محمد إلهامي يكتب: العنصرية التركية

يزداد الحديث عن العنصرية التي تزداد في تركيا الآن ضد العرب والمهاجرين، لا سيما السوريين!

المشكلة في تركيا مركّبة، فهي ليست مجرد عنصرية كتلك التي تظهر في الشعوب البيضاء ضد السود مثلا، إنها حالة تتضافر فيها عدة اتجاهات..

أولا:
كل فكرة وطنية هي بالضرورة فكرة عنصرية، فكل خطاب وطني لا بد وأن يُنتج أناسا يرون أنفسهم متميزين عن باقي البشر، ويزداد هذا بطبيعة الحال في البلاد التي لها تاريخ طويل، مثل مصر وتركيا، لأن التاريخ يمدّ الخطاب الوطني بمادة غزيرة تتيح إنتاجه في صورة عنصرية.

ثانيا:
المشروع الأساسي الذي استهدفه أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحالية، هو الانفصال عن العالم الإسلامي، وإلغاء الخلافة، وبالتالي فإن عملية تكوين الخطاب الوطني في تركيا بدأ واستمر وتعزز دائما في مقابل الهوية الإسلامية، وبالتالي كانت هذه الدولة حفيَّةً دائما بكل ما يقطع الصلة مع الشعوب الإسلامية: العرب والكرد والفرس.

ثالثا:
هذا الموروث كاد أن ينتهي في السنوات الماضية التي حكم فيها أردوغان، وأردوغان نفسه استفاد من المجهود العظيم الذي بذله السابقون مثل عدنان مندريس ونجم الدين أربكان، وكان الربيع العربي والموقف السياسي التركي مجددا لخطاب المهاجرين والأنصار.. كذلك فإن الجيل الجديد من الشباب التركي كان قد خفت عندهم التأثير الصلب الشديد الذي نشأت عليه الأجيال القديمة! فلم يكن غريبا أن تجد التأفف والكراهة تجاه السوريين والمهاجرين باديةً على وجوه كبار السن أكثر مما هي عند الشباب ومتوسطي العمر.

رابعا:
يعيش عالمنا الآن، بفعل الهيمنة الفكرية والسياسية الغربية العلمانية، على فكرة الوطن المحدد بالحدود السياسية والذي تحكمه سلطة على النظام الحديث.. هذه الفكرة الوطنية يكون دور السلطة فيها ووظيفتها أن تحقق الرفاه لشعبها دون أي اعتبار أخلاقي أو إنساني متعلق بالأجانب أو بالآخرين.. فالناس في عالمنا الآن ينتظرون من السلطة تحقيق رفاهيتهم حتى لو أبيد الشعب الذي بجوارهم، فليس من دور السلطة أن يكون لها واجب أخلاقي لا تجاه الذين يبادون هناك، وبطبيعة الحال، يجب ألا تؤثر حركة الهجرة إلى بلدهم على رفاههم.. فالأوروبيون أنفسهم يتأففون ويبغضون المهاجرين من أوروبا الشرقية (وهم بيض البشرة وزرق العيون وشقر الشعر أيضا)، فالإنجليز يشعرون بالتهديد الثقافي من كثرة الذين سكنوا بلادهم من شرق أوروبا لأن الجميع صار ضمن الاتحاد الأوروبي.. والسبب: أن أولئك المهاجرين وفروا أيادي عاملة رخيصة فتسببوا في قلة الرواتب، وفي ارتفاع إيجارات المساكن، وفي ارتباك ثقافي لاختلاف العادات والتقاليد… إلخ!

خامسا:
ما يحدث هذه الأيام في تركيا شيء فوق هذا كله، إنه ليس مجرد انفعال وطني تجاه الأجانب (مع أن هذا الشعور موجود) وليس مجرد موروث أتاتوركي تجاه الآخرين (مع أن الموروث موجود) وليس هو أيضا ردة فعل طبيعية لدى الشعوب التي تستقبل المهاجرين فيتأثر بهذا اقتصادها وتركيبتها الاجتماعية (وهذا أيضا موجود)

إنه فوق هذا كله موجة معارضة سياسية وشيطنة شاملة للمهاجرين واللاجئين مثل التي جرت في مصر قبل الانقلاب العسكري.. فالإسلاميون في مصر تحولوا بفعل الخطاب الإعلامي السياسي إلى خرفان وشياطين وناس نتنة ريحتهم وحشة، مع أنهم مصريون، غير مهاجرين، لم يتسببوا في مشكلة اقتصادية واجتماعية طارئة على المجتمع!

