فيّ النقد الذاتيّ للثورة السوريّة

المصدر : د. عبد الكريم بكار

الثورة، هي نوع من انفجار النظام السياسيّ القائم، حين يفقد شرعيّته وصلاحيّته، بسبب ما يرتكبه من فضائح وجرائم تفوق طاقة المواطنين على التحمّل.
نحن نعرف أنّ الثورة السوريّة، قامت في سياق الربيع العربيّ، حيث أشاع التونسيّون في أرجاء العالم العربيّ الأمل بالخلاص من النظم المستبدة والطاغية، ونحن نعرف كذلك أنّ السّوريّين كانوا قبل الربيع العربيّ في حال من اليأس التامّ من أيّ خلاص، أو تغيير لما خبروه من بطش آل الأسد، وتمسّكهم بالسلطة، ولهذا فإنّ انطلاق الشرارة الأولى للثورة السوريّة في (18/3/2011) كان تعبيراً عن شجاعة السّوريّين وحبّهم للتحرّر، كما أنّه يشكّل في حدّ ذاته نوعاً من النصر، حيث تمّ خلال الشهور الأولى للثورة تهشيم ثقة النظام بنفسه، وتهشيم فبضته الأمنيّة أيضاً.
إنّ انطلاق الثورة -بقطع النظر عن أيّ اعتبار- يعبّر عن درجة من النضج الفكريّ والشعوريّ والأخلاقيّ لدى السّوريّين على طريق الخلاص من الاستعباد والفساد، وهذا النضج غير قابل للتراجع مهما كانت الأمور التي ستفضي إليها الثورة.
يعلّمنا تاريخ الثورات أنّه لا وجود لنصف ثورة، فالثوّار الذين لا يمضون بثورتهم حتّى النهاية، يسلّمون رقابهم للطغاة حتّى ينصبوا لهم أعواد المشانق، وهذا كان واضحاً غاية الوضوح لدى الشعب السوريّ، وهو في الحقيقة سرّ التضحيات الهائلة التي قدّمها الشعب الثائر، حيث كان الخلاص من النظام المجرم هو المسوّغ لكلّ أشكال البذل المذهل الذي رآه العالم دون كلل ولا مِنَّة على أحد.
قامت الثورة في سوريّة، ولدينا سذاجة كسذاجة الأطفال، حيث كنّا نظنّ أنّ العالم بأسره لن يكون له أيّ موقف، إلا المؤازرة والمساندة لثورات تنادي بقيم يدندن حولها الإعلام العالميّ في الليل والنهار: قيم الحرّيّة والعدالة والكرامة، ونصرة المظلوم، وحقّ الشعوب في اختيار من يحكمها…
كنّا نظنّ أنّ العالم ليس له باطن وظاهر، وأنّ حكوماته تؤمن بنفس القيم التي تؤمن بها الشعوب، وهذا الظنّ هو سبب النشوة العارمة التي كنّا نشعر بها من بداية الثورة، حتّى آخر عام 2012، لكنّ ذلك كلّه انتهى حين ظهرت الأمور على حقيقتها، مع الأسف الشديد!
المراجعة النقديّة مهمّة جدّاً للحفاظ على أهداف الثورة وأخلاقيّاتها، والحفاظ على مساندة الحاضنة الشعبيّة لها، كما أنّها مهمّة من أجل الحفاظ على سمعة الثورة، وتضامن شعوب العالم معها.
إنّ غياب النقد عن أنشطة ثوريّة كأنشطة الثورة السوريّة لا يعني شيئاً سوى الضياع، أو غياب الشعور بالمسؤوليّة، وأنا أؤمن مع هذا بأنّ النقد الذاتيّ يحتاج إلى مراعاة بعض الحساسيّات والتوازنات، ومراعاة ما تبقّى من إجماع وتوافق ثوريّ، لكن لا يجوز أن تبلغ المراعاة المطلوبة حدّ طمس الحقائق والمواقف، وتغييب الشفافيّة… في اعتقادي أن تراجع جماعة، أو فصيل عسكريّ، أو حزب سياسيّ، عن بعض المواقف الخاطئة، لا يُنهي المشكلة، فنحن نتكلّم عن تاريخ ثوريّ، حيث خرَّبت المنطلقات والمواقف الخاطئة جزءاً من البناء الوطنيّ المنشود، وحيث تضرّر آلاف الناس الأبرياء من ذلك، ولهذا فإنّ التوبة قد ترفع المسؤوليّة الشرعيّة في الآخرة عن ذنب من الذنوب، أمّا على المستوى التاريخيّ، فقد حدث مالا يمكن محوه، أو تلافي آثاره، وماذا نصنع لأيتام عشرة آلاف شخص مدنيّ قُتلوا خلال مجابهات ومناوشات بين أطراف ثوريّة عتيدة؟!
ليس في المدارس والجامعات مواد دراسيّة تعلّم الشباب كيفيّة القيام بثورة ناجحة، ولهذا فإنّ وجود الأخطاء في الثورات بوصفها تجارب شعبيّة جديدة وهائلة، أمر طبيعيّ للغاية، لكنّ الشيء غير الطبيعيّ هو الاستمرار في الخطأ، وتكراره!.
الحال السوريّة حال متطوّرة، واللاعبون في ساحاتها من دوليّين وإقليميّين كثيرون، ولهذا فنحن في حاجة إلى إعادة بناء الوعي الثوريّ، وتجديده باستمرار، حيث يتطلّب الوضع (الجيوسياسيّ) الشديد التعقيد لبلدنا التعاملَ مع المعطيات الجديدة بذكاء وتفتّح ذهنيّ، إلى جانب الإصرار على بلوغ الثورة لأهدافها النهائيّة، مهما طال الأمد.
لعلّي بعد هذه المقدمة ألقي الضوء على بعض أوجاع الثورة السوريّة، وبعض ما يجب القيام به للخلاص منها:
أوّلاً – الروح الأولى للثورة: يمكنني القول بثقة: إنّ جميع ثورات الربيع العربيّ، كانت لأسباب ودوافع موحّدة، وكان لها بالتالي طبيعة ومبادئ ومطالب موحَّدة، حيث لا يخفى أنّ الاستبداد والفساد، والإخفاق في إدارة الشأن العامّ، وتهميش المعارضين، والتعذيب في السجون، وسوء التعامل مع المستجدّات المعاصرة، وأموراً أخرى من هذا القبيل، أدّت إلى بحث الشعوب العربيّة عن طريق للخلاص، فعثرت على التظاهر والاحتجاج والاعتصام، والعمل على كسر هيبة النظم الحاكمة، بوصفها بداية الطريق.
