عثمان بن أرطغرل.. أبو الملوك ومؤسس آخر الإمبراطوريات الإسلامية

أمين حبلا

عندما كانت سنابك خيل هولاكو تقتحم بغداد صباح الثامن من صفر عام 656 هـ، ناشرة الموت المتوحش في مدينة السلام، وحاضرة الخلافة الإسلامية؛ كانت صرخة ميلاد تستهل على ضفة أخرى من ضفاف الأيام، وتحديدا في مدينة سكود، فقد أصبح الطفل الصغير -بعد ذلك- أبا الملوك ومؤسس سلطان المجد التركي، وواضع الحجر الأساس لإحدى أضخم وأكبر الإمبراطوريات التي عرفها تاريخ المسلمين.

تعددت أسماء السلطان عثمان بن أرطغرل بن سليمان القايوي التركماني، وفق اللهجات التركية المتدرجة منذ قرون، لكنها جميعا متفقة على أن عثمان خان، أو غازي عثمان، أو عثمان بك أو قرة عثمان، أحد أعظم الأسماء التي أشرقت في سماء تركيا القديمة، وما زالت نبراسا يضيء تاريخ الإسلام في بلاد البوسفور.

فتوة عثمان.. نشأة في آخر أيام الدولة السلجوقية

في قبيلة قايي ولد عثمان لأبيه شيخ العشيرة المسلمة المعروفة بعمق تقاليدها الإسلامية، وروحها المتصوفة، وقتاليتها المتوقدة، فقد كانت هذه التربية راسخة تتبادلها أجيال قايي خلفا بعد سلف، وكان والده أرطغرل عاملا للسلاجقة الروم على بعض الحصون في بحر مرمرة، أما أمه حليمة خاتون، فلم تكن غير سيدة تركمانية مفعمة بالإيمان بدينها والولاء التام لزوجها ومجتمعها الضيق، وفق التقاليد التركمانية الأصيلة.

سرعان ما شب عثمان عن الطوق، وتولى زعامة القبيلة، ثم احتل منصب والده عاملا تابعا للسلطنة السلجوقية، وبدأ باسم السلطان السلجوقي في فتح الحصون المترامية على ساحل بحر مرمرة والبحر الأسود، مما منحه قوة وامتدادا كبيرا لسيطرة قبيلته، فأصبحت قبيلة فاتحة تبسط نفوذها على مناطق واسعة من الشواطئ التركية الحالية.

ولأن السلطنة السلجوقية كانت يومها في آخر رمق في الحكم، لم يجد المغول أي صعوبة في التهامها، لتلتحق بالأرض المحروقة التي عاثت فيها كتائب التتار في المشرق الإسلامي، فأعلن بعدها الأمير عثمان تنصيب نفسه أميرا لدولته المستقلة التي امتدت في آماد التاريخ لأكثر من ستة قرون، وتمددت في آفاق الجغرافيا لتجمع بين البلقان والمشرق العربي والإسلامي وشمال أفريقيا، جاعلة من تركيا الكبيرة مستقرا وحجر أساس للخلافة التي عرفت بالعثمانية نسبة إلى مؤسسها.

كانت مدينة بورصة آخر معقل يصل إليه الفتح العثماني (في عهد عثمان)، فقد استطاع ابنه أورخان تحطيم صمود هذه المدينة ذات الرمزية البالغة، فأشرعت أبوابها أمام العثمانيين سنة 1326م، وفي تلك السنة ذاتها، أخذ دبيب المرض ينهش في جسد عثمان الأول الذي لم يتعود حياة الترف، وعاش حياة فروسية ونسك ديني متواصل، قبل أن يسلم الروح إلى بارئها في العام نفسه، ليودع جثمانه بعد ذلك ثرى بورصة، فتحولت من ذلك اليوم إلى رمز بالغ الأهمية في تاريخ العثمانيين الذين واصلوا الفتوحات وتحطيم أبواب الدول المتحصنة.

