صعود اليمين غربا وشرقا.. لماذا أصبح العداء للإسلام تيارا عالميا؟

سامح عودة

في العاشر من سبتمبر/أيلول 2010، ترأست نائبة البرلمان الأوروبي -آنذاك- “ماري لوبين” اجتماعا عموميا لحزب الجبهة الوطنية بمدينة ليون، في إطار الحملة الانتخابية الداخلية للحزب، والتي أسفرت عن فوزها برئاسته، لتواجه الجميع بعملية إغراء إعلامي من خلال خطابها الذي تحدّث عن الحرب العالمية الثانية، ثم خرجت منها إلى مقارنة عجيبة بين الصلوات التي يؤديها المسلمون في بعض شوارع باريس وبين الاحتلال العسكري الذي خضعت له فرنسا إبان الحرب.

في كلمتها مثيرة الجدل، قالت “لوبين” إن ثمة أماكن يرتادها بصفة منتظمة عدد من الأشخاص “لاحتكار الأماكن العامة”، وهو ما وصفته “باحتلال لأجزاء من الملك العمومي ولأحياء يُطبّق فيها القانون الديني، ومع أنه لا توجد مدرعات أو جنود فإن الأمر يتعلق باحتلال”[1]. وهو ما علّق عليه عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي “جون بوبيرو” بأنه انتقاء ذكي للكلمات بقصد الإيحاء بأن أجزاء كاملة من التراب الفرنسي قد انتُزِعت من الجمهورية[2].

هذا الانتقاء هو ما كفل لـ “لوبين” أداء مهمتها المستحيلة في الاتزان بين التوجه الوسطي الذي تطلبه الزعامة ورغبتها التنافسية في الفوز على منافسها، فلجأت إلى قناع العلمانية كما رأى “بوبيرو” الذي يرى أيضا أن العلمانية هي الكلمة السحرية التي تحجب المظهر المخزي للآراء المُتبنّاة، خاصة حين تُقرَن بكلمة الطائفية. وبالفعل، فقد امتد هذا النقاش الدائر بمؤتمر ليون إلى سؤال اختزالي للرأي العام الفرنسي: “ألا يتعيّن باسم العلمانية إدانة الصلوات في الشارع؟”[3].

في هذا السياق، يمكننا ملاحظة الصعود السريع لليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة، وعلاقة ذلك بالخطاب الشعبوي لتعبئة الجماهير خلف بعض القضايا؛ على رأسها الإسلاموفوبيا -أو رهاب الإسلام- وانتقاد ظاهرة الهجرة. فوفقا لـ “رابح زغوني”[4]، فإن أحزاب اليمين المتطرف -كنسق فكري موحد- تسعى من خلال برنامجها المعادي للهجرة والمهاجرين إلى خطاب يحد من الهجرة وخطر المهاجرين، بحيث تُصوِّر المهاجرين كأهم تهديد للهوية الإثنو-وطنية والبطالة والجريمة في أوروبا. فما أسباب صعود هذا اليمين، وهل تُعبِّر العلمانية عن موقف متسق لها مع الإسلام والثقافات المختلفة، أم هي محض قناع للموازنة -كما فعلت “لوبين”- بين الصورة المُصدَّرة والحقيقة المُضمَرة؟

ما بين العديد من التحليلات، يُرجِع البعض تفسير قصة الصعود اليميني في أوروبا إلى عدد من التحولات التي ساهمت في انخفاض شعبية اليسار واليمين التقليدي؛ ليأتي ازدهار اليمين المتطرف كونه رد فعل عقابيا من الجماهير أكثر منه اقتناعا ببرامج اليمين المتطرف، فيما يُصطَلَح عليه بالتصويت الاحتجاجي[5]، والذي عبّر، وفقا لـ “كريستيان فوس”[6]، عن اتساع دائرة السخط حول سياسات اليمين واليسار خاصة، ما أدّى إلى تشتت الولاء التقليدي للأحزاب ومن ثم إلى تغيير قواعد الانتخاب الاعتيادية لدى الناخبين.

أول هذه التحولات، فيما يبدو، يتعلّق بالمدخل الاقتصادي، فوفقا لـ “زغوني” فإن العديد من الأبحاث قد ركّزت منذ ستينيات القرن الماضي على دراسة تأثير التغيير الاقتصادي والاجتماعي على القيم والتوجهات لدى الناخبين، وهو ما نلاحظه في نموذج “الثورة الهادئة العكسية” لدى “بييرو إغنازي” الذي فسّر صعود اليمين المتطرف بسبب خطابه الذي استطاع ملامسة طبقة عريضة من الشعوب لم تجد ضالّتها في خطابات اليمين أو اليسار التقليدية.

