانونيا”؛ حيث إن الدولة كما يقول فيبر “الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة”. وسيظل صدى “تسلم الأيادي” يتردد بنشوة شيفونية غامرة مع كل صرخة يطلقها معتقل تحت التعذيب.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.