عثمان بن أرطغرل الذي أخضع أباطرة أوروبا وأسس أكبر امبراطورية إسلامية في الأناضول وما حولها

وبين الميلاد والوفاة عاش عثمان قصة حياة مفعمة بالبطولة والتصوف والصراع، ولم يرد أحفاده وأتباعه من بعده أن تكون هذه الحياة عادية، فضمخوها بنكهات من القصص والحكايات والمرائي الغريبة التي جعلته إنسانا استثنائيا أرادت له الأقدار أن يكون نسيج وحدة.

ولأن تاريخ عثمان الأول قد كتب بعد قرن من رحيله على الأقل، وبأيدي مؤرخين من بلاط السلطنة، فقد تضاربت في بعض الأحيان المعلومات الأساسية حول نسبه، وحول محطات مهمة من حياته، ونستعرض بعضها استنادا إلى بعض المصادر من بينها ويكيبيديا ووكالة الأناضول وغيرهما.

“المؤسس عثمان”.. قبسات التاريخ في الكتب والدراما

يعتبر المسلسل الدرامي التاريخي التركي “المؤسس عثمان” استمرارا لسلسلة “قيامة أرطغرل”، ويعرض حكاية قبائل “قايي” وهجراتها، وصولا إلى تأسيس الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر، وهو أضخم عمل فني توثيقي مصور حتى الآن لحياة ومسيرة المؤسس عثمان.

وبالإضافة إلى ذلك، تناولت سيرة هذا البطل التاريخي كتب من أبرزها كتاب “دستان وتواريخ مُلوك آل عُثمان” لمؤلفه أحمد بن خِضر تاج الدين الشهير بلقب أحمدي، وكتاب “بهجة التواريخ” للمؤرخ التركي الشهير شكر الله بن الإمام شهاب الدين أحمد، ومن بين الكتب التي توسعت أيضا في تاريخ عثمان الأول والترجمة له كتاب “تاريخ آل عثمان” للمؤرخ الشهير درويش أحمد عاشق باشا، كما وردت تفاصيل متعددة عن حياة الرجل في كتاب يحمل نفس عنوان سابقه، للإمام أحمد بن سليمان بن كمال باشا الحنفي.

ويذكر هذا الكتاب أنَّ عُثمان كان آخر العنقود من أبناء أرطغرل، وأن ولادته كانت حدثا مهما في مضارب قبيلة قايي حيث ولد في ليلة قمراء مشعة الأنوار، وأنه تربى تربية الفرسان، فكان ماهرا في الرماية والمبارزة والصيد بالعقبان، زيادة على روح من التصوف تخلّق بها في فتوته، ورافقته حتى وفاته، فأسند ركبتيه للتعليم إلى ركبتي شيخه أديب علي، أو “إده بالي” كما في المصادر التركية، ثم تعززت العلاقة بينهما أكثر حينما زوج الشيخ إده بالي تلميذه عثمان ابنته، وذلك في آخر المطاف، بعد أن رفرفت في أرجاء الروح رؤيا غريبة، ألهمت الشيخ أن تلميذه سيكون مصدر قوة خارقة، وسيمتد نسله وحكمه إلى أرجاء واسعة من الدنيا.

صراع العرش.. سهام قاتلة وتغريب وتعيين سلطاني

تتعدد إلى حدّ التضارب المصادر التاريخية التي تتحدث عن نسب عثمان الأول، فيرى بعضهم أنه حفيد سليمان بن قُتلَمِش فاتح الأناضول والمؤسس الأول للدولة السلجوقية الشهيرة، بينما تذهب مصادر أخرى إلى أن عثمان الأول حفيد سليمان آخر، ليس إلا سَميا لمؤسس السلاجقة. وبغض النظر عن أرجحية أحد الاحتمالين، فقد كانت ورقة الإرث السلجوقي حاضرة بقوة في تأسيس السردية العثمانية التي قدمت سلاطينها على أنهم الخلفاء الشرعيون للسلاجقة.