تلك الطبقة هي التي لم تستطع التكيُّف مع تحولات الاقتصاد المعولم الذي لا يعترف بالجنسيات ولا الانتماءات، أو هم ضحايا الحداثة بتعبير آخر، حيث وجدوا أنفسهم “في وضعية مهمشة مع تزايد نِسَب البطالة”؛ “لذا فإن تزايد تدفق المهاجرين واستقبال طالبي اللجوء من دول العالم الثالث أساسا نحو أوروبا أحيا لدى هذه الفئة مفاهيم العنصرية وكُره الأجانب”.

الأمر الذي خلق بدوره “بيئة ملائمة للقوى السياسية المتطرفة وظهور قادة متطرفين بشعبيات متزايدة”[7]، وأنتج -كما سبق بيانه- نمطا من التصويت العقابي، تعبيرا عن حالة السخط من القوى السياسية التقليدية أكثر من كونها قناعة ببرامج اليمين المتطرف، وهو ما ترجمته نتيجة الانتخابات الفرنسية؛ حيث حققت “ماري لوبان” أفضل نتيجة في تاريخ اليمين المتطرف بتأهُّلها للدورة الثانية من الانتخابات، ثم حصولها على نسبة 33% من مجمل الأصوات؛ أي إن نحو 10 ملايين مصوّت كانوا يرون في خطابها المتطرف غاية أملهم، وهو ما حقّقه الناخبون في الولايات المتحدة بالفعل حين فاز “دونالد ترامب” بمقعده الرئاسي.

يتضح من هذا أن مدخلا ثقافيا وحضاريا يقف -هو الآخر- خلف هذا الصعود الملحوظ لليمين المتطرف، وهو ما يتلاقى بشكل كبير مع توجهات ومشاعر جماهير الناخبين، بالتضامن مع المداخل الاقتصادية والسياسية، والذي أخذ في الانتشار بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول بخلق حالة من السخط تجاه الآخر -المسلمين والعرب بشكل خاص-، الأمر الذي أجاد اليمين المتطرف استغلاله بخطابات شعبوية لا تحمل برامج عمل محددة، ولكنها تستغل مواضيع كالخطر الإسلامي وتهديد قيم الحياة الغربية وعبء المهاجرين، إلخ.

ذلك التكيُّف المرن مع المتغيرات الثقافية والسياسية هو ما حرّر اليمين الأقصى من الخطابات التقليدية وهيّأه لتبنّي خطاب يرتكز على القومية والإثنية والوحدة الثقافية للأمة وتقاليدها الوطنية ضد خطر الأغراب. هذا الخطاب الذي “التقى مع مطلب مجتمعي واسع، فجاءت النتيجة في شكل تصويت مكافئ من المواطن الأوروبي لليمين المتطرف الذي استطاع تخفيض الخوف والقلق لدى الأفراد من خطر المهاجرين”[8]، فكيف صار الواقع السياسي والخطابي تجاه هؤلاء المهاجرين؟

لو جاز تقسيم التعامل الغربي مع الآخر، المسلمين والمهاجرين العرب على وجه الخصوص، وأردنا وضع تاريخ/حدث فيصلي لهذا التقسيم، لكان -حسب الكثير- الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وأحداثه الشهيرة بتفجير برجَيْ التجارة بالولايات المتحدة، وما تبع ذلك من “الممارسات العنصرية ضد المسلمين، التي أتبعها ما سُمّي بالحرب على الإرهاب، والتي رآها البعض حربا على الإسلام والمسلمين باسم الإرهاب، مستهدفة بالدرجة الأولى الجالية المسلمة في الدول الغربية التي لجأت إليها بغية إيجاد الأمن” تحت تأثير شعارات الحرية والمساواة، “إلا أنها اصطدمت بواقع مغاير ينظر إليها على أنها مصدر تهديد لوحدة الدولة وأمنها”[9].

الأمر الذي يمكن إدراجه -حسب البعض- لصدام الحضارات الذي تناوله الأميركي “صامويل هنتنجتون” في كتاب يحمل الاسم نفسه، والذي أحدث من الصدى في أوروبا أكثر مما أحدثه في الولايات المتحدة نفسها؛ نظرا “للمخاوف والهلع الذي تعيشه أوروبا جرّاء تفشي ظاهرة صدام الثقافات داخل الحدود الأوروبية بين الإسلام والغرب”، وهو ما اعتبره المراقبون “تمهيدا لصدام الحضارات الأوسع المتوقع في القرن الحادي والعشرين على طول الحدود بين الغرب والإسلام”[10].

