فقه الاختلاف

بقلم أدهم الشرقاوي

أورد الذهبيّ في رائعته سير أعلام النبلاء، أنَّ يونس الصدفيّ قال: ما رأيتُ أعقل من الشافعيّ، ناظرته يومًا في مسألة فلم نتفق، فلقيني بعدها وأخذ بيدي، وقال: يا أبا موسى أما يستقيم أن نكون إخوانًا وإن اختلفنا في مسألة!

من الواضح أن نقاش الشافعيّ ويونس الصدفيّ لم يكن حول صحة النصِّ الذي تناقشا فيه من عدمها، وإنما حول فهم الحكم من النص، فالشاك في صحة النص لا يُعمل عقله في استنباط الحكم منه أساسًا، ولكن بما أن الرجلين اختلفا في فهمه فهذا يعني بالضرورة أنهما اتفقا في إثباته!

وبما أن عقول الرجال تتفاوت، وطرقهم في الاستدلال تختلف كان من الطبيعيّ أن تختلف الأحكام المستنبطة منه، وليس أدلّ على هذا من اختلاف الأحكام المستنبطة من آي القرآن، فالقرآن قطعي الثبوت، ولا يقول بخلاف هذا مسلم، ومع هذا نجد اختلافًا واضحًا في الأحكام الفقهية المستقاة منه.

ومخطئ من يعتقد أن الاختلاف في فهم النص الديني جاء في مرحلة متأخرة، فالحقيقة أن الصحابة عرفوا هذا مبكرًا، وتفاوتت أحكامهم تفاوتًا ملحوظًا، وليس أدلّ على هذا من حديث الإمام مالك حول سبب تسمية كتابه بالموطأ، فهو يذكر أن سبب تسميته لكتابه بهذا الاسم: أن أبا جعفر المنصور لقيه في الحج، فقال له: يا مالك وطّئ للناس كتابًا تتجنّب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود… فكان الموطأ!

إذًا الاختلاف ينقسمُ إلى قسمين: اختلاف في الدين واختلاف في الدنيا، والاختلاف في الدين أعني به الاختلاف في الفقه، وأي تعامل معه يخرج عن سماحة الشافعيّ مع يونس الصدفي هو تشدد مذموم في غير موضعه، لأن اختلاف الأفهام في استنباط الأحكام أوجد سعة للناس، وكفاهم مؤونة أن تتشابه طرقهم وقد اختلفت ظروفهم! وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما سرّني لو أن الصحابة اتفقوا فيما اختلفوا فيه، فقد كان في خلافهم في الفقه رحمة للناس، ناهيك أنّ خلافات كثيرة يشتد فيها الصراع وهي حول مسائل لا طائل منها فلا يترتب عليها عمل، ولا ترتبط بعقيدة.

وقد شهدتُ بنفسي نقاشًا حادًّا بين صديقين حول ما إذا كانت الأرض كلها قد غرقت في طوفان نوح، أم المنطقة التي سكنها قومه فقط، ولا أدري حتى اللحظة ما الذي يزيد أو ينقص في إيمان المرء من معرفة هذه الجزئيّة، أو ما الذي يزيد في المغزى الذي من أجله أُوردت هذه القصة! ذكرني هذا النقاش بالرجل الذي جاء إلى الشعبيّ يسأله: ما اسم زوجة إبليس؟ فقال له الشعبيّ: ذاك زواج ما شهدناه!

أما النوع الثاني من الاختلاف فهو اختلاف في الدنيا، وقد خلقنا الله شعوبًا وقبائل، لكل شعب وقبيلة منظومة قيم ومبادئ وعادات وتقاليد، ليس المطلوب منا أن نتبع الآخرين في قيمهم ومبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم، على العكس تمامًا، على الإنسان أن يتمسك بهويته الثقافية ما دام يراها صحيحة ولكن عليه بالمقابل أن لا يتصرف مع الناس صانعًا من نفسه مقياس ريختر، ما وافقه كان صحيحًا وما خالفه كان خاطئًا، فسمة هذا الكون التنوع، ولو تشابه الناس في كل شيء لصار هذا الكوكب مملاً، فأحيانًا الاختلاف هو ما يعطي للأشياء قيمتها، فلا يكن أحدنا مثل “بروكوست”!

وبروكوست هذا بطل أسطورة إغريقية طريفة حول الاختلاف. تقول الأسطورة إن بروكوست كان حدادًا يدعو الزوار للمبيت عنده، وكان من كرمه ينزل للضيف عن سريره، ثم بعد هذا إذا وجد أن الضيف أطول من السرير قصّ ما زاد من قدميه ليجعله على مقاس سريره. وإذا وجد أنّ الضيف أقصر من سريره بدأ يشدّه محاولاً جعله على مقاس السرير وهكذا حتى تنخلع قدما! ولو تأملنا في الحياة من حولنا لوجدنا بيننا الكثيرين من أمثال بروكوست، لن يرضيه إلا أن تكون نسخة عنه، عليك أن تقرأ ما يقرأ، وتحب ما يأكل، وتستعذب ما يشرب، وتستمتع بما يفعل.

هذا الكوكب فندق كبير لسنا نزلاءه الوحيدين، هناك آخرون يقطنون معنا فيه، ومن حقهم أن يعيشوا حياتهم بالطريقة التي يريدون، ما داموا لا يسببون لنا أذية، وتذكروا دومًا أن الجميع في الوفاق نبلاء، ولكن النبلاء الحقيقيين يظهرون في الخصومات! وأنّ الذين لا يعرفون كيف يختلفون لا يعرفون كيف يتّفقون!

شاهد أيضاً

الوضع في سوريا

كل ما يقوله مسترزقو اليوتيوب والشاشات عن تغييير كبير قادم لسورية، كذب، وكل من يقول أن التظاهر السلمي والحل السياسي والقرار ٢٢٤٥ سيسقط النظام، كذاب، أو على الأقل واهم وهماً كبيراً، للأسباب التالية :