الترف… آفة تُقوّض بُنيان الأمم

بقلم : احسان الفقيه

جلسَتْ إلى صديقة ثرية «سيدة في قومها» فقالت لها مُداعبة: وددتُ لو تزوجتُ من مضاربكم، حيث الرجال الأكْفاء ذوو الحسب والنسب والمكانة الرفيعة، نظرتْ صديقتها الثرية إلى تلك الحقيبة المتواضعة بجوار المُتكلمة الأولى، ثم نقلت بصرها إلى حقيبتها الثمينة من نوع «هيرميس» التي يقارب ثمنها 30 ألف دولار، ثم قالت: إن لم يكن لديك حقيبة مثل هذه، فلن تحظي بزوج من هؤلاء، هنالك ابتسمتْ الأخرى قائلة: لا بارك الله في رجلٍ يخطبني لأجل نوع حقيبتي.

أخذتْ هذه القصة من واقع الحياة، بتلابيب فكري إلى مساحة أوسع ونطاق عام يجتاحه مرض من أمراضنا الاجتماعية التي استوطنت مجتمعاتنا، وهو داء تقييم الناس بالمال، فصارت قيمة المرء تحددها أملاكه وثيابه ووجاهته، يُذكرنا بما كان عليه أهل فارس، إذ كانوا يجعلون قلانسهم (جمع قلنسوة وهي غطاء الرأس) على قدر أحسابهم في عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مئة ألف.

هذا التقييم وبحسبة بسيطة، يجعل المرء لا شيء، حيث يغدو بلا قيمة إذا ما نُزع عنه ما يملك، لقد فقه أحد الظرفاء القدامى لهذه الحقيقة، فوظفها سياسيا لبيان حمق الحكام في قالب ساخر، فيحكى أن تيمورلنك سأل جحا: أتستطيع أن تخبرني كم أساوي من المال؟ فنظر جحا إليه مترددا ثم قال: لا أظنك تساوي أقل من ألف دينار، فضحك تيمور حتى استلقى على ظهره ثم قال: إنك لم تبلغ في جوابك شيئا، إن ملابسي وحدها تساوي ذلك المقدار من الدنانير، فقال جحا: لقد صدق ظني إذن، فما كنت أنظر من تقدير ثمنك إلا إلى هذه الملابس. هذه النظرة في تقييم الفرد وفقا لثرائه، مرجعها الإغراق في الترف، وطغيان مظاهر البذخ والسرف، الذي صبغ الحياة العامة، تشترك في ذلك الحكومات والشعوب معا في بلادنا، فأما الحكومات فأبعد ما تكون عن ترشيد الإنفاق ومراعاة الأولويات وتسخير الموارد لتوفير حياة كريمة للمواطنين على اختلاف في نسبته بين الدول، بل توجه هذه الأنظمة الأموال إلى الشكليات والمظاهر الدعائية لها، وبناء القصور والمنتجعات، والسرف في منح امتيازات مختلفة لأفراد المؤسسات الصلبة، التي تحمي النظام، مقابل وجود الملايين تحت خط الفقر، ومن يحصلون على أقواتهم من أكوام القمامة.

وعلى مستوى أفراد الشعوب، فحدث ولا حرج، عن البذخ والترف والإسراف، وإنك لتسمع عن أمور في منتهى الغرابة في هذا الجانب، فما معنى أن يتخذ بعضهم مرحاضاً من ذهب؟ أو حذاء من اللؤلؤ؟ وما معنى أن يستقل بعضهم سيارات مرصعة بالماس لن تصعد به الفضاء ولن يخرق بها الأرض؟ ولائم وحفلات ينفق عليها الملايين، ويكون مصيرها غالبا حاويات القمامة بعد أخذ «لقطة السيلفي» للشهرة والتفاخر، بينما إذا طلبت من أحدهم تبرعاً لأعمال الخير اعتذر إليك، وربما رأى في ذلك تبديدا لأمواله.

وقطعا حديثي هنا ليس عن مطلق الأثرياء، فإن منهم أهل الخير والبر والصلاح والإصلاح، إنما أتحدث عن أهل البذخ والمبالغة في الإسراف والتفاخر به منهم، وهؤلاء المترفون غالبا ما يكونون عقبة أمام أي تغيير أو إصلاح، وقد حدثنا القرآن الكريم عنهم بهذا الشأن «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» فهذه الفئة لا تتحرك إلا إذا واجهت تهديدات تسلبها رغد العيش، عدا ذلك فإنها تبقى مطمئنة إلى الأوضاع التقليدية راضية بها داعية إلى التمسك بها مهما كانت فاسدة، طالما أن هذا الفساد لا ينال من ثرائها، بل هي غالبا ما تكون جزءاً من هذا الفساد.

البذخ والترف والسرف وبال على صاحبه، لأنه تبديد للأموال مع العرضة لتقلب الأحوال، ولذا جاء التحذير من مغبته في التذكرة الحمدونية: «احذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف، فإنّهما يعقبان الفقر، ويذلّان الرقاب، ويفضحان أهليهما».

وإضافة لكونه سببًا للطبقية وما يتبعها من إشاعة الأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد، فإن الترف يُوجد مجموعة من المتترفين، وهم الذين يتطلعون إلى محاكاة أهل الترف مع قلة ثرواتهم، فيفعل الواحد منهم ما لا تتسع له طاقته من أجل مسايرة هذه الفئة، فربما يبيع منزله في نفقة المأتم وأثاث منزله في نفقة العرس، فلا تجد لفعله تأويلا إلا خوفه من سخط الناس، واتقاءه مذمتهم كما قال المنفلوطي.

وإن من أشد تبعات الإغراق في الترف، أنه يؤدي إلى تردي المجتمعات، وقد أفرد رائد علم الاجتماع ابن خلدون فصلا في تاريخه بعنوان:»من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعم» وضرب مثلا لذلك الدول والممالك التي أسقطها الإفراط في الترف والتنعم كدولة بني أمية في الأندلس، حيث ذكر أنهم بلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم، فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم، واستأثروا مهاد الدعة واستطابوا خفض العيش، وطال نومهم في ظلّ الغرف، حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية، وانفلتت من أيديهم المَلَكة

شاهد أيضاً

لمحات من بلاغة القرآن

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.