حتى لا تغرق السفينة

لو رأيت قارباً بحرياً صغيراً يزدحم الناس على الركوب فيه ، وصاحب القارب يرحّب بهم جميعاً ويريد أن يحملهم معه دفعة واحدة. فسيغلب على ظنك أنّ رحلته لن تنتهي بسلام ولن يصل إلى برّ الأمان ولربما يغرق القارب في عرض البحر، إذ كيف لقارب صغير كهذا أن يحمل هذه الأعداد الكبيرة من الناس دفعة واحدة ؟!

هنا سيأتي دورك لتنصح صاحب القارب وتقول له: يا أيّها الربان، إن قاربك لا يتسع لكل هذه الأعداد المزدحمة من الناس، فاحمل طائفة منهم وأوصلهم إلى بغيتهم ثم عد فخذ طائفة أخرى، واستمر على هذا حتى ينتهي الزحام، هكذا تحافظ على مركبك وسلامة الرحلة وأوصلت كل زائر إلى محلّه آمنا مطمئناً.

قال الربّان: إن أخذت بنصيحتك وحملت طائفة منهم أخشى أن ينفضّ الباقون فلا أعود من رحلتي الأولى إلا وقد ذهبوا إلى زورق آخر.

هنا ستقول له: لا ضير، أن تحمل طائفة وتوصلها بسلام وتأخذ أجرتك منهم خير من أن تحملهم جميعاً فينكسر بك مركبك ويضيع جهدك، فلا أنت أخذت أجرك ولا أنت حافظت على قاربك، وعرّضت الرّكّاب للمخاطر والمهالك!

هنا الربّان -إن كان عاقلاً- سيوافقك الرأي، فإن هذا هو مقتضى الحكمة، لكن ربما يوجّه إليك سؤالاً نبيهاً: برأيك أيها الناصح، أي طائفة أحملها معي ابتداء ؟!

فأجبه بلا تردد: احمل أكثرهم نفعاً وصلاحاً لك بحيث تكون الغنيمة كبيرة والفائدة المرجوّة عظيمة، فلو عدت مرة أخرى لتأخذ غيرهم فلم تجدهم لن تأسف كثيراً فقد نلت أجراً كبيراً يشبع نهمك ويلبّي حاجتك ..

اقتنع صاحبنا الربّان وبدأ مسيره بهدوء يحمل أنفع طائفة له ثم يعود فيأخذ التي تليها، نعم لربما لم يستطع أن يحمل جميع الرّكاب لكنّه عاد مسروراً في نهاية اليوم فقد حصّل بغيته من دون أن يتضرر أو يخسر مركبه.

هذه القصة هي رسالة أبعثها إليك يا طالب العلم ..فإن حالك وأنت تريد الالتحاق بجميع البرامج العلمية المزدحمة على عقلك كحال هذا الربّان الذي يملك قارباً صغيراً ويريد أن يحملهم جميعاً دفعة واحدة.

اعلم – رعاك الله – أنك إن ابتغيت حمل كلّ هذه البرامج العلمية دفعة واحدة فلن تصل إلى مقصودك وأكللت عقلت وأتعبت جسدك ، فلا العلم نلت ولربما لم تعد بالسلامة بل ملأت قلبك بالشبهات وجالت في ذهنك خواطر مفسدات لا تعرف من أين أتت وكيف دخلت في خضمّ الزحام ؟!

إنّ طالب العلم النبيه هو الذي يحسن ترتيب أولوياته واهتماماته، فلا يأخذ من هذه البرامج إلا أنفعها له وأصلحها لنفسه وعقله وأكثرها غنيمة.

وقد كنت بينت في مجلس سابق ما هي معايير البرنامج العلمي المتكامل لطالب العلم وكيف يختار الطالب الأنفع والأصلح له من هذه البرامج فيبتدئ به ثم يعود فينتقل إلى غيره، ولو عاد فلم يجده فلن يأسف لأنه نال من البرنامج الأول غنيمة كبيرة تساعده على إكمال المسير وحده في قابل الأيام.

يا طالب العلم .. عقلك وجسدك لا يتّسعان لكل البرامج والمشاريع!

فاسمع النصيحة كما سمعها الربّان، وإياك والفوضى العلمية، ومكابرة النفس، وإضاعة العمر، وتشتيت الذهن، حتى لا تعضّ أصابع الندم، ولات ساعة مندم ..

رعاك الله، وسددك لكلّ خير.

شاهد أيضاً

300 ألف نازح من رفح وإسرائيل تواصل الغارات على جباليا

استشهد وأصيب عدد من الفلسطينيين في سلسلة غارات شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية مساء السبت وفجر اليوم الأحد على مناطق سكنية شمالي قطاع غزة،