بلاغة الأَعْرَاب و إسلامهم

بقلم : أدهم شرقاوي

قال عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما : لم أعرفْ معنى ” فاطر السَّموات والأرض ” إلا من شجار أعرابيين حول بئر كلّ واحدٍ منهما يدّعيها لنفسه . فقال أحدهما للآخر : أنا فطرتها ! يريدُ أن يقول : أنا بدأتها !

والأعرابُ من ناحية أنثروبولوجيّة هم الذين سكنوا بادية شبه جزيرة العرب، فكانوا بعيدين عن المدينة والحضر. اشتغلتْ فيهم الصحراء شغلها، فأكسبتهم قسوتها وغلظتها ! والبيئة تنحتُ النّاس على مزاجها شاؤوا أم أبوا ! ولابن خلدون كلامٌ طويل في الأمر، ليس هذا مقام سرده، وينوب عن السّرد كله الجملة السابقة ! عموماً لو أنهم لم يكونوا كذلك لما صمدوا في أعتى مناخٍ على وجه الأرض !

ظلمناهم كثيراً عندما أخطأنا في فهم قول الله تعالى : ” الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقا ” ! إذ يعتقدُ أغلبيتنا أنّ هذا نعتٌ مقيمٌ أبد الدّهر لا يتغيّر ولا يتحوّل ! والحقيقة أنّه نصّ مخصوص، في حادثة مخصوصة، في زمن مخصوص ! وهي بالمناسبة من باب التغليب لا من باب التعميم، وإلا لكان القرآن يُناقض بعضه بعضاً وحاشا القرآن هذا، وقد وقع فيهم الاستثناء في غير آية . والتغليب في زمن معيّن لم يطل الأعراب فحسب، فهذه قريش أعرق قبائل العرب، يقول الله فيها : ” وكذّب به قومك وهو الحقّ ” ! والمُراد أغلب قومك وقت النزول، وإلا فإنّ الإسلام بدأ بقريش، والخلفاء الأربعة الرّاشدون، ومن ورائهم خيار الصحابة قرشيّون . وقد قال صلى الله عليه وسلم : ” نحن قريش ولاة هذا الأمر ” ! فكيف يكون ولاة الأمر مُكذّبوه ؟!

والحديثُ اليوم كما جاء في فاتحته عن بلاغة الأعراب لا عن إيمانهم، ولكنّ الكلام يجرُّ بعضه بعضها، وقد استطرد الجاحظ من قبل، وفي استطراده عذر لمن طلب ! وليس غريباً أن يكون الأعراب أبلغ العرب، وقد جاء في وصيّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخليفة الذي سيأتي بعده : أُوصيكَ بأهل البادية فإنّهم أصل العرب !

كانوا ينظمون الشّعر بحنكة الجواهريّ إذ يصفُّ اللآلىء في العِقد ! ويُرسلون النثر بمهارة بائع الورد إذ يشكُّ الوردة إلى جانب الوردة في الباقة ! يفهمون مُراد الكلام باقتدار، ويحيطون بالسّياق إحاطة السّوار بالمعصم ! وحديث البئر أعلاه غيضٌ من فيض !

ولابن عبّاس في البلاغة معهم قصّة طريفة أخرى، فقد كان يتلو قول الله تعالى : ” وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها ”
فقال أعرابيّ : والله ما أنقذكم منها وهو يريدُ أن يدخلكم فيها !
فقال ابن عبّاس : خذوها من غير فقيه !

وقرأ الأصمعيّ من سورة النّساء : ” والسارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفورٌ رحيم ” !
فقال له أعرابيٌّ لأول مرة يسمع الآية : كلام من هذا ؟
فقال الأصمعيّ : كلام الله
فقال له الأعرابيّ : لو غفرَ ما قطَعَ !
فرجع الأصمعيّ إلى المصحف فإذا هي ” عزيز حكيم ” لا ” غفور رحيم ” ! فأخذ يرددُ : لو غفرَ ما قطعَ، لو غفرَ ما قطعَ !

والحديثُ عن بلاغة الأعراب يطول، وسرد حكاياهم مع اللغة لا ينتهي، وسلوك الآباء الدينيّ في فترة ما لا يُحاسبُ به الأبناء ! وإلا بهذا القياس المعتوه ما قبلنا إسلام أحد ! فسيفُ الله خالد هو ابن عدو الله الوليد بن المغيرة الذي ذمّه الله في قرآنه قائلاً : ” ثمّ أدبر واستكبر ” ! وعكرمة صفوة شهداء اليرموك هو ابن أبي جهل الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم : ” إنّ لكل أمّة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام ” ! لهذا فظلم الأعراب بنصّ مخصوص أبد الدهر حماقة توازي ذمّ أهل الطائف أبد الدّهر لرجمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم !

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.