تركيا الآن في ظل إعلام -محلي وعالمي- يخوض معركة شرسة، بل هو يراها معركة الحياة والموت، لإزالة أردوغان وتجربة العدالة والتنمية.. مثل المعركة التي شهدناها في عالمنا العربي لإزاحة الإسلاميين وتبرير قتلهم وحرقهم!

وللقارئ العربي أن يتصور،
إذا كان ممكنا للإعلام أن يشيطن طائفة من الشعب ونسيجا أصيلا فيه حتى يتصور الناس أن كل المصائب قد جاءت من الإخوان، وكل المصائب ستنتهي برحيل الإخوان.. للقارئ العربي أن يتصور إذا كان الإعلام يستطيع تمزيق شعب واحد وإشعال حرب أهلية حقيقية في الشوارع.. فكيف لمثل هذا الإعلام أن يفعل في دولة مثل تركيا؟!!

فلنستعد جميعا مشاهد شيطنة الإسلاميين لنتصور كيف يستطيع أن يكون التأثير إذا أضيف على هذا الإعلام أسباب تاريخية واقتصادية واجتماعية، واختلاف في اللغة والعادات، وتأثر اقتصادي.

صحيح أن هذه الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا ليس المهاجرون سببا فيها، (بل هم على العكس سبب في تخفيف آثارها)، ولكن في ظل القصف الإعلامي الهائل: من الذي يستطيع أن يفكر ويتدبر ويتأمل ويعقل؟!

إن المعارضة التركية وإعلامها، فوق أنها مدعومة بإعلام دولي وتمويل خارجي ضخم، تشبه تلك المعارضة المصرية التي سبقت الانقلاب العسكري، حيث كان اللا منطق واللا عقل واللا إنسانية هو المشهد المهيمن.. وكان الرجل إذا تعثر في الطريق قال: لعنك الله يا مرسي!!

فالآن،
كل مسؤول تركي محسوب على المعارضة إذا فشل، ألقى بفشله على شماعة اللاجئين: فالمواصلات مزدحمة لأن اللاجئين كثر، والضرائب كثيرة لأن اللاجئين كثر، وارتفاع الأسعار بسبب اللاجئين، ونظافة الشوارع بسبب اللاجئين، والثلوج والسيول والجفاف وحرائق الغابات بسبب اللاجئين… إلخ!!

منذ زمن وأنا أتحين كتابة هذه السطور، وأنتظر الفرصة، حتى أيقظتها في نفسي هذه الصورة..

بينما ألاعب ولدي في حديقة عامة، جاءت امرأة إفريقية ووضعت ابنتها في هذه الأرجوحة، ثم جلست.. فجاءت هذه البنت التركية، وطفقت تلاعب هذه الطفلة الإفريقية!!

وهكذا ترى الفارق بين فطرة الله وأنظمة البشر.. هذه الطفلة القريبة عهد بربها، والتي لا تزال على الفطرة الأولى، لم تر في هذه السوداء إلا طفلة مثلها وانشغلت باللعب معها، ولا يخطر ببالها أن تؤذيها أو تطردها أو تشعر أنها تضايقها في ملعبها!

وأما البشر فقد اخترعوا أنظمة وأفكار وقوانين تجعل نفس هذين البنتين، بعد سنوات، أعداء يتربص الواحد منهما بالآخر!!

وثمة تأكيد يجب تكراره:
كثير من الأتراك هنا لا زالوا على أخوة الإسلام الأولى، بل حتى كثير من العلمانيين الأتراك أنفسهم لا زالوا يحتفظون بآداب التعامل السلوكي الراقية، وأنا واحد ممن عاش في تركيا سنينا ولم يتعرض إلا للقليل من المواقف العنصرية، فالظاهرة وإن كانت موجودة وتزداد، إلا أنها لم تبلغ ما يصوره بعض الناس من أن الحياة في تركيا صارت خطرا على اللاجئين.

محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
المصدر جريدة الأمة

شاهد أيضاً

ثورة في الجامعات الأميركية

طلاب جامعة كولومبيا بأميركا يتظاهرون احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة