الحكمة من خلق إبليس ووجود الشرور في الكون

د. علي الصلابي

لله في خلقه حكم وآيات وعِبر، فهو الخالق والمصور والكامل، وهو القادر على كل شيء، وحكمته في خلق إبليس وخلق الشرور والآثام في هذا الكون لها آيات ودروس كثيرة، فظهور قدرة الله على وجود المتباينات والمتضادات، وخلق إبليس والشياطين في مقابل خلق الملائكة والنبيين والصالحين اختبار للخلق -أشقياء أم سعداء- وإظهار لعظمة الخالق وقدرته، وفي هذه المقالة سنتناول تلك الحِكم، ومنها:

أن يكمل الله -عز وجل- لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة الشيطان وحزبه ومخالفته ومراغمته وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به سبحانه من الشيطان، والإلجاء إليه سبحانه أن يعيذهم من شر الشيطان وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يمكن أن يحصل لهم بدون خلق الله له.
خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم، بعدما شاهدوا من حال إبليس، وكيف طرد من رحمة الله تعالى لذنبه؟ فكيف يأمن المقربون بعد ذلك؟ وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس بذنب كيف يعجب بعد ذلك عالم بعلمه؟
فستظل هذه العبودية ملازمة للملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصادقين لخوفهم من رب العالمين، لأنه طرد إبليس من رحمته بذنب وقع فيه، فالملائكة المقربون إذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا الله في أمر، كما قال الله -عز وجل- في شأنهم: “لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التحريم: 6).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أطَّت السماء وحق لها أن تَئط ما فيها من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله”، وهذا جبريل رآه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- “كالحلس البالي” من شدة خوفه من الكبير المتعال، وهو أمين وحي السماء، وهكذا. (الألباني، 1995، رقم 1722)

فالملائكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفا ووجلاً، فكيف تُستخرج العبودية إلا بمثل هذا الابتلاء والتمحيص؟

والأنبياء والمرسلون -وهم أعرف الناس بالله- ازدادوا خوفا ووجلاً من رب العالمين.

والمؤمنون الصادقون لا يغتر واحد منه بعلمه ولا بعمله، بل يظل دائما على خوف ووجل، لأنه لا يأمن من مكر الله (ابن القيم، 1978، 511-520)

قال تعالى: “فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ” (الأعراف: 99)

أن الله تبارك وتعالى جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر على طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر آدم -عليه السلام- عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل إبليس عبرة لمن أصر، وأقام على الذنب، وجعل آدم عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه، فلله في هذا من الحكم الباهرة والآيات الظاهر؟!
أن الله تبارك وتعالى قد جعل إبليس محكَّا يمتحن به خلقه، ليتبين به خبيثهم وطيبهم، والله سبحانه وتعالى لا يبتلي خلقه وعباده ليعلم الخبيث من الطيب، فالله علم الخبيث والطيب أزلا قبل أن يخلق الخبثاء والطيبين، ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف، ويجازي العباد وفق أعمالهم، لا بمقتضى علمه فيهم. (حسان، 2005، ص 158) قال تعالى: “مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ” (آل عمران: 179) .
وقال تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ” (آل عمران: 142). وقال تبارك وتعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ” (البقرة: 214). وقال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت: 2 ـ 3).

أن يُظهر الله -عز وجل- كمال قدرته لخلقه، فالله عز وجل خلق جبريل وجعله رسولاً للأنبياء، فهو أمين وحي السماء الذي به حياة الأرواح، وخلق ميكائيل، وجعله على الأرزاق والأمطار التي بها حياة الأبدان، وخلق إسرافيل ووكله بالصور الذي ينفخ فيه بأمر الله، لتحيا الأبدان مرة أخرى، ففيه حياة الأبدان بعد إماتة الله لها يوم القيامة، وخلق سائر الملائكة، وخلق إبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث، والضد إنما يظهر جنسه بضده، فلولا القبيح لم نعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم نعرف قدر الغنى، وخلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر البشر من أب وأم، لنعلم أن الله على كل شيء قدير، إن شاء أن يخلق بغير أب وبغير أم خلق، وإن شاء أن يخلق من أب وأم خلق، فالله سبحانه وتعالى يخلق الأضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن يحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله. سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله، فما من شيء في الكون صغر أو كبر علمناه أو جهلناه، رأيناه أم غاب عنا إلا وهو مخلوق لله بعدله وحكمه. (حسان، 2005، ص159)
أن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا إلى غير ذلك من هذه المعاني هي أحب العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية لا تتحقق إلا بالجهاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله، لو لم يخلق الله عز وجل إبليس، فكيف تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟
أن من أسماء الله الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي يليق به، فاقتضت حكمته خلق المتضادات، وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص. (حسان، 2005، ص161)
أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه ملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كماله عليه الحمد التام، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعمة السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من تحيط بكمال الله وحكمته في خلقه لكل شيء، (ابن القيم، 1978، ص239). فإن كان الله تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفنا على بعضها، فلا شك أن خلق الله لغير إبليس -وهو رأس الشر- لحكم كثيرة من باب أولى، فالله تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إلا على بعض الحكم. (حسان، 2005، ص 162)
ويكفي العاقل أن يعلم أن الله -عز وجل- عليم وحكيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن الله في قدره سرا مصونا وعلما، مخزونا احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته وإنما يصل أهل العلم به وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكرها، وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم.

ملاحظة مهمة: استند هذا المقال بشكل كبير في مادته المرجعية على كتاب “الإيمان بالقضاء والقدر” للكاتب محمد حسان.
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، سلسلة أركان الإيمان، الإيمان بالقدر، دار المعرفة، بيروت، 1432هـ-2011 صص330-335
ناصر الدين الألباني، السلسلة الصحيحة، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، 1415هـ – 1995.
محمد حسان، الإيمان بالقضاء والقدر، القمة للإنتاج والتوزيع الإسلامي، القاهرة، 1425هـ-2005.
ابن القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، دار المعرفة، بيروت، 1398هـ-1978.
د. علي الصلابي
د. علي الصلابي
مؤرخ، فقيه، ومفكر سياسي ليبي

شاهد أيضاً

الوضع في سوريا

كل ما يقوله مسترزقو اليوتيوب والشاشات عن تغييير كبير قادم لسورية، كذب، وكل من يقول أن التظاهر السلمي والحل السياسي والقرار ٢٢٤٥ سيسقط النظام، كذاب، أو على الأقل واهم وهماً كبيراً، للأسباب التالية :