لقد كان الغازي عثمان واعيا بالمتغيرات من حوله وبنقاط القوة والضعف التي عاشتها إمارة قبيلة قايي، وكانت خطواته الأولى خوض صراعات تنافسية مع عدد من الأمراء والزعماء من أقاربه، حتى أزاحهم من طريقه، وممن يذكر في هذا الصدد عمه الأمير دوندار غازي الذي كان مدعوما من شيوخ وأعيان القبيلة، بينما كان الشباب والفرسان والمحاربون قد انضووا منذ فترة تحت لواء عثمان الأول، وبدأوا تسيير حرب عصابات ضد الدولة البيزنطية، وتنهي هذه الرواية الصراع بسهم قاتل أطلقه عثمان، فاستقر في جسد عمه دوندار، ليخرج بذلك من منافسة دموية على عرش أرطغرل.

وتشير رواية أخرى إلى أن عثمان الأول خرج على سطوة وسلطان عمه الأصغر الأمير كندز ألب، وبدأ تسيير هجماته على البيزنطيين دون استئذان عمه زعيم القبيلة، وهو ما أثار غضب أمير بورصة تكفور، فاستنجد بالسلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الذي استجلب عثمان إلى قونيا، وكان هذا الإبعاد القسري لغازي عثمان عن مضارب قبيلته فرصة لتعزز علاقته بالسلطان الذي كان معجبا على ما يظهر بما وصل إليه من أخبار شجاعة ونجدة عثمان وهجماته المتكررة على حصون ومصالح البيزنطيين، ويظهر في تضاعيف هذه الرواية أن أحد العلماء وشيوخ التصوف كان له دور أساسي في مد خيوط العلاقة بين السلطان علاء الدين والغازي عثمان الذي عاد متوجا بقرار سلطاني أميرا لقبيلة قايي.

عشق ورؤيا.. قصة الحلم الذي أسس الشجرة العثمانية

يحيط العثمانيون دولتهم وتاريخهم بهالة روحية عظيمة، ويقدمون دائما لكل المراحل الفاصلة في عمرها روايات وأحداثا ومرائي موغلة في الرمزية، عازفة على خرق حجب الغيب، وإظهار الإسناد الإلهي الدائم لآل عثمان.

وتقول إحدى الروايات إن عثمان الذي كان يتعبد في مقام شيخه إده بالي قد تقسم قلبه بين حب التراتيل والأوراد، وبين عشق ابنة شيخه الفتاة مال خاتون، ولأن الشيخ لم يتأكد بعد من حيازة تلميذه للأسرار والقيم والوجدان الصوفي، فقد رفض تزويجها منه، ورغم أن التلميذ حينها (عثمان) لاذ بالصمت أمام رفض شيخه تزويج ابنته منه، فإنه واصل إصراره على أن تكون مال خاتون من نصيبه.

وفي مرحلة لاحقة سيتدخل الغيب عبر الرؤيا الشهيرة ليفتح قلب الشيخ لتلميذه؛ إذ تقول إحدى الروايات التي يكثر ورودها في كتب وأدبيات الدولة العثمانية إن الغازي عثمان رأى القمر بازغا من صدر شيخه، ثم استقر في السماء، وهبط نازلا حتى استقر في صدر التلميذ (عثمان)، فخرجت من صلبه شجرة ضخمة تمددت حتى غطت الأرض بظلها، وارتفعت تحت ظلها جبال ثلاثة، ثم تدفقت من تحتها الأنهار الأربعة، النيل ودجلة والفرات والدانوب، ثم ارتفعت أوراق هذه الشجرة العظيمة سيوفا ورماحا تميلها الرياح نحو القسطنطينية، وتحت أغصان الشجرة الضخمة، وقف غلمان شقر من النصارى يقرأون الشهادة ويعلنون الولاء للسلطان، وكانت صفوف البشر من وراء هؤلاء الغلمان ممتدة على كل فج وبساط، على شواطئ الأنهار، وبين المساقي والخلجان، يملؤون الأرض زراعة وصناعة وعملا وكدا، ويتكاثرون تحت ظلال الخيرات، دون أن يتوقف الغلمان الشقر عن الهيللة وإنشاد الولاء للسلطان.

