حتى الحمام والقطط تجد رزقها في فجر الأقصى

“السلام عليكم أيها الحمام، إني أطعمكم لوجه الله لا أريد منكم جزاء ولا شكورا”، يتمتم الستيني سعيد مسك “أبوأشرف” بهذه الكلمات ويبدأ نثر حبات القمح في أماكن متفرقة داخل المسجد الأقصى على امتداد طريقه نحو المصلى القبلي لأداء صلاة الفجر، ينثر ويدعو الله بأمنيات أسرّها في نفسه، ويجهر قائلا “صحة وعافية على قلبك أيها الحمام”.

رافقت الجزيرة نت مسك في مهمته التي يداوم عليها منذ 17 عاما، حيث يأتي يوميا من بلدة بيت صفافا جنوب القدس المحتلة حاملا معه سبعة كيلوغرامات من القمح وخلطة طعام خاصة بالحمام، ويوميا أيضا تستوقفه شرطة الاحتلال المتمركزة عند باب حطة -أحد أبواب المسجد- لسؤاله عن محتوى كيسه وتفتيشه، على الرغم من معرفتهم به وبما يحمله.

بعد بضع خطوات بعد باب حطة يقف أبو أشرف لينثر القمح عن يمينه في محطات محددة، يقول إن الحمام ألِفها كما ألفه وألف صوته، ثم يكمل طريقه جنوبا نحو المصلى، حيث لا صوت إلا تسبيحات المصلين وسلامهم عليه وابتهالات وتلاوة القرآن التي تُذاع قبل أذان الفجر عبر مكبّرات الصوت، حتى تملأ أرجاء المسجد
خدمة عُمّار الأقصى

قبل 17 عاما، لقيّ أبو أشرف مسنا يطعم الحمام، وطلب أن يساعده، وأحب الأمر وقرر الاستمرار فيه “عن روح والديّ وعموم المسلمين”. ويضيف “قررت أن أترك بصمة في الأقصى، وأعتز ببصمتي هذه في إطعام الحمام، كأن الله سخرني له. حمام الأقصى مختلف، فيه خير وبركة وسلام، وأحب أن أخدمه لأنه يعمر بيت الله، وأوصي أولادي أن يطعموه من بعدي”.

وعن اختياره لوقت الفجر، قال إن الحمام لا يهبط لأكل القمح إلا بعد شروق الشمس، ثم يطير سريعا بعد اكتفائه حتى لا تُرى حمامة واحدة بعد السابعة صباحا، فيقوم هو بتحضير طعامه قبل الفجر، ناظرا إلى أسرابه التي وقفت على أطراف قبة الصخرة تنظر من بعيد إليه وتتابعه حتى يغادر بعد صلاة الفجر قبل فلق الصبح.
وما إن تنتهي الصلاة وتبدأ الشمس بالبزوغ وتتسلل خيوطها الأولى، حتى يهبط الحمام جماعات لنقر حبات القمح من على أرض المسجد العتيقة. يرفرف بأجنحته ويطير على علو منخفض ومن ثم يعود مجتمعا ليأكل مرة أخرى، يغدو إلى الأقصى خماصا ويروح بطانا في مشهد فريد لا يزاحمه فيه بشر.

“نقانق” لقطط الأقصى
كما أُلهم أبو أشرف قبل 17 عاما، ألهَم هو غيره لكن بأسلوب آخر. يقول نضال أبو نجمة (51 عاما) للجزيرة نت وهو يضرب كفيّه ببعضهما لتنظيفهما “أحببت فعل سعيد مسك، فأردت الاقتداء به، لكنني لم أشأ الدخول على خطه -خط إطعام الحمام- فقررت إطعام قطط الأقصى”.
يأتي أبو نجمة يوميا منذ ثلاث سنوات قبيل الفجر إلى المسجد الأقصى للصلاة وإطعام القطط. يغلي قطع اللحم المُبهّر (النقانق) ويتوجه من بيته في مخيم شعفاط شرق القدس المحتلة إلى الأقصى الذي يفصل بينهما حاجز عسكري إسرائيلي، يؤخر أحيانا أبو نجمة على الصلاة وعلى قططه؛ بسبب تضييق جنود الاحتلال عليه.
ما إن يصعد أبو نجمة سيارته نحو باب الأسباط -أحد أبواب سور القدس- حتى تهرع إليه القطط قبل أن يركنها ويترجل منها. يقول إن القطط تعرفه جيدا وتنتظره، يطعمها على أبواب الأقصى وداخله، وصولا إلى سبيل الكأس قبالة المصلى القبلي، دقائق سريعة وينتهي، ويلتفت نحو المصلى لأداء سنة الفجر القبلية قبل إقامة الصلاة
رهط الفجر
بعد الصلاة يحمل سعيد مسك بقايا القمح التي خبأها في كيسه ليشارك ثمانية رهط ينتظرونه قرب مصطبة الكأس لمساعدته في نثر القمح. يصعدون درج البائكة الجنوبية الشرقية باتجاه صحن قبة الصخرة، يقفون أمام باب الجنة -باب قبة الصخرة الشمالي- ويتناوبون على نثر القمح، يغترف كل منهم غرفة بيده داعيا مع كل نثرة.
يقول أحمد برقان (77عاما) للجزيرة نت مستذكرا ما حدث قبل أكثر من عشرة أعوام “كنت خارجا من صلاة الفجر في الأقصى وقد أهمّني مرض أصابني، لقيت مسك وهو ينثر القمح فدعاني لمشاركته ودعاء الله لكشف المرض. شاركته وزال مرضي فعلا، وداومت في ذلك حتى اليوم”.
ويقول طبيب الأسنان إياس ناطور (50عاما) بعد نثره القمح مستقبلا جهة القبلة “هذا فعل بسيط ولعله عند الله عظيما”، وأضاف “صلاة الفجر جماعة أجرها عظيم، فما بالكم بصلاة في المسجد الأقصى وأعمال صالحة فيه، إطعام الحمام يدخل الفرحة على قلبي”.
تختلف طرق نثر القمح لديهم، فأبو أشرف يرميه رميا على دفعات كبيرة، أما خالد ناصر الدين (58 عاما) فيغلق على القمح بين كفيه ويفركهما ببطء حتى يتسرب منهما رويدا رويدا، سألناه عن السبب فقال “آخذ كمية محددة وأقسمها لأجزاء، وأدعو مع كل جزء بدعوة على الترتيب؛ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولنفسي ولوالديّ ولأموات المسلمين وذرياتهم وللمرضى والأسرى، كل قمحة بدعوة”.
يُبدي الرهط امتنانهم لله أولا ولمبادرة أبو أشرف الذي كان مدربا لرياضة الملاكمة، يقول أحدهم مازحا “أبو أشرف بطل فلسطين في الملاكمة ما بنقدر نلوي معه”، ينهي جملته ويضحك الجميع!

شاهد أيضاً

الوضع في سوريا

كل ما يقوله مسترزقو اليوتيوب والشاشات عن تغييير كبير قادم لسورية، كذب، وكل من يقول أن التظاهر السلمي والحل السياسي والقرار ٢٢٤٥ سيسقط النظام، كذاب، أو على الأقل واهم وهماً كبيراً، للأسباب التالية :