التطبيع الذي نحن بحاجة إليه

سفيان أبوزيد

التطبيع مصدر لفعل طبَّع، وهو جعل الشيء طبيعيا أو إرجاعه إلى طبيعته..

وهناك فرق وتفاوت أولوي بين العمليتين، فإرجاع الشيء إلى طبيعته عملية مقبولة وواجبة وموضوعية لا إشكال فيها ولا غبار عليها، إلا إذا كان في تغيير طبيعة الشيء وتطويره مصلحة او فائدة مرجوة، وهذا يحتاج إلى نظر وتأمل وترجيح رغم أن ذلك التغيير قد لا يخرجه عن طبيعته الأصلية وحقيقته الأولى..

أما العملية الثانية فهي جعل الشيء طبيعيا، بعمنى أنه لم يكن طبيعيا من قبل فهو إخراج له عن طبيعته الأصلية إلى طبيعة أخرى، إما حقيقة أو اعتبارا، وهذه العملية استثنائية وخروج عن الأصل، وإقرار بعدم طبيعتها، وإنما هي تدخل ودفع وتجاوز لطبيعتها ونقل لها إلى طبيعة أخرى، والطبع يغلب التطبع في الغالب!!

فإذا قارنا بين العمليتين وجدنا أن في الأولى من الأولوية والأحروية ما فيها، فنحن بحاجة إلى إرجاع الشيء إلى طبيعته أولى من جعل شيء آخر طبيعيا، ولا يقبل عقلا ومنطقا أن تكون لك قطيعة مع أشياء طبيعية فتتجاوزها، وتريد أن تجعل أمورا أخرى غير طبيعية طبيعية..

فإرجاع الطبيعي إلى طبيعته أولى وأحرى من تطبيع الغير.
وفي العملية الأولى من المنطقية ما ليس في العملية الثانية، فإرجاع الشيء إلى طبيعته موافق للعقل والعرف وهو الأصل، أما تطبيع غير الطبيعي فهو استثناء وخروج ويدعو إلى التساؤل والاعتراض والإقناع..

وفي العلمية الثانية من المغامرة والمجازفة ما ليس في العملية الأولى، فإعادة الشيء إلى طبيعته حركة طبيعية وآمنة وتدعم الاستقرار والاستمرار، أما جعل غير الطبيعي طبيعيا مغامرة غير محسوبة المآل والعواقب والآثار..

وإذا تأملنا تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وجدناه ينتمي إلى العملية الثانية وهي جعل غير الطبيعي طبيعيا، من جهات عدة وإن أريد أن يجعل له أصل وهمي يقال بأنه تم العودة إليه، إلا أن ذلك وهم في وهم..

فهو غير طبيعي من حيث وجود الكيان: فهو كيان غصب محتل متسلط لا أصل له لا عرفا ولا تاريخا ولا قانونا، فإما أن نقر بعدم طبيعيته أو أنه تطبيع بالقوة والإرهاب والعنف والاستعلاء وهذه حالة لا ولن تجعله طبيعيا مهما توغلت وطالت واستفحلت..

وهو غير طبيعي من حيث الاعتراف: فأهل الأرض هم من يقرر ويقر بهذا الاعتراف وليس غيرهم، والتاريخ المعاصر للقضية الفلسطينية يؤكد بما لا يجعل للشك منفدا أن هناك إجماعا متوارثا متواترا على نبذ وإنكار ذلك الكيان الغصب، ولا عبرة بالجهات المرتزقة والكيانات العميلة والظروف والأحوال القاسية المفتعلة التي قد تدفع أشخاصا إلى النطق والتصريح بغير القناعة..

وهو غير طبيعي من حيث التاريخ: فالحقائق التاريخية التي قد يطول ذكرها هنا في هذه العجالة تثبت يقينا ألا حق لهذا الكيان بهذه الطريقة والأسلوب أن يكون في تلك الأرض المقدسة..

وهو غير طبيعي من حيث النظام: فالعالم بأكمله اليوم يمضي في مسار الدول المدنية والأنظمة الديمقراطية البعيدة عن أي إيديولوجية، بل العالم يحارب أي كيان قام على ذلك وما الحملة العالمية على داعش ببعيدة عنا، وهذا الكيان يصر على مخالفة كل ذلك، ويؤكد على عنصريته ويهوديته وغطرسته، ومن ورائه دول تدعي المدنية والديمقراطية ومحاربة الإرهاب الديني!!

إذن فهو غير طبيعي من جميع الجوانب والنواحي، فجعله طبيعيا ظلم واعتداء وتجاوز، ولا يمكن للظلم أن يكون عدلا، ولا يمكن الجمع بين ظلم وعدل في آن واحد، ولا يمكن إقامة عدل بظلم لا عقلا ولا شرعا ولا قانونا..وأي محاولة لهذا الجمع أو تلك الإقامة هي مجرد وهم أو خيانة أو جهل أو تجاهل..

إذن فالتطبيع مع الكيان الصهيوني هو من قسم جعل غير الطبيعي طبيعيا، وهو مغامرة ومجازفة وظلم واعتداء ومغالطة وعملية محسومة الآثار الوخيمة خاصة وأن لنا نماذج ممن سبقونا في هذه المغامرة والمجازفة والخيانة..
ولا يمكن أن يكون هذا التطبيع من باب إرجاع الشيء إلى طبيعته بحال من الأحوال..

ومن هنا لابد أن نشير إلى أهم الأمور الطبيعية التي نحن بأمس الحاجة إلى إعادتها إلى طبيعتها:
فنحن بحاجة إلى:

التطبيع مع هويتنا الدينية والثقافية والقيمية واللغوية والذوقية، ودعم كل حركات ومحاولات هذا التطبيع ماديا ومعنويا، والدفع إلى تطويرها وإزالة الشوائب عنها، ومنعها من التطرف او الزيغ، وصيانتها من أي اختراق او تهزيل أو تدمير، وبعثها وتجديدها وتجميلها والترغيب فيها، وكل كلمة من هذه الكلمات تحتاح إلى مؤسسات وكيانات وانظمة واجتهادات لقيامها واستمرارها والحرص عليها والثبات عليها، وهذا ممكن متاح غير ممنوع ولا محظور خاصة على المستوى الشعبي والمدني، قد نختلف في الاتجاهات والفروع والاولويات ولكن هويتنا تجمعنا، وثقافتنا توحدنا، ولغتها جسر تواصلنا..
هذا هو التطبيع الذي نحن بحاجة إليه..

التطبيع بيننا: كأفراد وجماعات دينية او فكرية أو سياسية أو إعلامية أو دول او منظمات أو هيئات، فما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، ويجعل السدود والموانع بيننا..فليس الإشكال في تحرير الأوطان والمقدسات، فذاك قريب ممكن لا محالة وفي الأمة رجال صدقوا ما عاهدوا الله على ذلك، ولكن ما بعد التحرير، هل فينا من اللحمة والوعي والتطبيع ما يجعلنا قادرين على تحمل المسؤولية والحفاظ على المكتسبات، والاستمرار في مسيرة التحرير والبناء!؟

نحن بحاجة إلى تطبيع العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فيما بيننا حتى نستطيع مواجهة أي اختراق أو تطبيع وهمي او تسلل او خيانة، فلابد من ثورة تطبيعية لإعادة هذه العلاقات وتقويتها وتمتينها وإزالة شوائبها وتطويرها وبعث الشعور بضرورتها، فما حدث من هرولة تجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني أبان صراحة على مدى ترهل وضعف وانعدام وتبخيس ما ينبغي ان نطبعه ونهتم بتطبيعه حقيقة..

التطبيع مع أسباب نهضتنا: لا شك ولا ريب أننا نعيش في غياهب التخلف التي تظهر عيانا على سياساتنا وتديننا وسلوكنا أفرادا وجماعات، ولا تطهر ولا مفر ولا خروج من تلك المستنقعات، إلا بالتطبيع مع اسباب النهضة الحقيقية تعلما وتعليما وإشاعة وتخطيطا وتوجها ودعما وترسيخا ومحاولة ونبذ كل دواعي ودوافع التخلف على جميع المستويات الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، فإن بقينا مستسلمين أو مستنكرين شاجبين مع عودتنا وركوننا إلى سراديب التخلف فلا ولن تقوم لنا قائمة، وستبقى وعود عودتنا وانتصارنا مجرد أحلام أو دغدغات أومخدرات تخرجنا وتنسينا واقعنا المتخلف..

فنحن بحاجة أولية أحروية إلى إرجاع الطبيعي إلى طبيعته، أما غير الطبيعي فلا يمكن ان يصير طبيعيا، وأي تطبيع له فهو مجازفة ومغامرة وتزييف..

شاهد أيضاً

ثورة في الجامعات الأميركية

طلاب جامعة كولومبيا بأميركا يتظاهرون احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة