ثورة أهل الربص….صوت العوام

كان أهل الأندلس قد عاصروا عهدي عبد الرحمن الداخل وولده هشام وما كانا عليه من العدل والفضل فقد هالهم ما كان عليه ” الحكم بن هشام ” من التشبه بالظالمين خاصة أن الحكم قد تظاهر بشرب الخمر والإنهماك في اللذات وكان قرطبة حاضرة الخلافة دار علم وبها فضلاء في العلم والورع فثار أهلها على الحكم ورجموه بالحجارة عند خروجه للصلاة ولكنه امتنع بجنوده ثم سكن الأمر ثم اجتمع أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم المرواني وبايعوه وكان الحكم الذي عزلوه لفسقه وتظاهره بالفجور ولكن محمد بن القاسم يطلع الحكم على الأمر فأخذ الحكم وجهاء قرطبة وفقهاؤها وصلبهم جميعًا وكان تعدادهم اثنين وسبعين رجلًا وكان يومًا شنيعًا وتمكنت عداوة الناس للحكم .

وقعة الربض هي ثورة حدثت بقرطبة في 13 رمضان 202 هـ الموافق ل 25 مارس 818م قام بها أهل قرطبة، خاصتًا سكان حي الربض، ضد الحكم بن هشام. وقعت ثلاث حوادث متتالية أدت لاشتعال تلك الثورة، أولها زيادة الضرائب عليهم ثم قيام الحكم بقتل عشرة من رؤوس البلد وصلبهم منكوسين ثم قيام مملوك له بقتل أحد أهل المدينة لأنه طالبه بثمن صقل سيفه فهاج أهل قرطبة عند هذه الحادثة وكان أول من هاج منهم أهل منطقة الربض وكان معظم أهلها من الفقهاء.

أسباب ثورة الربض

تسبب قتل الحكم بن هشام لجماعة من أعيان قرطبة كره أهلها له، وفي عام 198 هـ، دبر مجموعة من فقهاء قرطبة منهم يحيى بن يحيى الليثي وعيسى بن ديناروطالوت بن عبد الجبار المعافريل خلع الحكم بن هشام، لما راوه منه من قسوة والخروج على أحكام الدين، وبذخ وشغف باللهو والشراب، وألبوا العامة ضده من على المنابر. رأى الفقهاء في أموي آخر يدعى محمد بن القاسم المرواني بديلًا يصلح للحكم.

خشى الرجل على نفسه عاقبة فشل المؤامرة، فأبلغ الحكم الذي قبض فقبض على بعضهم وفر البعض، وكان ممن فر يحيى بن يحيى وعيسى بن دينار. أمر الحكم بصلب اثنين وسبعين رجلًا منهم،مما أدخل البغضاء والرهبة إلى قلوب العامة، وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب إلى أن بلغ الأمر بالمحتجين أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان‏:‏ الصلاة يا مخمور الصلاة وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارها وحفر خنادقها وارتبط الخيل على بابه واستكثر المماليك ورتب جمعًا لا يفارقون باب قصره بالسلاح فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم‏.‏

ثم وضع عليهم ضريبة، وهي عشر الأطعمة كل سنة من غير حرص فكرهوا ذلك ثم عمد إلى عشرة من رؤساء قادتهم فقتلهم وصلبهم فهاج لذلك أهل الربض وانضاف إلى ذلك أن مملوكًا له سلم سيفًا إلى صقيل ليصقله فمطله فأخذ المملوك السيف فلم يزل يضرب الصقيل به إلى أن قتله وذلك في رمضان من هذه السنة‏.‏

اشتعال  الثورة

كان أول من شهر السلاح أهل الربض واجتمع أهل الربض جميعهم بالسلاح واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر وفرق الحكم الخيل والأسلحة وجعل أصحابه كتائب ووقع القتال بين الطائفتين فغلبهم أهل الربض وأحاطوا بقصره فنزل الحكم من أعلى القصر ولبس سلاحه وركب وحرض الناس فقاتلوا بين يديه قتالًا شديدًا‏.‏ ثم أمر ابن عمه عبيد الله فثلم في السور ثلمة وخرج منها ومعه قطعة من الجيش وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم ولم يعلموا بهم فأضرموا النار في الربض وانهزم أهله وقتلوا مقتلة عظيمة وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور فأسروهم فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم فقتلهم وصلبهم منكسين وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام‏.‏

ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث ولم يكن عنده من يوازيه في قربه فأشار عليه بالصفح عنهم والعفو وأشار غيره بالقتل فقبل قوله وأمر فنودي بالأمان على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيا وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم وما خف من أموالهم وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون ومن امتنع عليهم قتلوه‏.‏

