النّزعة القَبليّة تفرقٌ وجَاهليّة

بقلم : خولة مقراني

الاختلاف والتّنوع من نواميس هذا الكون، ولو شاء الله لخلقنا على صورةٍ واحدة ولسانٍ واحد ودينٍ واحد، لكنّه لم يفعل، وجعلنا سودًا وبيضًا، شعوبًا وقبائلَ، عربًا وعجمًا، قال تعالى: “وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ”، قال ابن كثير-رحمه الله-في قوله تعالى: “وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ” يعني اللّغات فهؤلاء بلغة العرب وهؤلاء بربر وهؤلاء هنود وهؤلاء عجم إلى غير ذلك ممّا لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم.

فجميع أهل الأرض بل أهل الدّنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام السّاعة كل له نفس الأعضاء من أعينٍ و أنفٍ وأطرافٍ وغيرها وليس يشبه واحد منهم الآخر بل جعل بينهم شيء من الإختلاف في السّمت أو الهيئة ظاهرًا كان أو خفيًّا يظهر عند التأمّل، فلكلٍ أسلوبٌ بذاته وهيئةٌ لا تشبه غيره ولو توافق جماعةٌ في صفةٍ من جمالٍ أو قبحٍ لابدّ من فارقٍ بين كل واحدٍ منهم وبين الآخر فحتى بالنّسبة للتّوائم الحقيقيّة فإنّ هناك دائمًا نقاط اختلاف وان لم تبدو للعيان وما هذا إلا تجلّي لعظمة الخالق وبديع صُنعه، فاختلفنا وانقسمنا وتنوّعنا وأثرينا هذا الكون، ثم نسيَ البشر كلّ ما يفرقهم وبحثوا عمّا يَجمعهم، فاجتمَعوا على أسَاس الدّم والقبيلة والعِرق واللّغة والدّين والإيديولوجيَة، وبذلكَ تشكّلت اللّحمة التي تربطهم، وانصَهروا فيما بينهم.


نحن ننتمي للجنس البشري ونمتلك نفس الفيزيولوجية وما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، وحتى وإن اختلفنا فاختلافنا هذا لا يعني بالضرورة إلغاء الآخر ورفضه وتحقيره

ومن أقصى تجليّات هذا الانصهار “العصبيّة”، فأن يَستميت شخصٌ في الدّفاع عن قضيّة تخصّ شخصا غيره وكأن القضية قضيته وهو صَاحبها فقط لرَابطة ما تَربطهُ به، لأمرٌ يدعو للتعجّب! وعلى قدر ما عادت هذه الغريزة -أيّ العصبيّة-على البشر بالفائدة بدفعهم للتّعايش في مجموعات والتي على أساسها قام العمران -حسب ابن خلدون-فأنتجت بذلكَ دولاً وحضارات، على قدر ما تحوّلت في كثير من الأحيان إلى “تعصب” فكان لها مفعول عكسيّ على مسار التاريخ الإنسانيّ، فألغى هذا الأخير دولاً وحضارات، ذلك أن المتعصّب لا يرى وجوده إلاّ بالقضاء على الآخر (والأمثلة كثيرة كالهنود الحمر في أمريكا، الفلسطينيين في فلسطين والروهينجا في بورما).

إنّ التّعصب في حقيقتِه ما هو إلاّ شكل من أشكال الرّفض لسنّة من سنن الله في الكون وهي الإختلاف، ولوو عُرف فضل الاختلاف لقُبل بصدر رحب فبه تتحرّكُ الحياة وتتقدّم. لو تصوّرنا معًا هذا العالم بعرقٍ واحد وإيديولوجيّةٍ واحدة ودينٍ واحد… ستسير الحياة عندها في خطٍ ثابت رتيب، ولن نستشعر مطلقًا هذا الاختلاف. فلولا الاختلاف لما عرفنا فضل الحقّ على الباطل والنّور على الظلمة والعدل على الظلم فالضدّ يظهر حسنُه الضدّ، ولو شاء الله لنزع رحمته هذه من هذا الكون.

وكما تعصّب الناس لقوميات وأديان مختلفة، فبإمكانهم البحث عن شيءٍ أكبر يجمعهم، مثلاً “الإنسانية” فنحن ننتمي للجنس البشري ونمتلك نفس الفيزيولوجية وما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرّقنا، وحتى وإن اختلفنا فاختلافنا هذا لا يعني بالضرورة إلغاء الآخر ورفضه وتحقيره ولا حتّى فرض الحصار عليه إن حدثَ وانتهج طريقًا غير الطريقِ الذي نسلكه، ويمكن اعتبار العنصرية والشعوبية والقوميّة من أسوء أنواع التّعصب ذلك أنّها تفرّق بين الناس على أسس لم يختاروها هم فلا أحد اختار لونه او عرقه او جنسيته.

ومما تنفطر منه القلوب في عصرنا الحاضر نصرة بعض علماء الدّين وكبار الدّعاة لملوكهم ووقوعهم في شرك التّعصّب بل لا يتوقّف الأمر لهذا الحدّ فتجد بعض صغار الأسنان يقلّدون هؤلاء الدّعاة الذين يلتصقون بهم في سبّ وتجريح شعوبِ ودعاة آخرين قد يكونوا من الربّانيين العاملين. فليعلم هؤلاء أن لحوم المظاليم من شعوبٍ وعلماء مسمومة وليعدّوا للسؤال أمام الله جوابًا مقنعًا من الآن على خوضهم فيما لا يعلمون وتعاليهم على من بذلوا أوقاتهم وأموالهم وأبدانهم في الدّعوة إلى الله عز وجلّ. وربّما كانوا من الفئة التي توعّد الله بمحاربتهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إن الله قال: “من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيءٍ أحَبُّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه…”، رواه البخاري.

أشنعٌ ما في الفتنِ أنّ الجميع يروْن أنفسهم أصحاب حقٍ بل وتزيد فئة من يسمّون أنفُسهم علماء دينٍ والزّعماء فينا الطّين بلّة بدل أن تسعى إلى الإصلاح فلا تدري كيف التّفاهم ولا مع من يكون!

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.