ماذا يفعل المرء بالعزلة؟

إياد الداود
صانع أفلام

ماذا يفعل المرء بالعزلة؟

يعود إلى الوراء.

إلى أين؟

إلى حيث يمكن أن يرى المستقبل.

والمستقبل هو ركضك بلا هوادة، سفرك عبر محطات الأمل، صورتك القادمة في الزمن. تعبك حد النصر، والحب الممزوج بخطو كل من وضعهم القدر على طريقك.

الأسبوع الماضي، تقرر أن تقرأ رواية استعصت عليك زمنًا، كلما راودتك فترة الفتوة والشباب وجدتها لا تشبهك، كيف يمكن لرواية حازت جائزة نوبل ألا تعجبك؟.. تعال، اجلس على أريكة القراءة، استرخ، بإمكانك أن تمد قدميك المتعبتين من فرط الراحة، اقرأ شيئا ضيعته كل هذه المدة، كيف تجرأت على فراق (واحد من أكبر الأعمال الأدبية أثرًا في زماننا)، كما تقول الواشنطن بوست؟ بل تركته للبيت المهجور في الكويت، مغادرًا بلا وداع إلى الأردن، عام 1991، هذا عام ينافس 2020 في عجائبه، يوغل عميقًا في دماء داحس والغبراء. يومها تحولت الكويت الحبيبة إلى ملعب، وحضرت عراق المتنبي وليلاها مريضة، ولعب العرب نهائي البطولة الدولية، ما من أحد على مقاعد الاحتياط، كلنا في المباراة المميتة، بينما أدار الغرب طاقم التحكيم، حلّلونا في الإعلام، التصقوا بثرواتنا، أخذوا منا أجمل ما فينا.

رواية (مائة عام من العزلة)، اشتريتها من مصروفك البسيط في سنة الثانوية العامة، وقد حان وقت قراءتها الآن، لكنك ما استطعت، شخصياتها لم تواكب عنفوان شبابك من قبل، ولم تقنع عمرك المترهل من بعد. عنوانها البراق، المقارب لما نعيشه من حال، ما كفاك. أرعبك الرقم مائة يا صديقي، وأنت ما زلت تختبر بضعة أيام من شبه العزلة، ها أنت تتوقف عند الصفحة 46: (أعاد الزمن الأمور إلى نصابها. ولم يدر خوسيه أركاديو بوينديا وابنه في أي لحظة وجدا نفسيهما)، هذا أوان أن تعيش اللحظة. 30 سنةً مرت، كنت تنتظر بشغف منحة جامعة الكويت، لتحصل بعدها على لا شيء مما خططت له، وانتظرته لهفة أمك، لا الطب ولا الهندسة. قادك حظك الحسن، وربما العاثر، إلى الإخراج.

لا تريد للزمن أن يعبر، تتمثل صورة جدك أبا ذر الغفاري؛ (يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، تنازعك وصايا فلاسفة التواصل الاجتماعي؛ كأنك تنفض عنها فيروسات كل العمر، وإعلانات تفيض بمثالية (خليك بالبيت)، لأناس بيوتهم مدن، جمهورهم يقطن علب سردين
ميزة مخرج الأفلام الوثائقية حين يلتقي قومًا قد لا يسعه عمره إلى لقائهم من جديد، يسمع منهم في الحوارات ما لم يحط به بحثه الواسع. بشكل أو بآخر، إنهم يفاجئوننا بمنطق صادق، لا يشترى ولا يباع. أن يحدثك بلال الطفل اليتيم بلال عن السارق الذي سرق بيته، ولحق به هو وجدّه، فيوقف براعة حديثه الذي لا ينقطع الجدّ ذاته: (يا أستاذ، بلال بيسرح كثير، قد لا يتوقف). تشير؛ أرجوك دعه يكمل، فيكمل ويكمل، تكاد تضيع منك خيوط القصة الشفوية، تقاطعه مضطرًا: (أحسنت يا بلال، لكن يا عمو، أنا سألتك عن وطنك فلسطين؟).. براءة العيون سرعان ما انقلبت إلى استنكار ودهشة: (ما السارق هو الإسرائيلي، والبيت فلسطين!)، هل تذكر كيف تراجعت؟ أي درجة من الشك استوطنتنك؟ وكيف خرجت من بيتهم منتشيًا بأنك وجدت بطل فيلمك القادم، وممتلئًا بشعور يعاكس الذكاء؟