وقد عبّرت الشعارات الثوريّة بوضوح عن جوهر هذه الثورات، فهي لم تقم من أجل رغيف الخبز، ولا من أجل عدم تطبيق الشريعة، ولا للخلاص من الدستور، أو الوزير الفلانيّ… فحسب، فهذه مطالب صغيرة في نظر الشعوب الثائرة.
إنّ الروح الأولى للثورة السوريّة عبَّرت بوضوح عن ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد، شعباً وأرضاً، وإسقاط النظام القائم بكلّ رموزه ومراكز قوّته ومقولاته، كما عبّرت عن حرصها على السلميّة، وبناء دولة تقوم على مبادئ العدالة والحرّيّة والكرامة والتداول النزيه والشفّاف للسلطة.
الروح الأولى للثورة، كانت شديدة التوق إلى العيش في بلد ينعم بالأمن والرخاء والاستقرار، على غرار ما هو موجود في الدول المتقدّمة.
هذه القيم والمعاني بكلّ تجسيداتها وتعبيراتها، أغرت الجماهير العريضة بالخروج إلى الشوارع بمئات الألوف، ومن كلّ أطياف المجتمع السوريّ ومكوّناته، فالمآسي التي أوجدها النظام المجرم عبر ما يقارب خمسة عقود، كانت عامّة وشاملة، وإن كان للسُنَّة النصيب الأكبر منها.
نبل المطالب الثوريّة ولّد مواقف في الشهامة والتضحية والتكاتف… يمكن وصفها بأنّها تاريخيّة واستثنائيّة، حيث تبلورت ذات سوريّة عظيمة ورائعة – وربّما المرّة الأولى في تاريخ سوريّة – وعلى هذا النحو من العمق والشمول، وهذا كلّه جعل العالم يشيد بالشعب السوريّ وعطائه وقدرته على البذل والتضحيّة، من أجل القيم والمبادئ التي يؤمن بها.
ثانياً – عسكرة الثورة:
1- لم يكن السوريّون يوماً مغرمين بالعنف وسفك الدماء، ولم يفوّتوا فرصة للتعبير عن مطالبهم بالإصلاح بشكل سلميّ إلا استغلّوها، ولكن النظام أحسَّ بخطر يهدّد وجوده، بعد أن رأى المظاهرات الحاشدة تجتاح المدن السوريّة، فقابلها بالعنف الجسديّ، مستخدماً شبّيحته في البداية من بعض موظّفي الدولة، وبدأ باستخدام الرصاص الحيّ، وقتلِ المتظاهرين بشكل تدريجيّ منذ الأسبوع الثالث للثورة.
نعم قد استطاع النظام السوريّ المجرم استدراج الثورة السلميّة إلى التسلّح والعسكرة استدراجاً، بسبب القتل، والاعتقال التعسفيّ، والتعذيب، وانتهاك الأعراض.
قد كانت بداية التسلّح من أجل الدفاع عن النفس، ومن أجل حماية المتظاهرين، ولكن بما أنّه ليس هناك خطّ فاصل بين الدفاع والهجوم، فقد صار لدى الثوّار كتائب مسلّحة تباغت جيش النظام، وتهاجمه حين تتاح لها الفرصة…
إنّ العسكرة كانت في الحقيقة نقطة انتصار للنظام على الثورة، بل كانت نقطة تحوّل في تاريخ الثورة، حيث صار الرهان على الأعمال العسكريّة عوضاً عن التظاهر والاحتجاج المدنيّ، إذ يصعب الجمع بين القتال والتظاهر، وهذا أدّى إلى انسحاب أعداد كبيرة من الثائرين من النشاط الثوريّ، وتقلّص الحاضنة الشعبيّة للثورة.
لم يمض وقت طويل على تحوّل الثورة من سلميّة، إلى مسلّحة، حتّى أخذت الكتائب والفصائل العسكريّة بالتشكّل، وبدأ جيش النظام بالتفكّك من خلال انشقاق الآلاف من الضبّاط والجنود، لكن مع الأسف لم يصبح للثورة جيش واحد تقوده قيادة عسكريّة واحدة، وما سمّي بقيادة الجيش الحرّ كانت شكليّة جدّاً.
يمكن أن نعدّد من سلبيّات عسكرة الثورة الآتي:
1- خسارة تعاطف الكثير من الناس مع الثورة، في الدّاخل والخارج، لأنّ الناس يتعاطفون مع الأطفال والنساء والمدنيّين العزّل، وليس مع المقاتلين الذين صاروا بعد عسكرة الثورة هم الواجهة البارزة للثوّار.
2- ظلّت معظم كتائب الجيش الحرّ في قراها وأحيائها، والقليل منها استطاع بناء معسكرات خارج المدن والقرى، وهذا أدّى إلى مشكلات جمّة، منها تهجير الأهالي، وهدم المساكن والبنية التحتيّة، وكان ذلك مسوّغاً عند النظام والعالم، فهو لا يهدم المدن، وإنّما يقاتل إرهابيّين احتلّوا تلك المدن، وطردوا أهلها منها، على حدّ زعمه طبعاً.
3- تشكّل خلال سنة من عسكرة الثورة جيوش من المقاتلين، حيث وصل تعدادها قرابة مئة وخمسين ألفاً في بعض المراحل، هذه الأعداد الهائلة المدافعة عن المدن والبلدات المحرّرة، تحتاج إلى طعام ولباس وعتاد وذخيرة ووقود للتحرّك، وقد بذل كثير من السّوريّين أموالهم في هذا الشأن، لكن اتّساع الحاجات جعل الجيش الحرّ وكلّ الكتائب العاملة على الساحة السوريّة تحت رحمة المانحين، من دول وجماعات وأفراد، وهذا جعل سير العمليّات العسكريّة، لا يخضع في بعض الأحيان لمصلحة الثورة، وإنّما لرغبات ومصالح الداعمين!.