نهاية المدة المحددة

لما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس وجمعهن إلى مكان وأمر بهدم الربض القبلي‏.‏ وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن شهام محبوسًا في حبس الدم بقرطبة في رجليه قيد ثقيل فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا له فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم وأطلقوه فخرج فقاتل قتالًا شديدًا لم يكن في الجيش مثله فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن فانتهى خبره إلى الحكم فأطلقه وأحسن إليه وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين‏.‏

ودي بالامان على اهل الربض شريطة ان يرحل المشتركون في الثورة عن قرطبة مع اهلهم وعيالهم. وقام الحكم بهدم الربض بأكمله وصيره على عظمه واصالة بنائه مزرعة. وتفرق اهل الربض في جميع أنحاء الاندلس، ومنهم من جاز المضيق إلى شمال أفريقية، فسكن عدد منهم في مدينة فاس. وسكن آخرون في مناطق أخرى. بينما استقل عدد كبير منهم البحر في مراكب اقلتهم إلى الإسكندرية، حيث أقاموا فيها، غير أن والى مصر عبد الله بن طاهر أجبرهم على الرحيل، فتوجهوا إلى جزيرة كريت وفتحوها سنة 212 هـ= 827م، وأسسوا بها دولة زاهرة، بقيت هناك إلى أن استولى عليها البيزنطيون سنة (350 هـ= 961م).

قابل الحكم هذه الثورة ببطش شديد، ندم عليه عند موته سنة 206 هـ ندما شديدا.

موقف العلماء من ثورة الربض

– رأى الفقهاء أن من كان في مثل حاله لا يصلح أن يحكم الناس، ولا يجوز أن يكون مثله سلطان المسلمين، وكان هذا رأي عالمين جليلين هما: (يحيى بن يحيى الليثي) ولد عام 152هـ وتوفي 234هـ،  سمع الموطأ من الإمام مالك، قال عنه ابن عبد البر: قدم يحيى بن يحيى الأندلس بعلم غزير فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار الفقيه عليه وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه، وكان فقيهًا حسن الرأي، ومن فتاواه: أن عبد الرحمن بن حكم صاحب الأندلس، نظر إلى جارية له في رمضان فلم يملك نفسه أن واقعها، ثم ندم وطلب الفقهاء، وسألهم عن توبته، فقال يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين فسكت العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه يخير بين العتق والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود، وكذلك كان رأي العلم الآخر.

– وهو (طالوت المعافري) فدعا العالمان إلى عزل هذا الخليفة الذي لا يصلح للحكم، مما جعل الناس ينتظرون فرصة مواتية للهياج والثورة.

هجرة أهل الربض من الأندلس

بعد القضاء على هذه الثورة أمر الحكم بإجلاء أهل الربض عن الأندلس كلها، وأمهلهم ثلاثة أيام من بقي منهم بالمدينة بعدها قتله وصلبه, فخرج أهل الربض وأغلبهم من الفقهاء والصالحين والوجهاء من الأندلس هائمين على وجوههم. فدخلت مجموعة منهم الإسكندرية ومكثت فيها فترة، لكن أهلها ضجوا منهم فأمر والي الإسكندرية عبد الله بن طاهر بإخراجهم منها أيضًا، فأين يذهبون؟ وأين يستقرون؟ ارتحلوا بما توفرت لهم من السفن ومخروا عباب البحر الأبيض المتوسط، حتى مرّوا بجزيرة فيها حامية بيزنطية قليلة هجموا عليها وفتحوها، وهي جزيرة كريت الحالية في بحر إيجة بـقبرص، وكان العرب يطلقون عليها اسم (إقريطش)، أسسوا الدولة الربضية المسلمة، وكان قائد الربضين هو عمرو بن عيسى البلوطي، استمرت هذه الدولة المسلمة مائة وخمسين عامًا إلى أن استردها البيزنطيون منهم.

ولم يمهل الله الحكم طويلًا حيث أخذته الأمراض والعلل، وندم على شدته مع أهل الربض، وتمنى لو أنه لم يفعل معهم ذلك، وندم حيث لا ينفع الندم.

انفراج المحنة بتولي عبد الرحمن الأوسط

بعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر )، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].

قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات… وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي r، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3]الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].

المراجع

البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب المؤلف أحمد بن محمد بن عذاري المراكشي أبو العباس. دار الثقافة، بيروت 1980م

نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب أحمد بن محمد المقري التلمساني 1388 – 1968  المجلد الأول والثالث. دار صادر، بيروت.

ابن القوطية, أبو بكر محمد بن عمر (1989). تاريخ افتتاح الأندلس. دار الكتاب المصري، القاهرة – دار الكتاب اللبناني، بيروت

شاهد أيضاً

الوضع في سوريا

كل ما يقوله مسترزقو اليوتيوب والشاشات عن تغييير كبير قادم لسورية، كذب، وكل من يقول أن التظاهر السلمي والحل السياسي والقرار ٢٢٤٥ سيسقط النظام، كذاب، أو على الأقل واهم وهماً كبيراً، للأسباب التالية :