وتشير مادة في وكالة الأناضول إلى أن البعض ينسب هذا الحلم إلى أرطغرل، لكن الصحيح الذي -حسب قولها- دلت عليه المراجع التاريخية أنه يرجع إلى عثمان.

والواقع أن الشيخ إده بالي الذي كان بمثابة القيادة الروحية للدولة، تفاءل بهذه الرؤيا وعبرها لعثمان بأن نسله سيملكون الأرض، ثم تحطمت تحت بريق الرؤيا ممانعته من تزويج ابنته للغازي عثمان بعد أن مد بين يديه بساط النصح، وقدم له ما ينبغي أن يكون له الحاكم الصالح والأمير العادل.

حصار بورصة.. خصال القائد الذي شتت الجيوش البيزنطية

توقف المؤرخون عند كثير من الصفات والخصال التي تميز بها الغازي عثمان، ومن أبرز تلك الخصال التي ذكرها المؤرخون والمؤلفون عنه:

– الشجاعة والنجدة: فقد خاض حروبا شرسة في بداية حكمه تدل على عمق شجاعته وترسخ نجدته وإبائه، عندما شتت الجيوش البيزنطية المتحالفة من أجل وأد دولته الناشئة، ليتحول من هدف مطلوب إلى قائد يضرب به الأوروبيون المثل في الصمود والشجاعة.

– التدرج والحكمة: استطاع عثمان الأول بحكمته وحنكته أن يستوعب عددا من أمراء وفرسان قبيلته، ويحيد خصومه وأعداءه، كما أدار علاقة مرنة وخاصة مع السلطان السلجوقي، ليحققا معا انتصارات نوعية على البيزنطيين مكنتهما من انتزاع حصون مهمة من الدولة البيزنطية.

– الولاء للمبدأ: كان الولاء للمبدأ الإسلامي والإخلاص للعقيدة، وعمق الانتماء إلى روح قبيلة قايي وقيمها الإنسانية العميقة، عنصرا مهّد لسلطة عثمان في النفوس والأفئدة ووجدان الرأي العام في محيطه ومنطقته، وفتح له أبواب القلوب قبل الحصون، وقد التحقت بعثمان مجموعات من المجاهدين على المناطق الحدودية مع الروم، ومن القوى الصوفية التي كانت ناشطة في تلك الفترة، لما رأوا فيه من إباء وإصرار ووفاء للإسلام.

– الصبر وطول المراس: سلخ عثمان الأول عشر سنوات من عمره في حصار مدينة بورصة ذات الأهمية السياسية والإستراتيجية الكبيرة، وظل جنده يحاصرونها ويرابطون على أسوارها حتى جاءته البشرى بفتحها وانهيار صمودها وانكسار حاميتها وهو على سرير الموت، فدخلها ابنه أورخان فاتحا ونقل جثمان والده ليدفن في المدينة التي حاصرها عشر سنين.

وبوفاة عثمان بن أرطغرل سنة 1326م اختتم السلطان الغازي مسيرة حياته التي استمرت نحو سبعة عقود، بعد أن قضى مرض النقرس على أوصاله التي تعودت حمل السلاح والقتال والفروسية والصبر على صعوبات التنسك والعبادة، فرحل بعد وضع حجر الأساس لأقوى وأهم دولة إسلامية امتدت كشجرة وارفة على فجاج واسعة من الأرض وآماد خالدة من الزمان، وقيم وتقاليد حكم ما زالت في كثير من تفاصيلها نموذجا للحكم العظيم.

شاهد أيضاً

300 ألف نازح من رفح وإسرائيل تواصل الغارات على جباليا

استشهد وأصيب عدد من الفلسطينيين في سلسلة غارات شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية مساء السبت وفجر اليوم الأحد على مناطق سكنية شمالي قطاع غزة،