لكي لا تنقلب برامج التواصل إلى أدوات للتقاطع

بقلم : د. محمد عياش الكبيسي

إذا كان السفر في السابق يسفر عن أخلاق الرجال، فبرامج التواصل الإلكتروني هي التي تسفر اليوم عن هذه الأخلاق أكثر من السفر وغير السفر! بهذه الكلمات عبّر أحد الأصدقاء الأفاضل وهو من أصحاب المجالس العامرة والمقصودة عن شكواه ومعاناته من برامج التواصل، يقول: إن كثيرا من وقته يذهب في مسح الرسائل وتنظيف هاتفه المحمول من مئات الصور والتسجيلات التي تنهال عليه كل يوم. تفاعل الناس معه كان لافتا وكأنه لامس جرحا مختزنا، قال أحدهم: بعث إلينا أحد الأصدقاء أكثر من ثلاثين رسالة جملة واحدة، فقام صديق ثانٍ فأرسل أكثر من أربعين رسالة، وكأنّهما في مباراة، ويقول: أنا أشك أن أي واحد منهما قد قرأ هذه الرسائل خاصة أن فيها أشياء لا تليق! أكّد صاحب المجلس هذا وقال: تصوّر أنه يأتينا فيديو رقص من أحد روّاد حلقة القرآن عندنا، وحينما عاتبناه اعتذر وقال: «السموحة يا ربع أني أرسلتها قبل أن أفتحها»! وهكذا انفتح موضوع ساخن والكل يدلي بدلوه ويفرغ ما بصدره.

أعجبني سؤال نبيه طرحه أحد الأصدقاء الأعزاء قال: هل شعوب العالم هكذا لديهم الفراغ الكافي كما هو عندنا نحن العرب؟ كأنه يشير إلى أن هذا مجرّد عرض للمرض، وليس هو المرض بحدّ ذاته، فالوقت الذي هو العمر وهو الحياة ليس له قيمة عندنا، وهذا أصل العلّة وأساس الداء، تذكرت عندها قصة لطيفة حكاها لي أخي الدكتور محمد المصلح قال: تأخّر أحد الإخوة العرب عن موعده لنصف ساعة فأنّبه صاحبه الغربي تأنيبا شديدا، فحاول في المرة الثانية أن يبكّر فجاء قبل نصف ساعة، فأنّبه صاحبه أيضا، وقال له: هذه مثل تلك، أمس أضعتَ نصف ساعة من وقتنا، واليوم أضعتَ نصف ساعة من وقتك!

نعم إنها ظاهرة مكررة ويشكو منها غير واحد خاصة ممن ابتلي ببلاء الشهرة، فأنت تجد نفسك يوميّا أو بين يوم وآخر في مجموعة أو «جروب» جديد، منهم الأصحاب ومنهم الأغراب، لا تدري من أسّسها ومن أدخلك فيها أو ضمّك إليها؟ ثم لا يكتفون بذلك بل يتبرعون بالتعريف، أو بطلب التعريف، ويكتبون لك: «عذرا لأن الكثير من المجموعة لا يعرفون من صاحب هذا الرقم»، ولأنك متأكّد من النوايا الطيّبة والعفويّة فإنك تشعر بالحرج إن انسحبت أو اعتذرت، ثم لمّا عمّت البلوى خفّ عندي بعض هذا الحرج، فجربت الانسحاب مرة ثم أخرى، فأعادني مشرفها أو مؤسسها لها أو لمثيلاتها أكثر من عشرين مرّة!
في البرامج الأوسع ترى عجبا أكبر، فهناك طلبات واقتراحات وسؤالات «على الخاص» لا حصر لها، تهبط عليك كالمطر، وكل واحد منهم يظنّ أنك مفرّغ له، والغريب أن بعضهم يكتب برموز وأسماء وهمية، ثم يعتب عليك لأنك لم تتجاوب معه، وأنت لا تعرف من صاحب هذا الحساب أصلا!

أما الصفحات المفتوحة وما فيها من انتهاك للمحرّمات والحرمات خاصة من أصحاب «الأقنعة الإلكترونية» فحدّث ولا حرج، إضافة إلى الإشاعات والدعايات والأحاديث الموضوعة والفتاوى المقلوبة التي ليس لها سند ولا مصدر.

إذا أردنا أن نطوّق هذه الظاهرة ونعالجها أو نخفف من آثارها فيمكن تقسيمها أولا إلى دائرتين:
الأولى: المعلومات غير الموثّقة، فكم الأحاديث والروايات والفتاوى والتقارير والإحصاءات التي تهبط علينا يوميا من غير مصدر لا حصر لها، وبعض الأصدقاء يظن أنه حينما يذيّل منشوره بكلمة «منقول» فقد أبرأ الذمة، وهذا غير صحيح، فإن كنت تعلم المصدر فاذكره، وإلا فلا تسند إلى مجهول، لأن هذا ليس بسند، وقد ساعد في انتشار هذه الظاهرة أن بعض العلماء والمفكرين يكتب لمجموعته مثلا دون ذكر اسمه لأنه معروف عندهم، ولكن نسخه ثم نشره في مواقع أخرى سيكون من غير اسم، ومن ثمّ فإني أقترح على كل من يكتب مقالة أورأيا أوتعليقا مهما أن يذيّل منشوره باسمه الصريح ليسهل الرجوع إليه والتوثّق منه، والتواضع في هذا الباب مفسدة ظاهرة، أما النقل عن الأعلام من غير سند أو مصدر فهذه يجب أن ترفض جملة واحدة، وأذكر بهذا الصدد أنه انتشرت منذ أشهر فتوى للشيخ ابن عثيمين -عليه رحمة الله-، وقد استغربت منها، فلما رجعت إلى كتبه رأيت الفتوى معكوسة تماما، أما إذا وصل الأمر إلى الأحاديث النبويّة الشريفة فينبغي أن يعلم المسلم أنه يرتكب اثما كبيرا حينما ينشر حديثا موضوعا، ولا عذر للجهل في هذا على الإطلاق.

الثانية: انتهاك الخصوصيّات والآداب العامة، وله صور كثيرة وشائعة، وإذا كانت الدائرة الأولى قد أسفرت عن مستوى الجهل والإهمال والفوضى الفكرية والعلمية، فإن هذه الدائرة قد كشفت عن مستوى الأخلاق والتديّن العملي لدى كثير من الناس، فترى بعضهم إذا تستّر باسم مستعار أباح لنفسه الكذب والبهتان والطعن بالأعراض، وما درى هذا المسكين أن اسمه المستعار قد يستره عن الناس ولكن بكل تأكيد لن يستره عن الله، والأسوأ من هذا أنك ترى صفحته مليئة بالآيات والأحاديث والمواعظ، وكأنه كان يتقرّب إلى الله بتلك الأخلاق السيئة والألفاظ البذيئة!

على مستوى أخف بكثير لكنه لا يليق أيضا ما تجده في بعض المجموعات الخاصّة والمحدودة، وهؤلاء يفترض أن بعضهم يعرف بعضا، فتجد مثلا منشورا لأحد الفضلاء أو كبار السن عن موضوع جاد، فتجد المنشور الثاني عبارة عن نكتة، وأقبح من هذا أن تأتي هذه النكتة أو الطرفة المضحكة بعد خبر وفاة! وقد رأيت هذا في أكثر من مجموعة، والظاهر أنا أخانا ينشر ما يقع بيده دون أن يقرأ المنشورات السابقة.

هناك أيضا حالات من الإزعاج والإثقال بكثرة المنشورات التي لا معنى لها ولا لتكرارها، وهي ليست سوى نوع من «الثرثرة»، وأذكر أن أحد الأصدقاء عاتبني لأنه وجّه لي سؤالا شرعيا فلم أجبه، وحينما رجعت إلى المجموعة وجدت سؤاله قد غاص في موج من الصور والتسجيلات، وهذه مفسدة أخرى تقتل روح التواصل المطلوب، فمن حق السائل أن يتلقى الجواب، وتضييع سؤاله بهذه الطريقة ومن غير ضرورة ليست من أخلاق المسلم مع أخيه.

إن برامج التواصل هذه لا شك أنها من أفضل ما أنتجه العقل البشري لتقريب المسافات وتوثيق العلاقات، وهي نعمة كبيرة إذا أحسنا استعمالها، والشكر أن لا نستعين بنعم الله على معاصيه.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.