أسسها ضابط سابق في الجيش الصيني.. كيف وصلت هواوي إلى العالمية؟

بقلم عماد أبو الفتوح

في الوقت الذي اشتعلت فيه الصحافة العالمية بتغطية أخبار أزمة هواوي مع الحكومة الأميركية، عقب إعلان الرئيس الأميركي ترمب أن عملاق الهواتف الصينية يُمثّل خطرا على الأمن القومي باعتبارها بابا خلفيا للتجسس لصالح الحكومة الصينية، وهي التصريحات التي تلاها قيام شركة غوغل بسحب نظام التشغيل “أندرويد” الذي يعتبر المُشغل لهواتف هواوي، وتضامن عدد كبير من الشركات مع غوغل ضد هواوي، حملات التصعيد الأميركية تلك صاحبها ظهور على الجانب الآخر لـ “رين تشنغ فاي” المؤسس والرئيس التنفيذي لهواوي الصينية بتصريحات صبّت المزيد من الزيت على النار.

“قمنا بالتضحية بالكثير حتى نصل إلى النموذج الأفضل ونقف على قمة العالم. ولهذا الهدف، سيكون هناك صراع مع الولايات المتحدة عاجلا أم آجلا!”

لم يكن هذا سوى تصريح من جملة تصريحات متتالية نقلتها الصحافة العالمية على لسان مؤسس هواوي ذي الخمسة والسبعين عاما، والذي ذكر أيضا أن هواوي كانت على “أتمّ الاستعداد” للصدام مع حكومة الولايات المتحدة بعد أن ظهر سعي الإدارة الأميركية لتحجيمها وإزاحتها عن قمّة سوق التقنية العالمي الذي أوشكت على الوصول إليه.

وفي خضم هذه التصريحات، ربما جلس “رين تشينغ فاي” على مقعد وثير في مكتبه الفخم في مقرّ الشركة في مدينة “شينزن” الواقعة جنوبي الصين، ونظر في شرود إلى صورته القديمة في ريعان شبابه ليبدأ شريط من الذكريات ينساب أمام عينيه ويتذكر كيف بدأ هذا كله، وكيف لشركته المتواضعة التي أسسها قبل أكثر من ثلاثة عقود أن تتحول إلى عملاق تقني عالمي ضخم يدخل في صراع مع حكومة أقوى دولة في العالم.

البداية: جوع وملابس مُرقّعة وبروليتاريا

ينتمي رين تشينغ فاي لأسرة فقيرة، وُلد في العام 1944، ودرس الهندسة في جامعة تشونغكينغ في الصين حيث كان كل شيء طافحا بالشيوعية وقتئذ. في الستينيات، كانت الصين تمر بذروة اضطراباتها السياسية التي سببتها الثورة الثقافية في البلاد، والتي أدّت إلى إغراق الصين في فوضى امتدت لتطول كل القطاعات وراح بسببها الملايين من الضحايا حتى كادت البلاد تسقط على شفا حرب أهلية.

يُعتقد أن الثورة الثقافية البروليتارية الصينية الكبرى تسببت في مقتل عدة ملايين
عقب الانتهاء من دراسة الهندسة، وعلى الرغم من اعتقال والده في تلك الفترة بسبب “انسياقه للرأسمالية” وهو ما كان يمثّل تهمة خطيرة آنذاك، فقد تمكّن رين تشينغ من الالتحاق بمعهد أبحاث جيش التحرير الشعبي -الجيش الصيني- كمهندس. تلك الفترة التي يصفها بأن “الفوضى كانت في كل مكان”، لدرجة أن كل شخص كان يخصص له “ثلث متر” فقط من القماش، وهو ما جعله دائما يرتدي ملابس مُرقّعة طوال الوقت فترة شبابه.