(الآن، دورك يا بلال، تفضل، امش أمام الكاميرا، تحدث كما تشاء، تصرف على سجيتك..)، عبثًا نحاول، مزاجه الحر لم يسعفنا، ورفض كل تحايلنا معه، حتى الأيسكريم لم تجد نفعًا. بقي بعيدًا عن الكاميرا، بالكاد ظفرنا منه بمشية بائسة جوار أخته حنين، كسرنا، عاندنا جميعًا في فيلم (عودة). إيه يا بلال، ما حاجة البطل الذي دعكته وقائع الحياة باكرًا إلى بطولة فيلم؟ أدرك أنك اليوم في عزلك، مثلك مثلي، تتذكر ما فعلته بي، وأنا أتساءل هل حولك اليوم من أطفالك من يملك جبروتك، يعاندك بسخاء، يرد بعضًا من ثاراتي.

قبل منتصف الليل بقليل، غزارة المطر تشدكما للوصول إلى الباص الأخير (عمان – الزرقاء)، ريثما تعودان أول الصباح للمونتاج. أنت وصديقك النبيل، تنظران تجاه سيارات التاكسي نظرة من لا يملك كلفة عدّادها المستطير، فكيف إذا ما كانت بعض العدّادات تراوغ عيون الركاب وهم يدققون سرعة حساب الدنانير، فتزيغ الأبصار، ويخرجون ما تبقى من قروش الشهر الذي لا يريد أن ينتهي، لا سبيل إلا أن تغرقا في المطر، تتسابقان كما المحترفين من لاعبي كرة القدم، غير أنهم يتقاضون أموالاً تنوء بها البنوك، وأنتم تنتجون أفلامًا عن البسطاء الذين يفقر جيوبهم ساندويش الفلافل، وتثريهم إرادة المقاتل في زمن السلام الرخيص.

28 مارس 2020، يتنازل كريستيانو رونالدو عما يقارب 4 ملايين يورو من إجمالي راتبه السنوي الذي يفوق 30 مليون، تفكر بك وبه تحت المطر؛ (مسكين، كيف سيتدبر أمور هذا العام؟). بينما تصلك رسالة؛ يجمعون لكل عائلة في المخيم ما يكفيهم الاستمرار في منع التجول التام، فهل أنت معنا؟ أنا مع أولئك الذين ساروا على الثلج، لا أحذيتهم أحذية، ولا ملابسهم تميز الصيف عن الشتاء، ما فتئوا يسقطون، يقومون، يقعون، ينهضون، يقاومون بحثًا عن طيف حافلة، تنتظر الركاب التائهين في البياض. ها أنت تسمع همسًا يأتي من بعيد، يخرج من بين نفحات سيجارة طفل، أقصى طموحه أن يصبح السائق يومًا ما، كأنه يغني (عمان – الزرقاء، آخر باص، آخر باص..).

رحلة الباصات اليومية، والوجوه الغافية عن الفرح، هي التي أوصلتك إلى حاضرك، الحياة تمر بطيئة، يصبح خروجك لموعد طبي، لا علاقة له بالوباء، لا سمح الله، نزهة لا تستبدلها بحذافير الدنيا، تكتشف ما كنت تراه كل يوم، تقود السيارة على مهل، تدقق في عداد السرعة، تختبر صعوبة قيادة السيارة بسرعة 30 كم، وتعرف أن الحياة ليست فيمن يلهث خلفها طوال الوقت، بقدر من يخطف منها لحظة صفاء.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.