نظرية “العجز المُتعلَّم” ودورها في ترويض الشعوب

محمد عبد الرحمن صادق

بصائر الفكر

إن التفاؤل له دور كبير في تشكيل شخصية الأفراد من حيث تطورهم البيولوجي المُتسق الذي يمكِّنهم من أداء مهامهم، وتحقيق آمالهم، وزيادة سقف الطموح لديهم.

يقول المؤلف الأمريكي “ليونيل تيجر” في كتابه ” التفاؤل بيولوجيا الامل”: “إن التفاؤل أحد أهم الخصائص التكيفية والحاسمة للوجود الانساني”.

كما يقول “تيجر” أيضاً: “إن أجسامنا تحتوي على ما يعرف باسم الصيدلية الداخلية، وعنـدما تكـون توقعاتنا وأفكارنا إيجابية فان هذا يرفع من كـفاءة جهازنا المناعي، ويُفرز الجسم مواد مُهدِّئة داخلية تعمل على خفض التوتر النفسي والألم، كما تساعد على حـث طاقة الجسم وتدعيمها حتى تحت أقصى ظروف الضغط” اهـ.

ولكون المجتمعات والشعوب تتكون في الأصل من مجموعات من الأفراد فالتفاؤل يجعل بنية ونسيج المجتمعات أكثر تماسكاً، ويجعل الشعوب أكثر إنتاجاً وأعلى مكانة بين غيرها من الشعوب  .

إن المجتمعات والشعوب التي تتمتع بالقسط الوافر من التفاؤل يجعلها عصيَّة على أن ينال منها مُستبد، ولا أن يقهرها غاشم، ولا ترضى لنفسها أن تكون مَطية لمتغطرس جاهل يريد أن يبني مجده ويُعوِّض عقدة النقص لديه على حساب كرامتها وحريتها.

من خلال ما سبق نجد أن الأنظمة الديكتاتورية المستبدة تعمل جاهدة على قتل التفاؤل داخل شعوبها والوصول بهذه الشعوب إلى أقصى درجات الإحباط واليأس والعجز فتسلِّم زمام أمرها لهذه الأنظمة المستبدة تتلاعب بها وبمستقبل الأجيال فيها تلاعب الصبيان بالكرة.

أولاً: نظرية “العجز المُتعلَّم” ودورها في ترويض الشعوب
قام العالم الأمريكي (مارتن سليجمان) بالتوصل إلى نظرية “العجز المُتعلَّم” في عام 1967 وذلك في جامعة بنسلفانيا.

وتعد نظرية “العجز المكتسب” من النظريات الهامة في علم النفس حيث سلطت هذه النظرية الضوء على ظاهرة نفسية خطيرة بالنسبة للأفراد والشعوب على حد سواء وهي (اكتساب العجز عن طريق التعلم)، حيث ترسخ نظرية العجز المتعلم لمفهوم العجز واليأس ومن ثم الاستسلام وعدم القدرة على مواجهة الأمور أو محاولة تغييرها  .

ﺃﺭﺟﻊ (ﺳﻴﻠﺠﻤﺎﻥ) ﻣﻔﻬﻮﻡ “العجز المُتعلَّم” إﻟﻰ ﺃﻥ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺗﻌﺮﺽ الشعوب ﻟﻠﻀﻐﻮﻁ ﻣﻊ الترسيخ لفكرة عدم القدرة على مواجهة هذه الضغوط، فإن ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻞ الشعب ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ أمام المواقف، والأصعب من ذلك أن الشعب يكوِّن صورة ذهنية وقناعة بأنه لن يتمكن من مواجهة مثل هذه المواقف مُستقبلاً، مما يصيبه بعدم الثقة بالنفس وعدم تقدير الذات، إلى أن ينتهي الأمر به إلى الاستسلام التام الذي يؤدي في النهاية إلى الإحباط والاكتئاب.

إن الشعب الذي يمر بمثل هذه الظروف ويصل لهذه المرحلة من الاكتئاب والإحباط يفقد الثقة في قدراته ويشعر بالدونية والانهزامية وعدم القدرة على مواجهة المشكلات، حتى لو أتيحت له فرصة أفضل في ظروف أفضل.

ثانياً: تطبيق نظرية “العجز المُتعلَّم” على الشعوب
قامت المربية والمؤلفة الأمريكية “روبي ك. باين” بتوضيح أثر نظرية “العجز المُتعلَّم” في كتابها الشهير (إطار لفهم الفقر) وذكرت أنه من الممكن تدوير الفقر، وثقافة الفقر، وتوارث الفقر بين الأجيال، وذلك من خلال تمرير نظرية “العجز المتعلم” من الآباء إلى الأبناء.

وذكرت “روبي ك. باين” كذلك أن الأشخاص الذين يتبنون هذه العقلية في التفكير يكون لديهم القناعة التامة أنه لا توجد وسيلة للهروب من الفقر، مما يقتل لديهم التخطيط لحياتهم سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل، وبالتالي تظل الأسرة رهينة الفقر وأسيرة القهر، خاصة في ظل الترويج لفكرة قبول الفقر والتعايش معه، والصبر عليه، وأن الفقر ليس عيباً، إلى غير ذلك من الأفكار التي ترسخ الدون من المعيشة، والهون فى الحياة٬ وقبول البخس٬ والرضا بالدنية.

كما قام عالم الاجتماع الأمريكي “هاريسون وايت” بتسليط الضوء على نظرية “العجز المُتعلَّم” في كتابه “الهوية والسيطرة” وذكر أن وضع الشخص تحت التقنيات القسرية يؤدي به إلى حالة من اللامبالاة ومن ثم يُصاب المُعتقل بما أسماه “اللامبالاة الدفاعية”.

مما سبق يمكننا أن نقول أن الظروف القهرية التي يتم حبس بعض الشعوب داخلها والتضييق عليهم يوماً بعد يوم دون حدوث انفراجة ودون الشعور بالأمل في التغيير إنما تتم عن دراسة وعلم من خلال مراكز بحثية متخصصة للوصول بهذه الشعوب إلى مرحلة “العجز المُتعلَّم” مما يترتب عليه الترويض والاستكانة التامَّين، والخضوع للقهر والاستسلام لليأس، حتى تصبح هذه الشعوب كالحصان الذي تم ربطه في كرسي فاقتنع أنه بالفعل مربوط في شجرة من خلال خبرته التراكمية السابقة.

ومن حيل النظم المستبدة لغرس “العجز المُتعلَّم” في شعوبها أيضاً استخدام الصدمات والفزاعات وإطلاق الشائعات، ثم تترك الأمر لـ “العقل الجمعي” أن يقوم بدوه في ترسيخ المفاهيم المغلوطة التي تفقد الشعوب القدرة على المقاومة أو التفكير في سبيل للتغلب على الأزمات.

ثالثاً: مظاهر تطبيق نظرية “العجز المُتعلَّم” على الشعوب
بعد أن تنجح الأنظمة في ترويض واستئناس الشعوب من خلال نظرية “العجز المُتعلَّم” تقوم هذه الأنظمة باتباع مجموعة من الأساليب والسياسات لإحكام القبضة على هذه الشعوب، منها:-

1- سياسة الإلهاء بغرض تمرير القضايا المصيرية التي قد تُغضب الشعب.

2- افتعال أزمات والتدخل لحلهه بغرض كسب التأييد الشعبي.

3- الاستخفاف بالشعوب وإشعارهم بعدم النضج بغرض إسكاتهم عن المطالبة بما تتمتع به الشعوب الأخرى من حقوق وامتيازات.

4- تضليل الشعوب وتغييب الوعي لديها بغرض إقناعهم أنه من الرعونة أن يطالبوا بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

5- تصدير أزمات الشعوب الأخرى وتهويلها لتخويف الشعوب من نفس المصير.

6- إقناع الشعوب أن التمرد على الواقع خيانة وأن المتمردين الذين يطالبون بحقوقهم وحقوق الأجيال مجرد مرتزقة مأجورين لا يريدون الخير لوطنهم.

7- التخلص من المناوئين لسياسة القمع والفساد وتقريب الفاسدين الذين يدورون في نفس فلك الأنظمة المستبدة.

8- التعلل بالمؤامرات الداخلية والخارجية وأنها السبب في حالة عدم الاستقرار.

9- فرض العزلة الجغرافية كما فعل الاستعمار، ثم العزلة الشعورية التي تقنع المواطنين في الدول الاستبدادية أنهم أقل درجة من دول العالم المتقدم وأنه لا يجوز لهم أن يقارنوا أنفسهم بهم.

10- استخدام سياسة التشتيت والارتباك الذهني التي تجعل المواطن يلهث وراء لقمة العيش ولا يكون لديه فرصة للتفكير فيما يفتقده من عدل ومساواة وحرية وكرامة إنسانية.

11- اتباع سياسة فرض الوصاية على الشعب وإقناعه بأنه ليس لديه الأهلية بأن يقرر مصير نفسه بنفسه، وأن الهوية الجماعية مقدمة على الهوية الفردية، مثلما فعلت النازية حين قامت بتجريد الألمان من هويتهم الشخصية، بتغيير أسمائهم، وإطلاق أسماء مستعارة ترتبط أكثر بالمجموعة، أو تعريفهم بأرقام.

12- التحكم في مناهج التعليم وإعادة صياغتها بما يضمن غرس مفاهيم جديدة تؤصل لترويض المواطنين.

يقول الدكتور “علي وطفة” أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت: “إن الشعب العربي يُعاني الانهيار والاغتراب والتسلط والاستبداد تحت صدمات القهر ومطارق الفعل التربوي التسلطي الذي يُبدِّد كل القيم والمفاهيم ذات الطابع الديمقراطي الإنساني، فضلاً عن تقمص بعض المدارس والمؤسسات التربوية العربية الطابع التربوي الذي عرفناه في عهد الهتلرية والنازية فأصبحت بذلك معاقل تتدفق منها كل قيم الاستبداد والتسلط والإكراه”.

كما يقول المفكر الإسلامي (عبد الرحمن الكواكبي أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر) في كتاب (طبائع الاستبداد): “إن عبيد السلطة التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنهم يربون أولادهم لهم، بل هم يربون أنعاماً للمستبدين، وأعواناً لهم عليهم، وفي الحقيقة إن الأولاد في عهد الاستبداد هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق”.

ويقول الكواكبي أيضاً: “إن الاستبداد المشؤوم الذي تُمارسه المدرسة يؤثر في الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم” اهـ.

إن التحكم في مناهج التعليم بهذه الطريقة يهدف إلى تنميط عمل التعليم ليخرج متعلماً لا يستطيع أن يُبدي رأياً أو أن يطرح فكرة لكونه مُعتقلاً داخل النص الذي تعلمه والذي يكتبه، فقط لأن السلطة تريد منه أن يكون إمعة كالببغاء عقله في أُذنيه.

وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.