4- لم تتمكّن كتائب الجيش الحرّ من تشكيل قيادة موحّدة، ولم تستطع تكوين قوّة مركزيّة متحرّكة لمناصرة الجبهات الضعيفة، وهذا شجّع النظام على أن يعيد السيطرة على المناطق المحرّرة الواحدة تلو الأخرى، وخلال عمليّات الكرّ والفرّ، والتحرير، وإعادة السيطرة كانت هناك الهجرات المتعدّدة للأهالي، والمزيد من الهدم للمساكن والمرافق.
5- عدم وجود قيادة موحّدة، وعدم وجود شرطة عسكريّة قادرة على ضبط سلوك العسكريّين، بالإضافة إلى وجود تنافس شديد على موارد شحيحة، ووجود أسباب أخرى..، إنّ ذلك كلّه أدّى إلى الاقتتال بين الكثير من الفصائل الثوريّة، وقد خسرنا بالفعل ألوف الرجال في خضمّ النزاعات المسلّحة البينيّة، ممّا أوهن الثقة لدى القريب والبعيد في قدرة الجيش الحرّ والكتائب الإسلاميّة على ضبط الأمن العام للبلاد، في حال سقوط النظام القاتل.
6- لعلّ من أخطر ما تسبّبت به عسكرة الثورة، اجتذاب عناصر من خارج سوريّة إلى المشاركة في القتال، حيث إنّ النشاط المدنيّ يظلّ دائماً محلّيّاً، لكن القتال قادر دائماً على استقدام عناصر شبابيّة تملك الغيرة والحماسة وحبّ التضحيّة، مع القليل من الوعي بمآلات الأمور، وهذا ما حدث في أفغانستان والشيشان والبوسنة وغيرها.
إنّ الشباب القادم من خارج الحدود قد حسم أمره، فهو جاء لإعلاء كلمة الله تعالى، ونصرة إخوانه، وسيكون مستغرباً من شيء اسمه مفاوضات أو تسويات أو مقاربات سياسيّة، فهو قام للنصر البيّن أو الشهادة الكريمة، وليس لأيّ شيء آخر.
الخلاصة التي ننتهي إليها هي: أنّ العسكرة هي إحدى المصائب الكبرى التي حلّت بالثورة، مع التسليم بأنّ النظام هو من ألجأ الثوّار إليها، وهو من يتحمّل الكثير من عواقبها، لكنّ النظام لا يتورّع عن استخدام أيّ أداة من أجل هزيمة الثورة والبقاء في الحكم؛ والحرب خدعة.
إنّ العسكرة وإن كانت بشكل من الأشكال ردّاً على ضعف الأداء السياسيّ، إلّا أنّها جعلت الكلمة للقوّة، وليس لصوابيّة الثورة ومشروعيّتها، وهذا من الناحية الرمزيّة والشعوريّة مؤذٍ للمعاني التي كانت سبباً في انطلاق الثورة!.
ثالثاً – شخصيّة سوريّة ممزّقة:
لولا وجود قدر هائل من الغيرة والشجاعة والحماسة، لما أمكن للثورة السوريّة أن تتفجّر، وأعتقد أنّ هذا ليس موضع جدل، لكنّنا نقول من وجه آخر: إنّ الذين يقتُلون ويعذِّبون وينهَبون، ويغتصِبون.. إنّ هؤلاء أيضاً سوريّون، وكثير منهم يفعلون ذلك بدم بارد، وهدوء تام، وكأنهم من طينة أخرى غير طينة أولئك الذين عرَّضوا حياتهم للمخاطر من أجل سوريّة حرّة كريمة وقويّة، فهل نحن أمام شعبين؟، أم أمام حالة يصعب توصيفها؟
الحقيقة المؤلمة هي أنّه ليس هناك (هُويّة) على درجة كافية من الوضوح، يمكن أن نسمّيها الهويّة السوريّة، كما أنّه ليس هناك شخصيّة سوريّة، أو شعب سوريّ واضح القسمات، وإنّما لدينا مجموعات وجماعات عرقيّة وإثنيّة ودينيّة ومذهبيّة.. تعيش على أرض واحدة، اسمها (سوريّة) وهذا يعود إلى أنّ سوريّة، ظلّت نحواً من أربعمائة سنة جزءاً من الدولة العثمانيّة، ومن ثمّ فليس لدى السّوريّين أمجاد وبطولات وطنيّة، تشكّل عمقاً تاريخيّاً لهم، كما أنّ التنوّع الموجود في سوريّة يحتاج إلى إدارة بالغة الدقّة والحذر، وقد قام حكم آل الأسد على سياسات ترسِّخ الطائفيّة، وتثير مشاعر غضب بعض السّوريّين تجاه بعضهم الآخر، كما أنّ أدبيّات (القوميّة العربيّة) دقّت إسفيناً بين العرب والأكراد في سوريّة على نحو أساسيّ، ولهذا فإنّنا نستطيع القول: إنّ الـ (أنا الاجتماعيّة العليا)، والتي تشكّل محور الهويّة وعمقها الدلاليّ، مفقودة في سوريّة إلى حدّ بعيد، إنّ الهويّة تقوم على الشعور بالوحدة والانتماء والتكامل، كما أنّها تقوم على مشاعر الابتهاج والفخر، حين يحقّق واحد من أبناء الشعب أو الوطن إنجازاً عظيماً، وتقوم كذلك على الاستنفار المشترك لدى جميع المواطنين، حين يتعرّض جزء من الوطن للتهديد أو الاحتلال، أو يتعرّض لزلزال أو إعصار، إنّه إحساس الجسد الواحد بكلّ عضو من أعضائه، هذا كلّه في سوريّة ضعيف، وقد يكون في بعض مفرداته مفقوداً مع الأسف الشديد!.
هذا الوهن في الهويّة والشخصيّة السوريّة، قد تسبّب في تأخير نجاح الثورة، وفي سهولة افتراء المكوّنات بعضها على بعض، على نحو فظيع!.
رابعاً – ثورة من غير قيادة:
هذه أكبر ثغرة في الثورة السوريّة، حيث إنّ ما يقرب من نصف قرن من الحكم الاستبداديّ الظالم ألجأ كلّ الإصلاحيّين والناشطين السياسيّين إلى الاختباء والتخفّي، ولهذا فإنّ الثورة التي انطلقت بمبادرة شعبيّة خالصة، وجدت نفسها بعد مدّة في حاجة إلى قيادة سياسيّة تتولّى تدبير شؤون الأراضي المحرّرة، وتوجيه النشاط العسكريّ والتفاوضيّ..
لكنّ الثوّار لم يجدوا الشخصيّة التي تتمتّع بما يكفي من الرمزيّة والجاذبيّة المحبوبة، والخبرة لقيادة الثورة – أو هكذا ظنّوا – والنتيجة مؤلمة للغاية، وهي جسم ثوريّ كبير ومتنوّع يمثّله أمام الدول التي تعترف به ائتلافٌ يعكس إلى حدّ ما التنوّع الثوريّ، لكن دون أن يتمكّن من قيادة الثورة، في الداخل، أو السيطرة على الأنشطة العسكريّة، كي تكون داعمة للقرارات السياسيّة، وضامنة لإجبار النظام على الاستجابة لها.
قد كانت لدى الثورة فرصة عظيمة لتشكيل قيادة ثوريّة وازنة، حين تمّ تشكيل (المجلس الوطنيّ) في 2/10 / 2011حيث اعترفت به معظم حكومات العالم، لكن المجلس الوطنيّ لم يتمكن من القيام بالمهمّات المنتظرة منه، وتمّ التحوّل عنه في 11/11/ 2012 إلى (الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة) ولكنّ الائتلاف الوطنيّ تعرّض للمشكلات التي تعرَّض لها المجلس الوطنيّ نفسها، حيث العجز عن بلورة قيادة فعّالة وموضع ثقة لدى الثوّار.
إنّ ضعف التواصل بالداخل، والخضوع للدول الداعمة للثورة، عاملان أساسيّان في عدم بروز قيادة ثوريّة جامعة وفاعلة، ولا ننسى ما فعلته (أدلجة الثورة) من سهولة تخوين كثير من الناشطين الثوريّين للقيادات السياسيّة، واتّهامها بالوقوع في أحضان الدول والاستجابة لمطالبها بعيداً عن الاحتياجات الحقيقيّة للثورة.
قد حصلت خلال السنوات الخمس الأخيرة محاولات كثيرة لإبراز قيادة موحّدة للثورة، لكن دون جدوى، وهذا شيء مؤسف ومحزن للغاية، وهو من أهمّ أسباب تعثّر الثورة، وعدم تمكّنها من بلوغ أهدافها المأمولة!.
5- أدلجة الثورة:
المقصود بالأدلجة هنا: مجموعة الاجتهادات التي يتوصّل إليها المنظّرون لتيّار أو مذهب أو اتجاه… حيث يقومون بمنحها درجة من القطع واليقين، تجعل من يقرؤها، أو يسمعها يظنّ أنّها من القطعيّات والأصول المتّفق عليها.
الأدلجة قد تقوم على أساس دينيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ أو قوميّ…
إنّ المقصود الأساسيّ بالأدلجة هو: تحفيز الناس على الانخراط في تيّار أو مذهب … معيّن، وجذب المزيد من الأتباع، ولهذا يمكنني القول: إنّ كلّ أدلجة تقوم على عنصرين أساسيّين:
الأوّل هو: تحويل أفكار ومفاهيم ظنّيّة واجتهاديّة إلى قطعيّات، تتعالى على النقاش.
الثاني: دعاية مكثّفة ومبالغ فيها، لتلك الأفكار والمفاهيم، بعيداً عن العقلانيّة والموضوعيّة.
الثورة السوريّة والأدلجة:
1- إنّ الثورة السوريّة حين انطلقت، كانت في أمسّ الحاجة إلى الإجماع الشعبيّ، أو أكبر قدر منه، وذلك حتّى تواجه القوّة الباطشة للنظام المجرم وتحصل على دعم دوليّ وإقليميّ واضح، ولهذا فإنّ الذين أشعلوا فتيل الثورة، كانوا يطالبون في البداية بالتغيير والإصلاح، وليس بإسقاط النظام، لأنّه في ظنّهم أقرب إلى الإمكان، ولما يئسوا من ذلك صاروا إلى المطالبة بإسقاط النظام، بوصفه شرطاً لقيام دولة الحريّة والكرامة والعدالة، وهذا تفكير صحيح، وقد استطاعت الثورة فعلاً أن تجذب إليها – بنسب متفاوتة – من المكونات الدينيّة والعرقيّة كلّها… لأنّ ظلم النظام كان عامّاً وشاملاً للجميع دون استثناء، وإن كان أهل السُّنّة – والملتزمون منهم بخاصة – في بؤرة عدوان النظام وتجاوزاته.
إذن النَّفَس الأوّل للثورة لم يكن إسلاميّاً، ولم يرفع شعارات إسلاميّة، وإن كانت مطالب الثوّار الأولى إسلاميّة بامتياز، والمطالبة بها مشكورة مأجورة.
2- من المهمّ جدّاً أن ندرك أنّ المنازع والاتجاهات والتفصيلات هي أوسع بكثير ممّا تتسع له ثورة شعب متنوّع الأعراق والمذاهب.. وأوسع ممّا يتّسع له أيّ نظام سياسيّ، فالأديولوجيا بوصفها معتقدات اجتهاديّة تقسّم ولا تجمع، بل هي تقسّم المقسّم، وتجزّئ المجزّأ، وقد رأينا اختلافات شديدة أدّت إلى سفك الدماء بين فصائل عسكريّة تنتمي إلى تكوين أيديولوجيّ واحد، ولهذا فإنّ ثورات العالم الناجحة كلّها، ركّزت على الحقوق والأهداف المشتركة للشعب، أي على ما هو موضع إجماع واتفاق.