وسط هذه الظروف القاسية، ولكونه متحصّلا على شهادة جامعية في الهندسة -وهو ما لم يكن متوافرا بشكل كبير في البلاد- أُرسل رين تشينغ بعد انضمامه للجيش للمساعدة في بناء مصنع كيماويات لصناعة ألياف النسيج في منطقة “لياويانغ” شمال شرقي الصين، ضمن خطة الحكومة لضمان حصول كل مواطن على قطعة ملابس واحدة على الأقل.

وجد الشاب نفسه في ظروف صعبة للغاية، حيث تشارك المبيت مع مجموعة من رفاقه في مسكن شديد التهالك وسط درجات حرارة منخفضة كانت تلازم مكانها تحت الصفر، ويعيشون على تناول الخضراوات لعدة شهور، وقد كان الشعور بالجوع والبرد هما الصديقين الملازمين له في تلك الفترة. ومع ذلك، يحكي مؤسس هواوي أن هذه الظروف الصعبة كانت فرصة ممتازة له في أن يمارس نشاطا محظورا في الكثير من نواحي البلاد وهو “القراءة”، حيث كان المصنع واحدا من الأماكن القليلة التي يمكن القراءة فيه بداعي فهم كيفية تشغيل المعدّات.

في العام 1978، وبعد وفاة الزعيم الصيني الأشهر ماو تسي تونغ، تمثّلت النقلة الكبرى في حياة تشينغ بانضمامه إلى الحزب الشيوعي الحاكم، وذلك بعد اختراعه لأداة تصلح للاستخدام في اختبار المعدات والآلات المتقدمة في مصنع النسيج الذي عمل به. كان انضمامه للحزب الشيوعي أمرا استثنائيا بالنسبة له، خصوصا بسبب العراقيل التي كان يواجهها دائما بسبب تاريخ والده الذي سُجن في وقت سابق.

ومع ذلك، وعلى الرغم من قبوله في الحزب الشيوعي، فإنه لم يحصل على أي رتبة عسكرية في الجيش، فوصل إلى منصب نائب مدير معهد بحوث البناء حتى تمّ تسريحه من الجيش بشكل كامل عام 1983 عندما قلّصت القيادة الصينية أعداد الضباط المهندسين في الجيش في مطلع الثمانينيات، وكان قد بلغ حينها مشارف الأربعين من عمره.

تأسيس هواوي.. بدايات غرس الوردة
بعد تسريحه من الجيش، توجّه رين شينغ فاي جنوبا إلى مدينة شينزن، والتي تعتبر إحدى أهم المدن الاقتصادية الصينية، وبدأ في العمل في مجموعة من الشركات المختلفة لمدة أربع سنوات تقريبا. وبحلول العام 1987، قرر المهندس السابق في الجيش الصيني أن يؤسس شركته الصغيرة الأولى برأس مال متواضع قُدّر بنحو 21 ألف يوان صيني، أي ما لا يزيد بأي حال من الأحوال على 3500 دولار أميركي.

أطلق المهندس على شركته اسم “هواوي” (Huwei)، وهي كلمة صينية لها عدة معانٍ تجمع ما بين “الوردة” و”التفوّق”، وكان الهدف الأساسي من بنائها هو أن تكون شركة اتصالات صينية محلية صغيرة قادرة على توزيع مفاتيح “محوّلات الهواتف”. في سنواتها الأولى، وقد تركّزت أعمال الشركة الصغيرة باعتبارها بائعا ثانويا يقوم ببيع محوّلات هواتف خاصة مستوردة من هونغ كونغ ويوزّعها في القرى والمدن الصينية الصغيرة.

لاحقا بدأت الشركة في تعزيز استثماراتها في مجال البحث والتطوير، حيث وجّه رين شينغ موظفيه للعمل بشكل كامل على الأبحاث والتطوير، وهو ما قاد “هواوي” في النهاية للبدء في إعادة تطوير محولات الهاتف التي تستوردها ثم بيعها إلى الفنادق والشركات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما أدّى إلى انتعاشة جيدة في مبيعاتها وخروجها من مرحلة الخطر والاضمحلال في السوق الصيني الضخم. وبحلول العام 1990، وبعد ثلاث سنوات فقط من تأسيسها، بدا واضحا أن نشاط الشركة قد اتخذ مسارا واعدا، وهو ما انعكس على ارتفاع عدد موظفيها إلى 600 موظف، منهم 55 موظفا متخصصا في البحث والتطوير بشكل خاص.

