منطق (عدلناك، قومناك) ودع المناقب جانبا…

هناك إشارة مهمة قد نغفل عنها عند قراءة بعض مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو ابي بكر الصديق رضي الله عنه المتعلقة بالحكم، كما قال سيدنا الصديق في خطبة توليته: وليت عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. (عيون الأخبار)

وما أخرجه الإمام ابن المبارك في الزهد فقال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن موسى بن أبي عيسى قال: أتى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مشربة ابن حارثة فوجد محمد بن مسلمة فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ فقال: أراك والله كما أحب، وكما يُحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عادلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: هاه، فقال: ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني.

وقال الإمام البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة بشير بن سعد الأنصاري والد النعمان: قال لي عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن النعمان بن بشير، أن أباه أخبره، أن عمر قال يوما في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فعاد مرتين، أو ثلاثا، قال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح، قال عمر: أنتم إذن أنتم.

لا شك بأن ابرز ما يفهم من هذين الموقفين هو محاسبة الحاكم ومراقبته، وقبوله هو لتلك المراقبة، كل ذلك وفق القانون والدستور، إلا أن هناك إشارة مهمة قد تغيب او يُغفل عنها، وهي أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال (وليت عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني) نسي تعمدا أنه أبو بكر وطرح مكانه ومكانته ومناقبه والثناء عليه وتبشيره بالجنة، وما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضرته وغيبته، كل ذلك طرحه جانبا، وتعامل كموظف ومسؤول أمامه مهمة ينبغي ان يجتهد في القيام بها، ويعلم بأنه مراقب محاسب، لا تشفع له مكانته ولا سيرته..
هذه إشارة وصورة من جهة الحاكم او المتولي للمسؤولية..

في القصة الثانية والثالثة وبينهما تشابه:

في الثانية قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه وهو مستشار عمر رضي الله عنه الخاص ( ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف )

وفي الثالثة قال بشير بن سعد ممثلا عموم المهاجرين والأنصار ، اي عموم الشعب (لو فعلت قومناك تقويم القدح) والدليل على أنه ليس قولا خاصا به بل قاله عن الجماعة ممثلا لهم، قول عمر: أنتم إذن أنتم.

هنا يرد تساؤل: هل غاب عن محمد بن مسلمة وعموم المهاجرين والانصار، سيرة عمر وفضله ومنقبته وصلاحه وثناء النبي صلى الله عليه وسلم له، وصلاحه وتقواه وتبشيره بالجنة، وإسلاميته ؟؟

الجواب: لا يمكن ذلك فما ولوه إلا لصلاحه في نفسه وأهليته لتلك المسؤولية، ولكن هنا تظهر تلك الإشارة، وذلك المفهوم واضحا جليا، وهو أنهم بعد التولية والأهلية، يضعون كل ذلك جانبا، ويحتكمون إلى البرنامج والدستور، ولم يقل أحد منهم: ايقال هذا لعمر! وما ادراك ما عمر!

لا وألف لا بل كان الحكم والفيصل هو العقدة التي بين الحاكم والمحكوم، وباسلوب معاصر، البرنامج الانتخابي والدستور المحتكم إليه، وجاءت عبارتهم واضحة صريحة ( عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف) والثقاف اداة من خشب او حديد تقوم بها الرماح والسهام وقالوا (لو ملت لقومناك بالسيف) وقالوا ( قومناك تقويم القدح ) كلها عبارات صريحة واضحة في المراقبة والمحاسبة مع تناسي المكانة والفضائل والمناقب وهم يحدثون رمزا ومن رموز العدل..
فالميثاق والميزان في البرنامج الانتخابي ومدى احترام القانون والدستور..

والعجيب في الأمر قبول عمر رضي الله عنه لهذه الصراحة بل يظهر وكأنه كان يستنطقها ويبحث عنها، فقال للأول ( الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني).
وقال لعموم الشعب أو للممثلين للشعب (انتم إذن أنتم)
فهو منطق متعارف عليه بين الحاكم والمحكوم والمسؤول والسائل والراعي والرعية والمنتخَب والمنتخِب والرئيس والمرؤوس.. (النظر في الصلاح والأهلية عند التولية والتحاكم للبرنامج والدستور بعد التولية، وترك الانتماء والمناقب والفضائل والتاريخ والسيرة جانبا) …

هذا المنطق هو منطق القرآن ( إن خير من استأجرت القوي الأمين)

هذا المنطق تعلمه هؤلاء في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسية…

بهذا المنطق يغيب أي تمييز آخر أو تفضيل او ازدواجية سواء كان مصدرها ومبعثها عرقيا او انتمائيا او طائفيا او مذهبيا…

هذا المنطق لا يعني دوس المناقب والفضائل والتاريخ والسيرة، ولكن لا ينبغي ان يكون ذلك مطية لازدواجية او شماعة لتغطية فساد، او عذرا لاستمرار استبداد…

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

300 ألف نازح من رفح وإسرائيل تواصل الغارات على جباليا

استشهد وأصيب عدد من الفلسطينيين في سلسلة غارات شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية مساء السبت وفجر اليوم الأحد على مناطق سكنية شمالي قطاع غزة،