وبالنظر إلى عدد من الأحداث التي ذاع صيتها في القرن الحالي، سنجد أن هذا الصدام قد تشكَّل بالفعل وأخذ شكلا حادا وعنيفا من الممارسات العنصرية، كالرسوم المسيئة للرسول محمد، وقضايا تجريم الحجاب في فرنسا، ومسألة حظر المآذن في سويسرا، ودعوات الحد من الهجرة في ألمانيا، إلخ، وهو ما يمكن ملاحظته بالفعل في بعض التصريحات والشعارات لأحزاب أقصى اليمين الأوروبي[10].

أبرز هذه الشعارات ما نجده عند الحزب النمساوي اليميني الشعبي الذي وصف الإسلام بأنه العدو الأول للأمة النمساوية وأوروبا والعالم أجمع، وكذلك نظيره الدنماركي الذي حذّر الجماهير أثناء حملته الانتخابية من خطر الإسلام على الحضارة الغربية بوجه عام، وعلى رأس الجميع يأتي حزب الجبهة الوطنية الفرنسية الذي اتخذ من الإسلاموفوبيا منهجا دعائيا في حملته الانتخابية 2017 على يد “ماري لوبان”[11].

مارين لوبان (رويترز)
كذا نجد في عدد من التصريحات الفردية للساسة والمسؤولين اليمينيين الأمر ذاته، كتصريح “أومبرثو بوسي” زعيم حزب ليقانورد الإيطالي الذي وصف الإسلام بأنه أكبر تهديد للثقافة الأوروبية، وهو ما تكرّر في قول “خيرت فلدرس” زعيم حزب الشعب الهولندي الذي قارن الإسلام بالفاشية واعتبر المسلمين متخلفين يجب منعهم من الهجرة إلى بلاده[12]، تماما كـ “ثيلو سارازين” ممثل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني الذي اعتبر المهاجرين المسلمين سببا في إفقار بلاده وجعل مواطنيها أكثر غباء لأنهم أقل ذكاء -جينيا- من الألمان[13]، وهو ما أفرز حالة من العداء الحاد بين هذا اليمين المتطرف في دول ترعاها العلمانية ودعاوى الحريات تجاه المهاجرين الذين لم يطمحوا في أكثر من الحرية في ممارسة معتقداتهم.

تمتلك المفاهيم -دائما- حقيقتين: حقيقة الاصطلاح، وحقيقة المعنى المُمارس في الواقع، وبقدر اتفاق الحقيقتين يتسق المصطلح مع المعنى الذي يُعبِّر عنه، والعكس صحيح. في هذا السياق نجد الكاتب والباحث “طبيبي غماري”[14] يتعامل مع الإسلاموفوبيا كمصطلح زائف لظاهرة حقيقية. فعلى المستوى النظري، يرى الباحثون أن الإسلاموفوبيا هي “مجموعة من المخاوف والأحكام السابقة تجاه الإسلام والمسلمين والمسائل المرتبطة بهما”[15].

هذه المخاوف قد تصل في كثير من الأحيان إلى سلوكيات عدوانية عنيفة، سواء كانت فعلية كحالات الاضطهاد والاعتداءات الجسدية، أو رمزية كالتصريحات السابق ذكرها على ألسنة قادة اليمين المتطرف. غير أن “غماري” يرى أن مصطلح “الإسلاموفوبيا” لا يُعبِّر عن هذه الحقيقة بالشكل الصحيح، وإنما -في الواقع- يُجمِّلها دون أن يَصِمَها بالعار، مما دفع البعض، كالمفكر “عمر أورهون”، لاستعمال الإسلاموفوبيا تعبيرا عن “اللا تسامح والتمييز العنصري ضد المسلمين والإسلام”[16].

ولأن المفهوم -بشكل عام- يعتبر “شحنة أيديولوجية وُضِعت لخدمة الجهة التي تسعى إلى بنائه ونشره”، فإن كلمة “فوبيا” هنا توحي بالخوف المرضي المُعبِّر عن حالة مرضية “باثولوجية”، مما يُحرِّر -بصورة ما- المعتدي من إثم اعتدائه؛ إذ إن السلوك الإسلاموفوبي “يُفترض أن يوجد فيه طرفان: الضحية، والجاني”، وفي حالتنا هنا يتحوّل الجاني “إلى ضحية لا تقوم إلا بالدفاع عن نفسها ومجتمعها وحضارتها”[17].

بينما في حال مفهوم آخر، ذائع الصيت، وهو “معاداة السامية”، فإن “غماري” يرى أن الجاني في هذا المفهوم مستقل بجنايته، فالمفهوم يُحدِّد الجاني كمجرم لأنه يصفه بالعدو، في حين أن المعنى كان ليتشوّش إذا كان المصطلح هو “ساموفوبيا”، الأمر الذي دفع “غماري” للقول إن استعمال مصطلح الإسلاموفوبيا مع معاناة المسلمين من الممارسات العنصرية وخطاب الكراهية يُمثِّل عملية تشويش على المعنى يحمي الجاني ويُبرِّر فعلته.

في ظل مفهوم كهذا، يمكننا فهم الموجة التصاعدية للاعتداءات الفعلية من المواطنين ضد المسلمين والعرب، المدفوعة بخطاب سياسي يمارس هذا الاعتداء رمزيا، ولعل أشهر هذه الاعتداءات هي حادثة “كرايست تشيرش” بنيوزيلندا، “والتي قتل خلالها إرهابي يميني متطرف خمسين شخصا في مسجدين بالمدينة خلال صلاة الجمعة”[18]، الأمر الذي علّقت عليه “نيويورك تايمز” بأنه أحدث دليل على تنامي أيديولوجية اليمين المتطرف في الغرب، وأن كل مَن ساعد على ترويج ونشر أسطورة أن المسلمين يُمثِّلون تهديدا عالميا فإن أيديهم ملطخة بالدماء، على حسب تعبيرها[19].

كذلك، حذّرت مجلة “فورين بوليسي” من أن العداء للإسلام صار تيارا عالميا، مع صعود اليمين في الغرب، مشيرة إلى أنه في ظل تلك الحقيقة فإن هجوم نيوزيلندا يمكن أن يتكرّر في أماكن أخرى، ووفقا لتقرير أعدّته “بي بي سي” العربية، فإن خطاب اليمين نفسه، في العديد من الدول الغربية، يُبرِّر عداءه للمسلمين والمهاجرين باتهامات لهم بالسعي إلى تغيير ثقافة البلدان الغربية التي يقدمون إليها.

هذا بجانب الحديث عن انغلاق معظم المجتمعات الإسلامية على نفسها وعدم الاندماج، وهو ما رد عليه -حسب التقرير- ناشطون إسلاميون بأن الجاليات المسلمة في الدول الغربية تعمل كل ما بوسعها من أجل الاندماج، لكن الحقيقة وفقا لهم -كما ذكر التقرير- هي أنها لا تلقى ترحيبا، سواء من قِبل المؤسسات أو الجماعات السياسية[20]. فهل يحمل المستقبل القريب حالة من الهدوء للأقليات المسلمة، أم أن صعود اليمين المتطرف سيواصل مسيرته بعنفه الرمزي وآثاره في الجماهير؟

_________________________________________-

المصادر
جون بيبيرو، العلمانية الزائفة.
المصدر نفسه.
المصدر نفسه.
رابح زغوني، صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. تعبير عن عداء سياسي أم مجتمعي للإسلام؟
المصدر نفسه.
Kristian Voss, Op.Cit.,p. 8.
رابح زغوني، صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. تعبير عن عداء سياسي أم مجتمعي للإسلام؟
المصدر نفسه.
بلخير آسيا، قضية الحجاب في فرنسا بين حماية العلمانية وتقنين الإسلاموفوبيا.
كربوسة عمراني، الإسلاموفوبيا في أوروبا: بين إرث الماضي وتحدي الراهن.
المصدر نفسه.
Threat of the far right in Europe
Are Muslim immigrants making Europe? poorer and stupider
طبيبي غماري، الإسلاموفوبيا.. مصطلح زائف لظاهرة حقيقية.
المصدر نفسه.
Council of Europe, Introduction: Questions about the Question.
Omur Orhun, Intolerance and discrimination against Muslims.
بي بي سي، هل ساهم صعود أحزاب اليمين الشعبوي في الغرب في تغذية “الإسلاموفوبيا”؟
نيويورك تايمز في رسالة الى ترامب: مروّجو العداء للمسلمين أيديهم ملطخة بالدماء.
بي بي سي، هل ساهم صعود أحزاب اليمين الشعبوي في الغرب في تغذية “الإسلاموفوبيا”؟

المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.