هواوي التسعينيات.. تفتّح الوردة الصينية

في العام 1992، كانت هواوي قد افتتحت أول مراكزها الخاصة بالأبحاث وتطوير الاتصالات، وهو ما اعتُبر نقلة كبرى في أدائها أدّت إلى أكبر اختراقاتها التقنية في العام 1993، عندما قامت الشركة بإطلاق برنامجها الأول باسم “C & C08” للتحكم في محوّلات الهاتف. قامت الشركة بشكل تدريجي بنشره في المدن الصغيرة والمناطق الريفية البعيدة، حتى بدأ ينتشر في أنحاء الصين كافة ليتحول إلى أقوى محوّل هواتف في البلاد بشكل كامل، ولتحصل الشركة على نسبة كبيرة من السوق الصيني في هذا القطاع الذي بدأ يلتفت إلى علامتها التجارية بشكل واضح.

كان التطور الكبير الذي أحرزته هواوي في مطلع التسعينيات سببا في عودة أنظار الحكومة الصينية إلى رين شينغ فاي الذي كان مهندسا سابقا في جيشها، مما جعلها تنال عقدا ابتدائيا للمشاركة في بناء أول شبكة اتصالات وطنية مخصصة لجيش التحرير الشعبي. وفي العام 1994، تواصل رين شينغ فاي، العضو في الحزب الشيوعي، مع السكرتير العام للحزب وشرح له أن تقنية معدات محوّلات الهواتف هي أمر مرتبط بالأمن القومي، وأن البلد الذي لا يملك معدات محوّلات هواتفها فإنها تواجه خطرا واسعا، الأمر يشبه تماما ألا تكون متحكّما أو ممتلكا لجيشك.

وفي العام 1996، أعلنت الحكومة الصينية تبنّيها سياسة صارمة بدعم مُصنّعي معدات الاتصالات المحلية وتقييد وجود المنتجات الأجنبية المنافسة في السوق الصينية، وقامت الحكومة الصينية على إثر توجّهها ذاك بتسمية شركة هواوي باعتبارها “بطلا وطنيا”، وهو ما فتح الطريق للشركة بتأسيس عدد آخر من مكاتب البحث والتطوير لتسريع نموّها في عالم الاتصالات، ولتخرج لأوّل مرة خارج حدود الصين باتجاه العالم.

شهد الثلث الأخير من التسعينيات نموا ملحوظا لهواوي باتجاه العالمية، حيث بدأت في العام 1997 بتزويد منتجاتها لشركات في هونغ كونغ، ثم العمل على تأسيس أولى خدمات شبكات الهاتف اللاسلكي الهوائي “GSM” والدخول إلى عالم تصنيع ودعم تكنولوجيا شبكات الجوّال. وفي العام 1999 افتتحت هواوي أول مقراتها للبحث والتطوير خارج الصين في مدينة بانغالور الهندية.

خلال الفترة ما بين 1999 إلى 2000، تعاقدت هواوي مع شركة أميركية للاستشارات الإدارية التي ساعدتها في إجراء تعديلات جوهرية على إداراتها وهيكلة أنظمتها لتطوير المنتجات والبحث، وساعدتها في تسريع نموها بشكل كبير لتتمدد نحو الأسواق العالمية خروجا من الصين، وهو ما ساعدها على تحقيق مبيعات عالمية وصلت إلى 100 مليون دولار مع افتتاح فرع عالمي ثانٍ للبحوث والتطوير في ستوكهولم السويدية.

بقدوم الألفية الجديدة تسارعت وتيرة نمو هواوي بشكل أكبر، ففي العام 2005 تخطت العقود العالمية للشركة مبيعاتها المحلية لأول مرة، كما قامت بالتوقيع في إطار اتفاق عالمي مع شركة فودافون العالمية جعلها تتحول إلى أول شركة صينية تقوم بتزويد معداتها في مجال الاتصالات على المستوى العالمي. وفي 2008 أعلنت شركة “Optus” الأسترالية للاتصالات تأسيس وحدة للبحث والتطوير بالتعاون مع شركة هواوي في مدينة سيدني، ثم امتدت للانتشار في كندا ثم النرويج بنهاية العام 2009.

في العام 2010، كانت هواوي قد ظهرت للمرة الأولى في قائمة “فورتشن” الأميركية ضمن قائمة أغنى 500 شركة حول العام بوصول مبيعاتها السنوية إلى 21 مليار دولار وصافي أرباح بـ 2.67 مليار دولار. وهي الفترة نفسها التي بدأت الشركة الصينية في تصنيع وإنتاج هواتفها الذكية “ASCEND” بنظام تشغيل الأندرويد، بجانب مجال عملها الأساسي في الخدمات التكنولوجية والشبكات اللاسلكية.
كان الظهور العالمي الأبرز لشركة هواوي الصينية خلال السنوات القليلة الماضية يأخذ منحى مذهلا من النمو السريع. في العام 2013، كانت هواوي قد تقدمت بعشرات الآلاف من براءات الاختراع العالمية، إلى جانب استثمارها لاكثر من 5 مليارات دولار في برامج البحث والتطوير وأكثر من 70 ألف موظف يعملون في هذا القطاع فقط؛ أي ما نسبته 45% من عدد موظفيها حول العالم يعملون في مجال البحث والتطوير.

وسريعا، ومع تنوّع الهواتف الذكية التي تنتجها هواوي حول العالم وصلت إلى المركز الثالث في قائمة أكبر مورّدي الهواتف الذكية، ثم قفزت في العام 2018 إلى المركز الثاني في القائمة بنمو ضخم في المبيعات تجاوز الـ 40% ما جعلها تتقدم على شركة آبل الأميركية التي جاءت في المركز الثالث، ومتأخرة عن سامسونغ التي شغلت المركز الأول، وهو ما جعل قيمة علامتها التجارية (Brand Value) تقفز إلى 8.4 مليار دولار بحسب تصنيف فوربس.

كان هذا العام تحديدا، 2018، هو العام الذي حققت فيه هواوي أكبر إنجازاتها، وهو أيضا العام نفسه الذي بدأت معه سُحُب المشكلات تتجمّع في الأفق بتوالي اتهامات الحكومة الأميركية لهواوي بالتجسس على المستخدمين وتهديد الأمن القومي الأميركي، وهو الأمر الذي جرّ هواوي إلى مشكلاتها الأخيرة التي تفاقمت مع إقدام عدد من أهم شركات الاتصالات العالمية على مراجعة أعمالها معها.

في النهاية، ربما من المبالغة القول إن مؤسس هواوي يعود له كامل الفضل في نجاح شركته الهائل الذي حققته حول العالم؛ لأن كل الوقائع تشير إلى أنه لولا الدعم الحكومي الصيني للشركة لم تكن لتصل إلى هذه الآفاق حتى لتتحول إلى بؤرة صراع بين الصين وأميركا. إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل قصة كفاح مؤسسها الذي بدأ شركته بعد أن تجاوز الأربعين وبرأس مال لا يزيد على 4 آلاف دولار إلى أن تحوّلت إلى عملاق عالمي يتجاوز حدود الصين إلى العالم، وهي الشركة التقنية التي أصبحت محط أنظار الكثيرين حول العالم، والذين يترقبون إلى أين ستنتهي هذه الحرب التقنية بين الصين وأميركا، والتي تقف هواوي في القلب منها.

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.