3- إنّ أدلجة الثورة أدت في الحقيقة إلى خسارة الأساس الفكريّ للثورة، لأن الأهداف تتحوّل مع تحوّل الأسس والمنطلقات، وحين نقول: إنّ الثورة علمانيّة، أو إسلاميّة، أو قوميّة، فهذا يعني أنّها ترمي إلى تأسيس نظام علمانيّ…أو قوميّ أودينيّ.. وهذا إن راق لمكوّن من مكوّنات البلد، فإنّه لا يروق لمكوّنات أخرى، وهذا ما حدث فعلاً، ثمّ إنّ الذين يتعاطفون معنا من الإقليم أو العالم، هل سيراهنون على نجاح ثورة كرديّة أو عربيّة أو إسلاميّة…؟!
إنّنا من خلال أدلجة الثورة، نرسل للعالم رسائل مضطّربة، ونقول له: إنّ البديل عن سوريّة الموحّدة التي يتحدّث عنها النظام في حال نجاح الثورة، هو دول عقائديّة، وشركاء متشاكسون، يصعب الوثوق بهم وبإدارتهم لهذه المنطقة الحسّاسة من العالم، ولهذا انفضّ عنّا القريب والبعيد، وتركنا، نقارع النظام من غير مخالب ولا أنياب!.
4- أدلجة بعض الإسلاميّين للثورة جاءتنا بشيء خطير هو النفخ في (الطائفيّة) وعلينا في البداية القول:
لا شكّ في أنّ النظام طائفيّ بامتياز، وقد اعتمد على طائفته في ضمان استمرار الحكم، من خلال الهيمنة شبه الكاملة على الجيش والأمن، لكنّ النظام لم يتحدّث عن الطائفيّة، ولا أطلق شعارات طائفيّة، بل هو على العكس من ذلك؛ إذ إنّه لا يتحدّث إلا عن الوطن والمواطنين، لكنّ الذين أدلجوا الثورة لم يكونوا كذلك، فهم أطلقوا عبارات التكفير على جيش النظام، وطالما وصفوه بأنّه نصيريّ كافر- مع أن أغلبيته سنّيّة – وجعلوا مقاومة إيران، ومنع نشرها للتشيّع هدفاً من أهداف الثورة، كما أنّ أدلجة الثورة جعلت كلّ الثوّار من غير السُّنّة، والثوّار السنيّين غير الملتزمين كلّهم موضع شكّ في ولائهم للثورة، وصلاحيّتهم لمناصرتها.
إنّ هذا كله أباح لمن يريد الصيد في الماء العكر أن يقول: هذه ليست بثورة وطنيّة تنشد العدالة والكرامة، وإنّما هي فصل من فصول الصراع بين السّنّة والشيعة، أو بين السُّنّة والفرق الباطنيّة، وهذا مؤذٍ جدّاً للثورة، حيث يتمّ طمس مركز الصراع بين الثوّار والنظام، كما أنّه يشوّش على مطالب الثورة وأهدافها الكبرى.
إنّ النظام مسرور جدّاً لهياج وحش الطائفيّة، وقد أسهم في ذلك بطرق مختلفة، حيث يمكنه الادعاء في أيّ وقت بأنّه بنزعته القوميّة والعلمانيّة يوقف الاقتتال الطائفيّ في سوريّة!.
5- تديّن السّوريّين عامّتهم هو تديّن معتدل وسطيّ، حيث تركت المدرسة الفقهيّة الشاميّة المتسامحة بصماتها على معظم الشباب الملتزم، وهي تؤمن بالتفاوض الاجتماعيّ وتنزع نحو التوافق الوطنيّ على نحو عام، لكن الذين أدلجوا الثورة من الإسلاميّين لم يكونوا كذلك، إنّهم في الحقيقة أقرب إلى فكر الخوارج، والذي يتمثّل في توجهات داعش والقاعدة، وقد كان لامتناع العديد منهم عن رفع علم الثورة تأثير سيّئ للغاية، وحين تمكّن بعضهم من حكم بعض المناطق أظهروا من الغلظة والقسوة في التعامل مع المواطنين، ما يتنافى كلّيّاً مع سماحة الإسلام، ومع روح ثورة جاءت لتكريم الإنسان وتحريره!
إنّ الأدلجة فتحت الباب فعلاً لتحرّك عناصر محسوبة على الثورة، لكنّ سلوكيّاتها، تنافي روحها ومنطلقاتها وأهدافها!
6- لعب المال السياسيّ دوراً سيّئاً في أدلجة الثورة، والحقيقة أنّ العلاقة بين المؤدلجين والداعمين علاقة جدليّة، فقد حدث أن أعلن بعض الإسلاميّين الذين ينتمون إلى اتجاه معيّن (هو غالباً الاتجاه السلفيّ) عن تشكيل فصيل مقاتل، فسارع إلى دعمه بعض أصحاب رؤوس الأموال، ممّن يثقون بقائد الفصيل أو توجّهه، وحدث كذلك أن اشترط بعض الداعمين تشكيل فصيل عسكريّ يحمل اسماً معيّناً ويقوده شخص أو أشخاص من التوجّه ذاته الذي يثق به الداعم، ومعظم هذا كان في الحقيقة من المؤيّدين والداعمين الشعبيّين للثورة، وقد كان لبعض الدول الداعمة أيضاً شيء من هذا، بل إنّ تنظيماً كالقاعدة تلقّى دعماً ليس باليسير من بعض الدول ممّا أسهم في زيادة الأدلجة.
المال الذي بُذل في العسكرة أدّى إلى أن يكون لدينا مئات الفصائل العسكريّة التي يرأسها مدنيّون، ليس لديهم خبرة عسكريّة كافية، وأدّى كذلك إلى عزل مئات الضبّاط الأحرار الذين انشقّوا عن النظام عن ساحات المعارك، حيث تمّ رفضهم بسبب نقص في التزامهم، أو أنّهم رفضوا أن يكونوا تحت إمرة مدنيّين لا يملكون أيّ مؤهّلات قياديّة.
إنّ إقصاء الضباط الأحرار عن قيادة الفصائل، أدّى إلى وقوع أخطاء فادحة تسبّبت في قتل الألوف من شباب الكتائب المسلّحة، وهذا كلّه من آثار أدلجة الثورة، مع الأسف الشديد!.
7- لم تكن أدلجة الثورة من نصيب الإسلاميّين وحدهم، فقد ساهم كتاب ذوو نزعة علمانيّة في ذلك، من خلال الكثير من المقالات والتصريحات التي تنظّر لدولة علمانيّة، بل صار هناك حديث عن المثليّة، وتغيير قانون الأحوال الشخصيّة، لصالح المساواة المطلقة للمرأة بالرجل، وأمور أخرى مما يثير حفيظة الشارع الثوريّ والحاضنة الشعبيّة.
إنّ ممّا لا يخفى أنّ أهل السنّة في سوريّة هم الجسم الأساسيّ في الثورة، وهم أكثر من ضحّى، وبذل، والملتزمون منهم بخاصّة يشكّلون العمود الفقريّ للكتائب المسلّحة، وهم في سوريّة وغيرها المصدر الأساسيّ لتمويل الثورة على المستوى الشعبيّ، ومن ثمّ فإنّ الحديث عن دولة علمانيّة يستفزّهم، بل يهينهم، مع العلم بأنّ معظم الناس لا يفرّقون بين العلمانيّة والإلحاد، بل إنّ منهم من لا يفرّق بين الديمقراطيّة والكفر.
خلاصة القول هي: أنّ الأدلجة على أيّ وجه كان، مازالت هي الخنجر المسموم الذي طُعنت به الثورة، وإنّ العودة إلى البساط الوطنيّ، والإرادة الثوريّة الشعبيّة، هي الحلّ الوحيد لذلك.
الثورة السوريّة وآفاق المستقبل:
أنا أؤمن بقوّة أنّ هناك دائماً فرصةً ما للتغيير والنجاح والخلاص؛ والله تعالى يقول: ((فإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً)) لكن بشرط؛ أن نمتلك من الإدارة والشجاعة ما يمكِّننا من تسمية مشكلاتنا بأسمائها وتوصيفها بما هي عليه فعلاً، وقد حاولت في الصفحات السابقة القيام بشيء من ذلك على أنّني لم أقل ما يجب أن يقال كلّه.
أعتقد أنّ سبع سنوات عجاف من عمر الثورة قد أوجدت قدراً من الوعي بمستقبل الثورة، واشتراطات نجاحها، وأعتقد أنّ مئات الألوف من السّوريّين الداعمين للثورة، يتشوّقون إلى يوم الخلاص من النظام القاتل، وإقامة دولة الحريّة والعدالة، وهذا يدفعنا جميعاً إلى تلمّس آفاق جديدة لنجاح الثورة:
1- لدينا اتجاهان مدمّران في سوريّة:
الاتجاه الأول هو ذلك الاتجاه العابر للوطن والوطنيّة، إنّه ذلك الاتجاه الذي يتجاهل ظروف البلد ومكوّناته وجغرافيّته وهمومه، ويتّجه إلى الحلم ببناء كيان إسلاميّ عالميّ، كالخلافة مثلاً، أو دولة الإسلام العابرة للأقطار…
إنّ من يفكّر بهذه الطريقة غارق في الأوهام اليوم لأنّه يحلم بإقامة إمبراطوريّة في زمان الدولة القطريّة، والتحالفات الإقليميّة، والأهمّ من هذا أنّ المنتسبين إلى هذا الاتجاه لا يستطيعون التفاعل مع القوى الثوريّة على الأرض، من أجل ولادة سوريّة الجديدة، لأنّ هذا باختصار لا يشكّل أحد همومهم ومشاغلهم!.
الثاني كيانات وأطياف ومكوّنات ما دون وطنيّة، إنّها ذات نزعات مناطقيّة وعشائريّة ومذهبيّة….حيث الاهتمام والتفكير بدوائر ضيّقة، ومرتدّة إلى ما قبل الدولة الحديثة.
إنّ دمج هذين الاتجاهين في المشروع الوطنيّ أو تجاوزهما عند الضرورة، يشكّل شرطاً لولادة سوريّة الجديدة، القويّة والموحَّدة.
2- شهدت وتشهد الثورة انسحابات متتابعة من أنشطتها السياسيّة والإعلاميّة والعسكريّة والحقوقيّة، وهذه الانسحابات تكون في العادة، إمّا في اتجاه العزلة، وإمّا في اتجاه الأعمال الإغاثيّة والتعليميّة والإنسانيّة عامّة، وهذه الانسحابات متوقّعة، وذلك بسبب طول العهد والأمد، وبسبب اهتراء الأطر الثوريّة الجامعة على الصعيد السياسيّ والعسكريّ، على نحو خاص حيث التنازع والاختلاف والتشرذم في أسوأ الأشكال والصور!
كثيرون جدّاً الذين ينادون بإصدار وثيقة جامعة للثورة، وتشكيل قيادة موحّدة لها، وأكثر من كتب في هذا هم المنتمون للتيّار العلمانيّ والديمقراطيّ، ولكنّ ذلك ظلّ في إطار التنظير والتحفيز، وظلّت المبادرات العمليّة للوصول إلى ذلك قليلة، والتفاعل معها ضعيفاً، وربّما أدّى الإخفاق المتكرّر في ذلك إلى القنوط، والحقيقة أنّ معظم المبادرات لإيجاد قيادة موحّدة للثورة كان يجمع بينها انخفاض درجة اهتمام وإصرار الذين أطلقوها، وقصر نفَسهم في العمل، وإلا فليس هناك شيء مستحيل.
3- بدأت الثورة السوريّة بثقة عالية جدّاً بالنفس، ومع هذا فقد كانت طلبات الثوّار الأوائل عقلانيّة وطنيّة، وكانت تتمحور حول العدالة والحريّة والكرامة، ونبذ الطائفيّة، وإعلاء شأن سوريّة الواحدة القويّة، ثمّ جاء من يزيد عليها مطالب جديدة، من نحو كون سوريّة فيدراليّة أو علمانيّة أو إسلاميّة، وهناك من يريد إقامة دولة الخلافة فيها، والانطلاق نحو تحرير القدس وفلسطين، وهناك وهناك…
هذا كلّه أوجد انقسامات داخليّة كبيرة في صفوف الثوّار، وخوَّف الإقليم وإسرائيل والعالم من مآلات سقوط بشار الأسد، وصيرورة السلطة إلى هؤلاء الطارئين على النظام العربيّ والإقليميّ والعالميّ.
لا بدّ من العودة إلى الأهداف والمبادئ الأولى للثورة، واختصارها إلى ثلاثة أو أربعة، وأعتقد أنّ أهدافاً مثل الحرّيّة والعدالة، وتساوي السوريّين أمام القانون كافية لتوضيح هويّة الثورة، وكافية لتوجيه الثائرين، وجمع كلمتهم.
4- من المهمّ هنا أن نعي أنّ مشكلتنا الأساسيّة لم تعد مع نظام مجرم قاتل، بل مع قوى محتلّة اتخذت من سوريّة مسرحاً لاختبار أسلحتها، ونشر أيدولوجيّاتها، وتأكيد هيمنتها على نحو ما تفعله إيران وروسيا وإسرائيل، وصار الدم السوريّ خارج كلّ الحسابات بعد أن تفاهمت الدول الكبرى مع بعضها، وبعد أن سحبت معظم الدول الإقليميّة يدها من القضيّة السوريّة.
هذا يوجب أن نعلنها ثورةً للتحرّر من النظام الذي لا يستحي من إعلان التبعيّة الكاملة لإيران وروسيا، وثورةً للتحرّر الوطنيّ من الاحتلال الخارجيّ.
هذه الوضعيّة تمنحنا الفرصة لحمل نفس الروح، ونفس المعاني التي حملها آباؤنا، حين احتشدوا لطرد الفرنسيّين من بلادنا.
5- إنّ إبعاد الأدلجة عن مسار الثورة، لا يعني نسيان القيم الكبرى التي يجب أن نلتفّ حولها، حيث إن الهويّة السوريّة – على وهنها – متشبّعة بالكثير من القيم العظيمة التي كانت بمثابة الضمير للعيش المشترك عبر القرون، ويقف على رأس تلك القيم قيم الرحمة، والدفاع عن المظلوم، ونصرة الضعيف، والإحسان إلى الجار، واحترام كبار السنّ، وتقدير التضحية، ورعاية اليتيم، وحسن العهد، والوفاء لتراث الآباء والأجداد، وتفهّم مدلولات ورمزيّات التنوّع الثقافيّ والعرقيّ والدينيّ…
هذه القيم قيم إنسانيّة وإسلاميّة وعربيّة ووطنيّة بامتياز، وهي تشكّل صمّام أمان، حين يشتدّ الصراع العرقيّ والطائفيّ في أيّ بلد من البلدان.
إنّ استحضار هذه القيم لا يكون عبر الشعارات، ولكن عبر الممارسة والسلوك اليوميّ، لكلّ أولئك المهتمين بمستقبل سوريّة الموحَّدة والقويّة.
6- ذكرت من قبل ضعف حضور الهويّة، أو الوطنيّة السوريّة في وجدان السوريّين، وهذا سببه بشكل أساسيّ التاريخ.
بعض السّوريّين ينظر إلى سوريّة على أنّها إحدى الدول العربيّة، وهي في نظر بعضهم جزء من الأرض التاريخيّة للشعب الكرديّ، أو هي ولاية من ولايات الخلافة العثمانيّة، وسوريّة لدى كثيرين ليست سوى كيان وجِد نتيجة مؤامرة حيكت قبل مئة عام!
إنّها أشبه بالوطن المؤقّت أو العابر، ومن هنا فإنّ على السّوريّين ألّا يعوّلوا كثيراً على التاريخ، في بلورة هويّتهم، أو بناء مشروعهم الوطنيّ، وعليهم أن يقفوا أمام أنفسهم ليكتشفوا أهدافهم المشتركة، وأهمّها أن لهم مصلحة عظمى بأن يعيشوا مواطنين أحراراً على أرضهم، دون شعور بآلام الغربة والتشرّد، وآلام اللجوء وامتنان الآخرين بالإيواء والمساعدة، أي أن يتخيّلوا الكوارث التي يسبّبها الاقتتال والاحتراب والتمزّق والكوارث التي يسبّبها التظالم والفساد والاستبداد.
لا شكّ مع هذا في أنّ لدى السّوريّين عقائد ورمزيّات ومفاهيم غير ملموسة، وعادات وتقاليد كثيرة مشتركة، تساعد كثيراً في بناء هويّتهم الوطنيّة، وإطلاق مشروعهم الوطنيّ، والأمر يحتاج إلى تغيير في بنية التفكير، وإلى خطاب جديد يقوم على تكريس الحرّيّة والعدالة وكرامة الإنسان، وتفهّم الخصوصيّات العقديّة والعرقيّة، وفوق ذلك كلّه سيادة القانون، وتساوي جميع المواطنين أمامه.
7- تحتاج سوريّة المستقبل من جميع أبنائها أن يتشبّعوا بثقافة الاعتراف بالذنب، حيث إنّ ما ارتكبه النظام وشبّيحته والموالون له، من جرائم ضدّ السّوريّين فظيع جداً، بل لا يوجد من الكلمات ما يعبّر عنه، كما أنّ الفصائل والكيانات الثوريّة، وقعت في بعض الأخطاء التي أضرّت بالناس، وأضرّت بالثورة.
إنّ أيّ مرحلة جديدة تبدأ بعد زوال النظام الأسديّ المجرم، لا بدّ أن يكون فيها اعتراف واضح بما تمّ ارتكابه من أخطاء، وإذا كانت محاكم العدالة الانتقاليّة ستحاسب كبار المجرمين فقط، فهناك عشرات الألوف الذين يحتاجون إلى الإقرار والاعتراف بما سبّبوه من أذيّة لغيرهم، وهذا الاعتراف، له العديد من الفوائد، أوّلها هو إيقاف ادّعاء الصواب فيما قام به المذنب، وإيقاف التمادي في الخطأ، ومنها تطييب نفوس الذين آذتهم الأخطاء المرتكبة، ومنها التخفيف من عمليّات الثأر والانتقام، التي قد تستمرّ سنوات أو عقوداً، حتّى بعد بداية عهد جديد، ومنها فتح الطريق لتكريم وتعويض المجنيّ عليهم…
الدول التي جرت فيها نزاعات داخليّة كلّها، بدأت مراحلها الجديدة بالاعتراف والاعتذار، حيث لا تتصوّر بدايات حقيقيّة من غيرهما.
لفلفة الأمور، وطمس معالم مرحلة من أقسى المراحل التي يمكن لبشر أن يمرّ بها، لن تسهم في المسح على الجراح، ولن تساعد في المضيّ نحو العافية والشفاء.
8- مارس النظام الأسديّ، بدعم من حزب البعث، سياسات الإقصاء والتهميش للمعارضين، ولم يكن العقاب الظالم ليقتصر على من يجهر بسياسات أو آراء معارضة، وإنّما يتعدّاه إلى أهل بيته وأقربائه، وأحياناً الأصدقاء والمعارف والزوّار (قانون 49 القاضي بإعدام كلّ من ينتسب للإخوان المسلمين أحد الشواهد) كما أنّ النظام ترك القوّة الخشنة بأيدي طائفته وحكراً عليها، وجعل الهيمنة لها على مفاصل الدولة كلّها ومؤسّساتها، وهكذا لم يكن الإقصاء على الصعيد الرسميّ أو الاجتماعيّ فقط، وإنّما امتدّ إلى جميع جوانب الحياة على ما يعرفه جميع السوريّين، وبما أنّ الثورة انفجرت لقطع كلّ الأوضاع البائسة التي أوجدها النظام المجرم، فإنّ السّوريّين يحتاجون إلى ثقافة جديدة بديلة عن ثقافة التخوين والتهميش والتحيّز، ثقافة تقوم على التفهّم والاندماج، والتسامح والإحسان.
إنّ لتأليف القلوب سهماً في الزكاة، وإنّ صدقة التطوّع تعطى للمسلم وغير المسلم، وقد أُمرنا بالإحسان إلى الجار، بقطع النظر عن ديانته ومعتقده وتوجّهه السياسيّ، وإنّ العمل الخيريّ يستطيع أن يعبر كلّ الانقسامات العقديّة والاجتماعيّة، لصالح الحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ المشترك، وهو أداة مجرّبة لتقريب القلوب من بعضها، ولبناء الثّقة الاجتماعيّة، ونحن في حاجة ماسّة إليه، عند إعادة بناء سوريّة التي نتطلّع إليها.
على مستوى المهمّات والمسؤوليّات والمناصب، نحن نحتاج حتّى نتخلّص من الإقصاء، إلى اعتماد معياري الكفاءة والأمانة، على حدّ قول ابنة شعيب: ((يا أبتِ استأجره إنّ خير من استأجرتَ القويُّ الأمينُ)) (1) القصص 26.
نعم سمتان فقط: الكفاءة والقدرة على القيام بمهمّات المنصب، وإنجاح العمل، ونظافة اليد واستقامة السيرة الماليّة.
أمّا السلوك الشخصيّ لمن يلي منصباً من المناصب، فلا شكّ في أنّ الجميع يفضّلون الأشخاص الأكثر نقاء، والأكثر تمثيلاً للقيم العليا التي نؤمن بها، لكنّنا لن نحصل على هذا في كلّ وقت، ولهذا فلا بدّ من غضّ الطرف عن السلوك الشخصيّ للمسؤول، ما دام في إطار القانون، فسوريّة بلد متنوّع ولا بدّ لتنوّعه من أن يظهر في سلوك أبنائه.
نحن ننادي بوحدة سوريّة، ولكن هذه الوحدة، تظلّ باهتة وهشّة من غير وحدة شعبها، ووحدةُ شعبها تحتاج إلى جهود مضنية من أجل إرساء ثقافة معايشة جديدة.
9- نحن نشهد اليوم ظروفاً في منتهى القسوة، حيث إنّ دخول الطيران الروسيّ في الصراع المسلّح مع النظام، قد قلب المعادلات كلّها، فهو يكسر ظهر المقاتلين عن طريق قصف عنيف لهم، ولأهلهم من المدنيّين، وللبنى التحتيّة أيضاً، وعلى رأسها المدارس والمشافي، إنّ هذا الذي جرى ويجري قد جعل رقعة الأرض التي يسيطر عليها الثوّار تنكمش إلى حدّ بعيد، وقد أخذ اليأس يدبّ في قلوب الجميع…
في حال كهذه، حيث التراجع على الصعيد العسكريّ، ينفتح أفق العمل السياسيّ والإعلاميّ والحقوقيّ من جديد، وهذا يتطلّب الانتقال من حال الشرذمة على مستوى القيادة السياسيّة والفصائل العسكريّة، إلى وضعيّة التوحّد والتعاضد.
قد يكون ما نحتاجه اليوم عاجلاً هو (مرجعيّة سياسيّة) تتكوّن من 40 إلى 50 شخصاً من القيادات الثوريّة، وإنّ واجب هذه المرجعيّة هو أوّلاً الحفاظ على مبادئ الثورة وأهدافها من الانتهاك الذي تتعرّض له عبر مسارات الأستانة وجنيف، وعبر المصالحات التي تتمّ في مناطق التصعيد، كما أنّ على المرجعيّة السياسيّة تمثيل الثورة في المحافل الدوليّة، وإعادة الثقة للناس، بإمكانيّة النصر والتحرّر، وهناك في الحقيقة مطالبات كثيرة بهذا لكنّ المشكل دائماً في المبادرة، وفي من يعلّق الجرس!.
إنّ في إمكان المجلس الإسلاميّ السوريّ – وهو مجلس وطنيّ ثوريّ أيضاً- مع بعض الشخصيّات المرموقة من المعارضة، إطلاق مبادرة لتشكيل تلك المرجعيّة، وإمكانيّة النجاح متوفّرة، إذا ما تمّ أخذ الملاحظات التي أشرت إليها بعين الاعتبار.
إنّ علينا أن ننظر إلى مرحلتنا هذه على أنّها مرحلة للعطاء غير المشروط، كما أنّ علينا أن نكفّ عن النظر إلى سوريّة المستقبل على أنّها (غنيمة) كلّ طيف ومكوّن يريد الاستحواذ على أكبر قدر منها.
إنّ الوصول إلى حالة وطنيّة نصف مُرضيّة، أقلّ ضرراً من التشرّد في الأرض، من غير وطن ولا هويّة، لكنّنا مع هذا نصرّ على أنّ سقوط النظام القاتل يشكّل البداية لكلّ تحوّل إصلاحيّ في سوريّة الحرّة المزدهرة.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.