أم على قلوب أقفالها؟


عبد الرحمن زكي حمد

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو أفضل وأعظم ما تعبد به وبذلت فيه الأوقات والأعمار، إنه كتاب هداية وسعادة وحياة وشفاء وبركة ونور وبرهان وفرقان، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ويقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها، وتحل بركة القرآن على قارئه في كل تفاصيل حياته في عقله وصحته وماله وأهله، بل وحتى في جيرانه، فالقرآن ينفع ويرفع ويشفع ويشفي ويهدي ويسعد ويريح، والقرآن سبيل الإصلاح والتربية وطريق العزة والنصر والتمكين، من قرأ منه حرفا فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب، والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ينفر منه الشيطان، وما اجتمع قوم لتلاوة القرآن ومدارسته إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ويؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما.

قال “شيخ المفسرين” الإمام الطبري -رحمه الله-: إنِّي لأعجب ممَّن قرأ القرآن، ولم يَعلم تفسيره كيف يتلذذ بقراءته؟!.

لقد اختص الله تعالى شهر رمضان بإنزال القرآن فيه وارتباط الشهر بالقرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وقد كان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كل ليلة يدارسه القرآن، ولذلك تعظم بركة القرآن وفهمه وفتوحات الله على قارئه إذا قرأه في الوقت الذي نزل فيه.

ومع كل ما ذكر من فضل وبركة القرآن إلا أن هناك أخطاء للناس في التعامل مع كتاب الله عز وجل:

أولهما، أن بعض الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما زالوا إلى اليوم يهجرون القرآن ولا يأخذون نصيبهم من البركة والهدى والتوفيق والهداية بحرمان أنفسهم من تلاوة القرآن الكريم، قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]، وأذكر نفسي وهؤلاء بأنه لا يجب أن يشغلنا عن القرآن شيء مهما كانت مهامنا وانشغالاتنا، فقد ذكر الله في آخر سورة المزمل أكثر ما يشغل الإنسان وهو المرض والانشغال بالجهاد والقتال في سبيل والانشغال بالسعي وطلب الرزق، ثم أتبع ذلك بالأمر والوصية بقراءة القرآن وما تيسر منه والمحافظة على الأركان والواجبات، قال تعالى: (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل:20].

وأما الخطأ الثاني فهو على النقيض من الأول وهو القراءة السريعة بدون تدبر وتفكر وتفهم ووعي لما يقرأ، حيث يتسابق بعض الناس في رمضان في كثرة قراءة القرآن، وهذا أمر طيب، ولكن ربما غفل البعض عن مسألة مهمة، ألا وهي تدبر القرآن الكريم وتفهم آياته، فإن من أجل حكم إنزال القرآن الكريم التدبر فيه والتذكر والاتعاظ به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب﴾[سورة ص: 29].

قال “شيخ المفسرين” الإمام الطبري -رحمه الله-: “إنِّي لأعجب ممَّن قرأ القرآن، ولم يَعلم تفسيره كيف يتلذذ بقراءته؟!”.

ومذكرا نفسي وغيري بفضيلة التدبر والتفكر في القران وتطبيق السابقين لها، تأمل فيما يأتي.

إن ثواب القراءة بتدبر يفوق ثواب القراءة بدون تدبر أضعافا مضاعفا، قال ابن القيم -رحمه الله-: “إن ثواب قراءة التدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا، فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا، والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة”.
قال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرةً أو مرتين، فقال ابن عباس: (لأَنْ أقرأ سورةً واحدة بتدبر أحبُّ إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيها قلبك).
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (لا تهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة). ️والهذ: سرعة القراءة، والدقل: رديء التمر.
كان بعض السلف إذا قرأ آية لم يجد فيها قلبه، أعادها ثانية حتى يفقهها ويتدبرها.
قام الإمام أبو حنيفة الليل كله يردد هذه الآية {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: ٢٧] وهو يبكي، ويقول: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ يَا رَحِيم.

واستشعارا لتطبيق مبدأ تحقيق التدبر والخشوع في قراءة القرآن، تأمل معي هذه الأمثلة:

عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: “ما صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْح.. فسبح بحمد ربك واستغفرهُ}، إلا يقول فيها: ((سبحانَك ربَّنَا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)). متفق عليه.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم الليل كله بآية واحدة يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى في سورة المائدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، ويدعو ويبكي ويقول: يا ربّ أمتي أمتي.
أقام تميم الداري الليل كله وهو يردد قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وقام سعيد بن جبير الليل كله يردد هذه الآية طوال الليل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59].
وقام الإمام أبو حنيفة الليل كله يردد هذه الآية {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: ٢٧] وهو يبكي، ويقول: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ يَا رَحِيم.
وقال أبو سليمان الداراني: إني لأقيم في الآية الواحدة أربع ليال أو خمس ليال.
ويمكن للمسلم إذا أراد كثرة الأجر في القراءة، وتحقيق التدبر، أن يجمع بين الخيرين بأن يجعل له ختمة تدبر يسير فيها ببطء، وختمة أو ختمات بتلاوة سريعة، ليحوز الفضيلتين، كما ورد عن أحد السلف أنه قال: (لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد!).

الهمة الهمة في الإقبال على كتاب الله تلاوة ودراسة وتدبرا وتطبيقا، وخاصة في هذه الأيام المباركات، والحذر الحذر من هجره وتركه.

وعلى من ابتغى التدبر وفهم القرآن والانتفاع ببركته أن يستشعر أنه مخاطب بكل آية من آياته وأنها موجهة إليه، فإذا مر بآية تسبيح سبّح، وإذا مرّ بآية استغفار استغفر، وإذا مر بآية نعيم سأل الله الجنة، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله من النار، وهكذا يشعر بجمال وبركات وأنوار القرآن ويتفاعل معه،

ثم يحول كل ذلك إلى تطبيق وواقع عملي في حياته، قال الحسن البصري: (والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل).

فكم نحن بحاجة لإعادة النظر في علاقتنا مع القرآن، من حيث التلاوة ومعرفة المعاني والتفكر والتدبر والتأمل، ثم الانتفاع والتطبيق والعمل.

فالهمة الهمة في الإقبال على كتاب الله تلاوة ودراسة وتدبرا وتطبيقا، وخاصة في هذه الأيام المباركات، والحذر الحذر من هجره وتركه.

اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وذهاب أحزاننا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النار على الوجه الذي يرضيك عنا، واجعله شفيعا لنا في قبورنا، وحجة لنا لا علينا، اللهم فرّج به الهموم، واكشف الكروب، وغير به حالنا إلى أحسن حالٍ يرضيك يا أكرم الأكرمين، اللهم علمنا وفهمنا، واجعلنا من أهل القرآن العاملين به يا رب العالمين.

عبد الرحمن زكي حمد

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *